برلين – محمد هاشم عبد السلام

بعد ابتعاده عن السينما ثمانية أعوام، أنجز الألماني توم توكفار (1965) فيلماً جديداً، عنوانه بسيط ومختصر ومُكثّف للغاية: “ضوء”. لكنّ العنوان الخادع يحمل معانيَ وإحالات وتضمينات كثيرة، قَصَد أنْ تصف حالات ومشاعر معاصرة، اجتماعية ونفسية واقتصادية، وروحية أساساً، إلى درجة أثقلت على بساطة العنوان.

يرسم توكفار صورة للعالم المعاصر، بل لما شهدته وتشهده ألمانيا والمجتمع الألماني تحديداً من تغيّرات وتحوّلات عاصفة، تُهدّد الكيان الاجتماعي والنسيج الأسري، وفقاً لأسلوبه المهتم بالشكل والاشتغال الفني غير التقليدي، وإنْ أدّى هذا الاهتمام إلى تراجع المضمون إلى الخلفية، أو تخلّله قصوراً أو ضعفاً أو إطالة، وإلى مفارقة الواقع، والشطح صوب عوالم وخيالات مفارقة للمعهود، أو تركيبة ربما لا تتّسق مفرداتها، فتنصهر معاً خالقةً نسيجها المتجانس والمتناغم والمُقنع.

انطلاقاً من هذا، لا يحيد مخرج “العطر: قصة قاتل” (2006) عن آخر روائي طويل له “هولوغرام للملك” (2016): عوالم الفانتازيا والخيالات الجامحة والسفر، وحضور المغامرات الشخصية، والتعرّف على الذات أو اكتشافها. وأيضاً ما يخصّ الثقافات والشعوب واللغات المغايرة. كما تحضر الرغبة في العصرية والتجريب والتواصل، وأحدث صيحات التكنولوجيا، وتوظيف هذا في سياق الدراما، وإنْ ابتعد كثيراً عن الفنّيات السينمائية الصرفة، ولجأ إلى أحدث وسائل التكنولوجيا، موظّفاً برامج الكمبيوتر والخداع في تنفيذ المشاهد.

يتجلّى هذا في “ضوء”، الذي افتتح الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/ شباط 2025) لـ”مهرجان برلين السينمائي (برليناله)“، بنحو مغاير قليلاً، ومن دون إسراف ومبالغة في الاستعانة بالتكنولوجيا والكمبيوتر في تنفيذ مشاهد كثيرة. وأيضاً، في حضور بطلين من كينيا وسورية، ما يستدعي الحضور القوي للمملكة العربية السعودية، والثقافة العربية، والأجواء الخليجية الصرفة في “هولوغرام للملك”. تناول هذا في “ضوء” يحمل معاني ضمنية عميقة وجدية، يحاول توكفار لفت الانتباه إليها، لا سيما بجعلها نموذج مقارنة في فيلم يضرب بقوة وعمق في صميم انتقاد الثقافة والمجتمع الألمانيّين المعاصرين.

في السيناريو (توكفار)، حاول نسج خيوط حبكته بجدية وعمق كبيرين. يكسب الفيلم ثقلاً فكرياً وفلسفياً وتحليلياً وفنياً، لا يخلو من الغناء، وبعض الاستعراضات الراقصة، وتغليف هذا كلّه بما يدين كُلّ ماديّ ونفعيّ ودنيوي وحسّي، وإنْ أغرق هذا الفيلمَ في قالب لم يرتقِ إلى الرؤية الروحية المُرادة، ولم يصب هدفه بقوة وعمق مؤثّرين. فالهدف اتّضح منذ الدقائق الأولى، وتأكّد بعد استعراض تفكّك الأسرة الألمانية البورجوازية، التي أدخلنا توكفار إلى عوالمها في 162 دقيقة.

رغم قدرة التخمين المسبق لمجريات الأحداث، ولخيوط الحبكة، ولإحالات توكفار وأهدافه، قدَّم الشخصيات وعوالمها، كلّ على حدة، والتداخل بينها، بانتقال مونتاجي كثير وسريع ومبالغ به أحياناً. قرّب الشخصيات من مشاهديها بطريقة غير تقليدية ومثيرة، من دون ملل أو تكرار.

إلى ذلك، يضطرّ المُشاهد إلى متابعة “ضوء” حتى النهاية، وإن انتابه تململ أو معرفة مسبقة، لتفسير خيوط كثيرة غامضة تتجلّى مع اللقطات النهائية، كتفسير التكرار البالغ لهطول الأمطار، والمياه عامة، من البداية إلى النهاية، ودلالات الأمر، واللقاءات الغريبة للأسرة السورية في مَشاهد تتّضح لاحقاً.

تتفسّخ الأسرة وينهار زواج دام 17 سنة بين تيم إنلز (لارس إيدينر، أداء متوسّط) وميلينا (نيكولت كريبتز، أداء رائع)، مع أولادهما فريدا (إلِكِ بيسندورفر) وجون (يوليوس غاوزا)، والابن الكيني غير الشرعي ديو (إلياس إلدريدج). تزداد وتيرة الأحداث بعد اختيار أسرة تيم المهاجرة السورية فرح (تالا الدين، أداء مقنع) للعمل لديها مدبّرة منزل، بعد وفاة المُدبّرة السابقة فجأة، بسبب سكتة قلبية، من دون أنْ يلاحظها أحد منهم، إلا لاحقاً. الاختيار الغريب لفرح لم تتضح دوافعه، ولم يلفت الانتباه كثيراً إلا لاحقاً، عندما يستثمره توكفار في الخاتمة، فيُفسّر الكثير من الغموض. وجود فرح، الهادئة والرزينة والمتماسكة والسوية نفسياً، رغم ما مرّت به من أهوال الهجرة، يساهم في ترتيب فوضى هذه العائلة البورجوازية المفكّكة، وفي تغيير نظرتها إلى أشياء كثيرة في العالم.

في “ضوء”، يؤكّد توم توكفار حاجتنا إلى الدعم والترابط والانتماء، والحوار ومعرفة الآخر، واستكشاف مكنونات الذات، وما تنطوي عليه من روحانية غائبة. أمّا مسألة طرحه عوالم الأرواح، وعلاقتنا بمن رحلوا، واتصالنا وتواصلنا معهم، إلخ، فكانت الحلقة الأضعف والأقلّ نضجاً وفنّية.