محمد هاشم عبد السلام

 

10/11/2015

 

منذ اندلاع ثورات الربيع العربي قبل بضع سنوات وهناك العديد من الأفلام التي أخذت على عاتقها مهمة مواكبة تلك الأحداث الساخنة في مختلف البلدان، وأغلب هذه الأفلام كانت تسجيلية، وقد حاولت أخرى روائية، وهي قليلة العدد نسبيًا مقارنة بالتسجيلية، على استحياء، الانغماس في الإمساك بأسبابها أو تناول أحداثها أو لحظات منها.

بالطبع، هناك تفاوت كبير جدًا في مستوى ما تم تقديمه من أفلام، سواء تسجيلية أو روائية، على امتداد السنوات السابقة وحتى اليوم. هذا التفاوت ليس عيبًا في حد ذاته، بل يكاد يكون طبيعيًا ومفهومًا ومقبولا أيضًا، لكن ما ليس مقبولا هو وقوع أغلب هذه الأفلام في نقاط ضعف مشتركة، تفاداها مؤخرًا أحد أحدث الأفلام التسجيلية التي تناولت الربيع العربي من منظور خاص. يحمل عنوان “عواصف الربيع” وهو من إخراج الأمريكية “جيني ريتيكر”.

أثناء تلك الأحداث الساخنة أو بعدها، وقع الغالبية العظمى من المبدعين السينمائيين في فخ العديد من الأخطاء القاتلة ونقاط الضعف المشتركة، ومنها على سبيل المثال، السرعة والتشوش بين فكرة وأخرى، وانتفاء التماسك البنائي أو التناغم أو الوحدة الموضوعية، إلى جانب الافتقار إلى وجود بؤرة أو خيط واضح تتركّز حوله أحداث ومشاهد الأفلام. ناهيك عن المستوى الفني الخالي من الإبداع والتجديد والابتكار، والثورية بالأساس. ومن ثم، فقد جاءت أغلب الأعمال مواكبة لهذه الأحداث المفاجئة وغير التقليدية، لكن بأساليب ومفردات جامدة وشديدة التقليدية.

ولذلك وجدنا أن هذه الأفلام، في النهاية، ليست سوى مجموعة من اللقطات المتكررة، بل والمستهلكة، ومحض تقارير إخبارية مُجمّعة، موضوعة معًا جنبًا إلى جنب لتشكل في النهاية ما يطلق عليه “فيلم”، أو هي في أحسن تقدير لا تكاد ترتقي إلى مستوى الريبورتاجات الصحفية التي تعدّها القنوات الفضائية والتليفزيونية لمواكبة الأحداث الساخنة في العالم. ربما، جزء من هذا مردّه لعامل السرعة والرغبة الحارقة في المواكبة والإنجاز، بصرف النظر عن الجودة. وربما أيضًا للاعتقاد الخاطئ بأن مجرد توفّر مادة نادرة الحجم والقيمة أو غير مستهلكة يمكن أن يصنع منها فيلمًا متميزًا بصرف النظر عن أي شيء آخر. من ناحية أخرى، ربما يكون الأمر نتاج تشبّع المخرجون بما تم بثّه على مدى شهور وسنوات طويلة أثناء تلك الأحداث أو بعدها، وبالتالي انطبعت في أذهانهم بشكل واعي أو غير واعي نفس تقنيات السرد الإخباري التقريري التي بثت بها المحطات الإخبارية مادتها.

هذا العيب يعيدنا لما ذكرناه أعلى، حيث غياب الرؤية والتخطيط والتركيز والسرعة، وقبل كل شيء مسائلة المخرج لنفسه، قبل الإقدام على خطوة الإمساك بالكاميرا والشروع في التصوير، عما يريد صناعته بالضبط وما الذي يرغب في إيصاله أو قوله. وهذا ما لا نراه، على سبيل المثال، في فيلم “ماء الفضة” للمخرج السوري المتميز أسامة محمد، حيث جودة البناء وصلابته، ووجود الرؤية والهدف المُسبق وراء صناعته للفيلم، وطموحه في الخروج من وراء كل تلك الصور المفزعة برؤية شاعرية نجح بالفعل في تقديمها. ناهيك عن معرفته التامة بما يرغب في قوله وإيصاله، وكيفية القيام بهذا على نحو فني شديد الجودة والتميز والتكثيف.

وفي هذا الصدد أيضًا، يعتبر فيلم “عواصف الربيع”، للمخرجة جيني ريتيكر، من أهم وأحدث الأفلام التسجيلية التي صُنعت مؤخرًا عن الثورة المصرية. والفيلم الذي يمتدّ زمن عرضه لساعة ونصف الساعة تقريبًا هو آخر أفلام المخرجة التسجيلية “جيني ريتيكر”، التي تتمحور معظم أفلامها بشكل أساسي حول قضايا المرأة واضطهادها ومعاناتها في ظل مختلف القوانين الجائرة بالبلدان العربية أو ما تمارسه تلك المجتمعات على المرأة بمختلف انتماءاتها وطبقاتها.

يتلافى فيلم “عواصف الربيع” تقريبًا كل العيوب التي رصدناها وتحدثنا عنها من قبل، ورأينا أنها شابت غالبية أفلام الربيع العربي. إذ يتسّم الفيلم بالعمق والحيادية من ناحية، إلى جانب التركيز، وهذا هو المهم، على طرح قضية واحدة رئيسية بعينها، وهي هنا اضطهاد المرأة المصرية بصفة عامة وشجاعتها بصفة خاصة، ومع التركيز على ذلك زمنيًا عبر الفترة التي بدأت مع اندلاع الثورة وسخونة الأحداث وتفجّرها في عام 2011، وحتى الشهور القليلة المنصرمة مع مطلع هذا العام، وذلك من خلال رصد نموذج واحد بعينه لفتاة مصرية.

إن بناء فيلم “عواصف الربيع” يعتبر من أهم نقاط قوته، حيث اتسّاق الشكل مع المضمون، والخط الرئيسي مع الخطوط الثانوية، وكلها بالنهاية تخدم الفكرة الرئيسية وتعمل على إيصالها على نحو شديد القوة.

يتركز خيط الفيلم الرئيسي حول قصة الشابة هند نافع، التي تسافر من قريتها للإسهام في إسقاط نظام مبارك في الأيام الأولى من الثورة، فيتم القبض عليها وضربها وتعذيبها على يد الأمن، ثم يتم معاقبتها وحبسها لاحقًا على يد أسرتها لجرأتها وتمردّها ومطالبتها بحقوقها من ناحية، ومن ناحية أخرى جراء ما جلبته على العائلة من مشاكل لا قبل لها بها. الأمر الذي يدفعها في النهاية لترك منزل عائلتها للعيش بالقاهرة والدفاع عن قضيتها وحقها الطبيعي في إبداء رأيها. ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا، تتخذ حياة هند منحًا آخر مغايرًا تزداد فيه حدّتها وشراستها في الدفاع عن نفسها وحياتها ومستقبلها، كلما أمعن المجتمع من ناحية والسلطة الباطشة من ناحية أخرى في ظلمها والتنكيل بها والتعدي على خصوصياتها.

وقد تعمدت المخرجة ترك القضية المتهمة بها هند نافع دون تتبعها لنهايتها، وإنهاء الفيلم، وذلك في دلالة واضحة لعدم انتهاء المشكلة الرئيسية المتعلقة بالظلم، وفي نفس الوقت، إظهار مدى قوة هند في التصدي لها والدفاع عن نفسها حتى النهاية.

أما الخيوط الفرعية التي يتتبعها فيلم “عواصف الربيع” فترصد على نحو مكثّف ظواهر قهر وتعذيب وحرمان المرأة بصفة عامة في المجتمع المصري، وحتى أوجه التنكيل والتحرش بها في مختلف المجالات، وذلك على امتداد الفترة الواقعة منذ بزوغ حلم في يناير عام 2011 وحتى أفوله التام في مطلع عام 2015. وللتركيز على هذه الجوانب، استعانت المخرجة بالعديد من اللقطات الأرشيفية الجديدة بعض الشيء أو المستهلكة، لكن في نفس الوقت، الموظفة جيدًا من خلال المونتاج لتخدم الهدف الرئيسي للفيلم وخطوطه الثانوية، وتحقيق أقصى استفادة ممكنة. إلى جانب هذا، استضافت المخرجة مجموعة قليلة من الناشطات والمساهمات في الثورة المصرية، وذلك للإدلاء بآرائهن والتعليق على الأحداث بصفة عامة، وعلى قضية هند نافع بصفة خاصة. وبالرغم من أن تلك الشهادات تعتبر أيضًا كخطوط فرعية أو ثانوية، إلا أنها لم تحد في النهاية عن الخط الرئيسي وعن الرسالة التي أرادت المخرجة توصيلها عبر فيلمها.

تلك الرسالة، إلى جانب تسليطها مزيدًا من الضوء على ما تتعرض له المرأة في مصر، تتلخص وبقوة في أن هؤلاء النسوة اللاتي تعرضّن ويتعرضن وسيتعرضن لكل هذا، لم تنكسر شوكتهن أبدًا، ولم تضعف قوتهن ولن تهن عزيمتهن، بل يخرجن وسيخرجن دائمًا أكثر قوة وحماسة وفداء، رغم درايتهن التامة بالعواقب، وأن كسر قوتهن وإرادتهن بالفعل هو الهدف الرئيسي من استهدافهن والتنكيل بهن. إن شجاعة المرأة، التي فاجأت وأدهشت الجميع بما أقدمت عليه من أفعال وسط كل هذه الأحداث العصيبة منذ اندلاع الثورة، هي ما أرادت المخرجة أن تبرزه لنا وتقدمه عبر نموذج الفتاة هند نافع.

فقط، قد يأخذ البعض على فيلم “عواصف الربيع” جنوحه التام منذ البداية إلى النهاية إلى رصد السلبيات منذ فترة حكم المجلس العسكري ومرورًا بانتخاب وحكم الرئيس محمد مرسي وانتهاء بمرحلة حكم السيسي. إضافة إلى عدم وجود أية وجهة نظر أخرى محايدة أو حتى تنفي أو تدين أو توضح القضية المثارة بالفيلم. وهذا برأينا هو دور أي فيلم جاد، التركيز على المشكلات، ورصد السلبيات بالأساس، مهما كانت قتامة الصورة وبصرف النظر عن أي انحيازات سياسية كانت أو أيديولوجية أو عقائدية أو غيرها، طالما أن الواقع لم يتغير. أما عرض وجهة النظر الأخرى، وهي هنا وجهة النظر المتعلقة بالطرف الآخر المدان سياسيًا واجتماعيًا وسلوكيًا، فبالتأكيد أنه من الصعوبة بمكان، حتى لو رغبت المخرجة في استعراض وجهة النظر الأخرى تلك، أنه كان سيسمح لها بهذا أو حتى بتصوير مثل هذا الفيلم من الأساس.