محمد هاشم عبد السلام
الجمعة 12 ديسمبر 2014
أدت الحبكة وتفاصيل السيناريو، لتباين الآراء حول فيلم “القطع” للمخرج فاتح أكين، بين رافض للفيلم أو معجب مع بعض التحفظات، أو ناقد لتحوّل الفيلم مع وصوله إلى منتصفه.
ويرجع هذا كله للمخرج نفسه، فثمة طموح مشروع من جانبه لإبداع رحلة أوديسية تضارع في روعتها وعميقها وقسوتها فيلم “أمريكا أمريكا” لإيليا كازان، وفي الوقت نفسه تحدوه الرغبة لإبداع ملحمة كبيرة تثير مشكلة الأرمن وما تعرضوا له من اضطهاد، ثم مذابح، فشتات.
وذلك كله عبر شخصية مجازية لبطل أرميني، يستدر الكثير من التعاطف معه ويترك أثراً لا يمحى على الجمهور عامة، والتركي خاصة، وأي فرد بالعالم لا يدر عن مذابح الأرمن شيئاً، أي أن الأمر بالنهاية مرده لهذا التأرجح بين الطموح الأوديسي والتوق للدراما الملحمية الإنسانية، التي قد تحدث لأي فرد في أي زمان ومكان.
وأسهم في إبراز هذا التناقض على السطح، كاتب السيناريو الأمريكي الأرميني مارديك مارتن الذي اشترك مع فاتح أكين الألماني التركي في كتابة السيناريو.
فالسيناريست مارديك مارتن المخضرم في الكتابة للسينما الأمريكية والعمل بهوليوود، خاصة مع سكورسيزي في “الثور الهائج” و”نيويورك نيويورك”على سبيل المثال، أضفى من دون شك لمحة هوليوودية على السيناريو تبدت في الكثير من مشاهد الفيلم، حتى منذ اللقطات الأولى، عندما كان “نازاريت” يُحَدّثُ ابنتيه عن عواصم البلدان، وأعقبها المخرج بلقطة وجهة نظر لسرب الطيور المهاجر إلى الشمال كما قال “نازاريت” لتوأمه، ذلك المشهد تكرر ما يشابهه قرب نهاية الفيلم حيث يسافر شمالاً للبحث عن التوأم، ومن ثم يتوقف بنا أمام الكثير مما يواجه البطل في رحلة سفره شبه الأوديسية، التي خرجت أمريكية صرفة، وكان من الحتمي أن تنتهي بالوصول لنهاية مُرضية، دون التجاسر على ترك النهاية مفتوحة أو ترك البطل يتنقل من مكان لآخر في تعبير عن الشتات الذي لم ينته حتى الآن أو عدم العثور على ابنتيه أو حتى وفاتهما.
إن “القطع” الذي طمح لأن يسرد ويؤرخ لمذبحة الأرمن تأرجح بين تحقيق كلا الأمرين والإمساك بخيوطهما على نحو لا يحيد عنه بالمرة، لكن الدفة مالت أكثر إلى التعاطف مع “نازاريت” الإنسان المتألم، الذي تعاني شخصيته في غضون سنوات جد قليلة من تحولات درامية عسيرة، وتقلبات نفسية شديدة التطرف في تناقضاتها، الأمر الذي جعل القضية الأساسية تتوارى بالخلفية حتى يكاد المشاهد نسيانها تقريباً أو نسيناها بالفعل مع نزول التترات الختامية للفيلم.
وربما لو دخل أحدهم متأخراً لمشاهدة الفيلم بعد فترة من بدايته أو لم يسمع قط بالأرمن، لما التفت كثيراً لما هدف المخرج وكاتب السيناريو أساساً لينقله، ولتعايش مع تلك القصة البالغة الإنسانية لذلك الشخص المتألم الباحث عن توأمه.
وبالطبع يشفع لأكين أنه، عوضاً عن اللجوء لسرد بارنورامي يُغرق في مليودرامية مفعمة بالمآسي والفواجع والتنكيل والدماء وأخرى تاريخية عمّا حدث للأرمن من جانب الأتراك العثمانيين.
أما الحكم على فاتح أكين إخراجياً فلا مجال لمناقشته كثيراً لأنه، على الأقل، فاق توقعاتنا، مقارنة بأفلامه السابقة، ونجح بالفعل في إمتاع فنياً وبصرياً وتكوينياً في بعض مشاهد الفيلم، الواقف وراءها مُخرج بصمته لا تُخطئها عين، كان أقوها بالطبع ذلك الذي يخنق فيه “نازاريت” شقيقة زوجته ليجعلها تسلم الروح فترتاح من معاناتها، مُحولاً فعل الاحتضان والعناق الحنون إلى خنق رحيم أحسن فيه أكين توظيف المونتاج ليبرز انقضاء فترة زمنية طويلة تقدر بالساعات استغرقها صراع “نازاريت” حتى يقر قراره داخلياً على ذلك الفعل، متوجاً بذلك الفعل أحد أقوى المشاهد البصرية بالفيلم، الذي كان افتتحه بالأساس بصحراء شاسعة يتوسطها مجموعة من الأرمن، رجال ونساء وأطفال عرايا ونصف عرايا، يئنون طويلاً من فرط التعذيب والجوع والعطش ويعانون سكرات الموت قبل أن يسلموا الروح.
إن التقلبات التي مرت بها شخصية “نازاريت” وصلت لذروتها الكبرى بعد هذا المشهد الفارق إلى حد بعيد في حياته، من تزعزع لإيمانه ومحاولته إزالة الصليب عن يده، وقذفه للسماء بالحجارة وجنوحه للقسوة والعنف وحتى الإقدام على القتل، وتلك كلها كانت لها بذرتها في شخصيته منذ بداية الفيلم، إذ نراه ببداية الفيلم ذهب للاعتراف للقس بأنه غير راض عن نفسه لرغبته في جمع المال، لكن ذلك لم ينعكس على سلوكه أو حياته التي اتسمت من قبل بالطيبة والرقة مع صبيه في ورشته ومع أسرته.
أما الممثل الرائع “طاهر رحيم”، فبرع إلى حد كبير في حمل الدور على كتفيه، بمهمة عسيرة تطلبت منه ألا يتحدث طوال الفيلم تقريباً، ويُعبر عن كل ما أراده المخرج من خلال تعبيرات وجهه وجسده وحركته، بالرغم من أنه لم يغب طوال الفيلم عن معظم الكادرات تقريباً، وهو دون شك ممثل شديد التميز وبرع قدر استطاعته في أداء الدور، الذي لم يساعده إلى حد كبير على إبراز كل ما عنده.
تدور أحداث الفيلم مع بدايات الحرب العالمية الأولى، واضطهاد الأتراك العثمانيين للأقليات والتضييق عليهم، وذات ليلة يقبض العسكر على الحداد الأرميني “نازاريت مانوجيان” (طاهر رحيم) الذي يعيش في “ماردين” جنوب شرقي تركيا مع زوجته “راكيل” (هندي زهرة) ومع ابنتيهما التوأم “أرسيني” و”لوسيني” (زين ودينا فاخوري)، كما قبض أيضاً على “هرانت” شقيق نازاريت (أكين جاتسي) و”فاهان” شقيق زوجته (جورج جورجيو)، وجميع الأرمن بماردين دون النساء والفتيات والأطفال.
يدفع الجنود الرجال للعمل بتمهيد الطرق في ظل ظروف بالغة الصعوبة، ومن يرفض يُقتل، قبل الانتهاء، يُعرض على من يعتنق الإسلام إطلاق سراحه، الأمر الذي يرفضه العديد منهم، ثم فجأة يختفي العسكر فيحاول نازاريت ورفاقه الهرب، لكنهم مع الأسف يخفقون، لوقوعهم مجدداً أسرى لمرتزقة ولصوص يحتجزونهم، ثم ينقلونهم لأحد الوديان لتقطع رقابهم بالسيف بناء على أوامر السلطات، لتوبته عن اللصوصية ونزعته الخيرية يقوم اللص التائب “محمد” (بارتو كتشوكتشاليان) بخرق رقبة نازاريت فحسب فيفقد صوته، ثم ينقذه محمد ويساعده على الهرب، في طريقهما بالصحراء المُقفرة يقابل محمد ونازاريت بعض من الهاربين من الخدمة، ويعرفان منهم أن كل الأطفال والنساء تركوا “ماردين” ورحلوا.
يرحل نازاريت إلى “رأس العين”، بعدما تأويه وتطعمه وتكسوه قبيلة عربية مُسلمة في الصحراء، بحثاً عن مخيم اللاجئين ليكتشف معاناة الآلاف منهم هناك، ثم يجد شقيقة زوجته “أني” (أرفيك مارتيروسيان) فتخبره أن كل أفراد أسرته ماتوا وتطلب منه إنهاء حياتها، يشعر نازاريت بالإحباط ثم يقفز في أحد القطارات الذي يسافر به لأيام عدة لوجهة غير معلومة قبل أن يهبط منه، يعثر عليه صانع صابون حلبي يدعى “عمر نصرالدين” (مكرم جي خوري)، ويدخله البلدة تحت أنظار الحرس التركي، وعندئذ، يصبح نازاريت محمياً خلف البوابات الضخمة لمصنع الصابون، وهناك يعيش ويعمل ويتعرف على لاجئ أرميني آخر يدعى “كريكور” (سيمون أبكاريان).
بعد هزيمة الأتراك وانسحابهم من البلدة، وبينما هم ينصرفون في مسيرات يقذفها الأرمن بالطوب انتقاماً ويشاركهم نازاريت في فرح، يحجم عن إلقاء حجر بعدما رأى آخر سُدد لعيني صبي في عمر توأمه فأدماها، فينصرف عن الأمر ويمضي وسط سباب كريكور له.
ومع انتفاء الوجود العثماني، واستمتاعاً بالحرية، يذهب ذات ليلة لمشاهدة فيلم بإحدى الساحات لتشارلي شابلن بعنوان “الطفل”، مستكشفاً ذلك الاختراع الجديد الذي يدعى السينما، نراه يضحك من قلبه لأول مرة، ثم تُذكره نهاية الفيلم بابنتيه فينفجر باكياً، وقبل أن ينصرف عائدًا يقابل صبيه السابق “ليفون” (شوبهام ساراف) الذي يخبره أن “راكيل” استودعت التوأم لدى عائلة بدوية، تدب الحياة في نازاريت، الذي ينشط للبحث عنهما، وبعد عناء يكتب قائمة بمائة ملجأ للأيتام في سوريا ولبنان يمكن أن يجد توأمه بها.
في عام 1922 بلبنان، تعرض عليه رئيسة ملجأ “جبيل” صورة يلاحظ بها ابنتيه اللتين تركتا الملجأ منذ عام وسافرتا إلى كوبا، يستمر في البحث ليعبر المحيط الأطلنطي إلى هافانا ثم الولايات المتحدة، من فلوريدا إلى مينيبوليس إلى البراري المقفرة في داكوتا الشمالية، في رحلة يلاقي فيها المصاعب، ويعثر في النهاية على إحداهن التي كانت أصيبت في قدمها وصارت عرجاء والتي تصحبه لزيارة قبر ابنته وتوأمتها.