محمد هاشم عبد السلام
الخميس 22 يناير 2015
يقدم كتاب “فريد زينمان وسينما المقاومة” للناقدة والأستاذة الجامعية “جي. إي. سميث”، لمحة تاريخية عن كثب لأفلام المخرج السينمائي النمساوي الأصل “فريد زينمان”. وبالرغم من أن زينمان لم يكن من المخرجين المدللين ولا اللامعين في هوليوود، لكن لا أحد ينكر أنه أحد أهم المخرجين الأمريكيين في القرن العشرين، وأن أفلامه من أكبر وأشهر الأفلام التي أثارت الكثير من الجدال في تاريخ هوليوود.
والمثير في الأمر أن فريد زينمان لم يكن، على عكس المخرجين الأوربيين الآخرين الذين تركوا بلدانهم لأسباب عديدة منها تصاعد وتيرة الفاشية وتوجهوا إلى أمريكا للعمل في صناعة السينما بها، ينتمي بالفعل إلى هوليوود ولم تسر أفلامه على النهج الهوليوودي المعتاد. ونفس الشيء فيما يتعلق بحياته العامة والخاصة، التي لم تكن أمريكية على نحو صرف. والطريف فيما يتعلق بهذا الأمر ما ذكره زينمان، بعد مرور أسبوعين على تواجده هناك في مطلع شبابه، عن اقتناعه بأنه لم تكن تُصنع هناك أية أفلام “حقيقة” حقًا.
وترجع الأهمية البالغة لهذا الكتاب لعدة أسباب، من بينها ما ذكرته سميث في مقدمتها، التي جاءت تحت عنوان “سينما المقاومة”، عن أن فريد زينمان لا توجد عنه سيرة واحدة حتى يومنا هذا. وأن سيرته الذاتية التي نشرت عام 1992، تركز فقط، على نحو كامل تقريبًا، على حكايات وقصص وقعت أثناء تصوير أفلامه.
يكشف كتاب “فريد زينمان وسينما المقاومة”، على امتداد أكثر من ثلاثمئة صفحة، عن الدوافع الفكرية وراء إخراج أكثر أفلام المقاومة قوة على الإطلاق في السينما الأمريكية، وغيرها من الأفلام التي صنعت عن صعود ومقاومة الفاشية، وآثار الحرب العالمية الثانية، ودور المرأة والمهمشين، وحتى الأطفال في المجتمع. وذلك في العديد من أفلامه المميزة مثل “الصليب السابع” (1944)، و”البحث” (1948)، و”الظهيرة” (1952)، و”من هنا إلى الأبدية” (1953)، و”جوليا” (1977).
وتوضح إلى أي مدى كان زينمان ينجذب لقصص المتمردين والمستقلين المعارضين والمناهضين للنظام، مع العناية الفائقة بالتفاصيل، والتي كان الكثير منها مستوحى من تجاربه الخاصة في مرحلة الطفولة، محولا إياها لأعمال بالغة القوة. وتبين سميث كيف استخدم أو وظف زينمان أفلامه على نحو شعبي أو جماهيري لإيصال رسائله الخطيرة المناهضة والمتمردة التي تجاوب معها الجمهور في النهاية.
كما ركزت أيضًا على نحو قوي على تعاطف زينمان مع الأشخاص الذين لا صوت لهم، وبخاصة الأطفال. ونجد هذا مثلا في فيلمه “البحث”، الذي لفت فيه أنظار الجمهوري الأمريكي لمحنة الأطفال المشردين الذين عانوا في معسكرات الاعتقال خلال الحرب العالمية الثانية. وكيف أنه كان يجتهد دائمًا لإتقان عمله لدرجة الكمال، ويسعي دائمًا لتحقيق أقصى قدر من التأثير على الجمهور. مع الحفاظ على استقلاليته عن صناعة السينما السائدة، وإلى أي مدى تعتبر سينماه حالة تُدَرَّس في المقاومة.
وكتاب سميث هو الأول حتى الآن، الذي نجح في الوصول إلى الأوراق الهائلة لفريد زينمان، الموجودة في الأكاديمية الأمريكية لفنون وعلوم الصور المتحركة، الجهة التي تمنع الأوسكار سنويًا، ومخطوطاته وسيناريوهاته ودفاتره وملاحظاته أثناء صناعة الأفلام ورسائله الشخصية، وغيرها الكثير من الصفحات التي تعد بالآلاف في أرشيف زينمان، وعليها أيضًا الكثير من الملاحظات أو الخواطر أو الإرشادات أو التوجيهات أو حتى أرقام التليفونات التي كتبها بخط يده في أوقات متباينة خلال مسيرته المهنية.
وقد أخذت المؤلفة كل هذه الملاحظات بعين الاعتبار وقامت بتحليلها والتعامل معها في سياق كل مرحلة. وخرجت منها بكتابها هذا، الذي حرصت على تزويده بالعديد من الصور النادرة، التي يرجع أغلبها لفترة السبعينات من القرن الماضي.
كما تطرق الكتاب لمناقشة علاقات زينمان المهنية والشخصية مع العديد من النجوم والنجمات مثل “سبنسر تريسي”، و”مونتجمري كليفت”، و”جاري كوبر”، و”أودري هيبورن”، و”فانيسا ريدجريف”. وفي نفس الوقت، كيف كان مخرجًا صبورًا ومهتمًا بممثليه لأقصى حد، وفي المقابل يحظى بإعجابهم وتقديرهم، ولذلك نجح في أن يخرج منهم بأفضل ما لديهم من أداء.
كما رصدت المؤلفة ردود الأفعال النقدية العنيفة تجاه رؤيته المغايرة التي قدمها في أفلام الويسترن الخاصة به مثل “الظهيرة” (1952). وكذلك معاركه الضارية مع الرقابة فيما يتعلق بأفلام مثل “من هنا إلى الأبد” و”قصة الراهبة” و”انظروا للحصان الشاحب”، وفيلمه المثير للجدل عن الاغتيال السياسي “يوم جاكل”. كذلك العديد من المعارك التي خاضها ضد نظام الاستوديو في هوليوود، وكيف أن قوته ساعدته في النهاية على الصمود لأطول فترة ممكنة أمام نظام الاستوديو، واستطاع حتى آخر يوم في مسيرته المهنية أن يقدم أعمالا فنية متميزة، بعكس العديد من معاصريه.
أولت سميث كل فيلم من أفلام زينمان اهتمامًا واسعًا، وكرّست أحيانًا صفحات طويلة للتحدث عن إنتاجها واستقبالها والتاريخ وراء الكثير منها مثل “الظهيرة” (1952)، و”من هنا إلى الأبد” (1953)، و”قصة الراهبة” (1959). وقد عثرت على تفاصيل مثيرة حول معالجة زينمان لمشاريعه، ووفرت خلفية غنية للأحداث التي ألهمته في أعماله. وليس ثمة شك في أن كل فصل من فصول الكتاب يمكنه أن يستقل ككتاب بمفرده، رغم أنه من المثير أكثر مقارنة الأفلام بعضها البعض، وذلك من أجل الوقوف على أوجه التشابه والاختلاف فيما بينها.
برغم اختلاف قصصها وعوالمها الواسعة النطاق، وجدت سميث في كتابها العديد من الروابط المثيرة للاهتمام بين هذه الأفلام. وقد رصدت على وجه الخصوص الاهتمام الذي أولاه زينمان لقصص النساء، خاصة هؤلاء اللاتي طغت عليهن أفعال وتصرفات الرجال، لا سيما الرجال الذين لم يتحققوا. وكيف أنه، على سبيل المثال، في فيلمه “الظهيرة” سلط الضوء على “جريس كيلي” و”كاتي جورادو” كشخصيتين نسائيتين قويتين في مجتمع الغرب الأمريكي حيث الهيمنة الذكورية التقليدية. ونفس الأمر ينطبق على الدورين المركبين اللذين قامت ببطولتهما “أودري هيبورن” و”فانيسا ريدجريف” في فيلميه “قصة الراهبة” و”جوليا”.
والكتاب غني في مادته البحثية ويلتزم بدقة منهجية صارمة مثل أي دراسة تاريخية معمقة في تاريخ السينما. وذلك في أسلوب سردي ونثري جميل نجح في أن ينقل لنا أدق تفاصيل المواد الأرشيفية الكثيرة والمعقدة على نحو حيوي وسهل، وأفلحت بالفعل في ألا تجعل الكتاب يبدو كأطروحه أكاديمية بحثية جامدة، موجهة للمتخصيص وليس الجمهور العادي. لقد أبدعت سميث في كتابها الذي لم يلق الضوء فحسب على العلاقات أو الروابط بين تاريخ هوليوود والطريقة التي تصور بها هوليوود التاريخ، بل أتاح لنا أيضًا ربط هذه الأفلام بالمقاومة السياسية.
يعتبر الكتاب بحق نموذجًا في النقد السينمائي الرصين، وأفلحت سميث في أن تقدم عن فريد زينمان صورة جديدة تمامًا وأصيلة يميزها الفهم والاستيعاب لهذا المخرج العبقري المستقل والمتمرد، بطريقة جمعت على نحو ماهر وحاذق بين البحث الأرشيفي الرصين والقراءة الذكية للأفلام.
وقد انقسم الكتاب إلى سبعة فصول حملت العناوين التالي على الترتيب: “من ألمانيا إلى الجزائر، ومراحل التأريخ للمقاومة”، و”أصوات الناجين والبحث عن أوروبا”، و”الويسترن غير الأمريكي”، و”الفاشيون الأمريكيون”، و”كسر صمت المرأة في المقاومة”، و”شيخوخة الثوار وضياع التاريخ”، وأخيرًا “مقاومة المرأة في سياقات تنافسية”.
تشغل المؤلفة والناقدة “جي. إي. سميث” منصب أستاذة التاريخ والدراسات الأمريكية المقارنة بجامعة “وارويك” ببريطانيا. وهي ناقدة وباحثة في التاريخ السينمائي، ومن بين ما صدر لها، كتابها “إعادة بناء السينما التاريخية الأمريكية: من سيمارون إلى المواطن كين” وهو من تأليفها، وكتاب “هوليوود والأفلام الأمريكية التاريخية” وهو من تحريرها.