محمد هاشم عبد السلام
لا تزال السينما اللبنانية، في كلّ جديد تُنجزه بمثابرة تنطوي على جرأة، تنبش الماضي، وترصد ثقله على الراهن، وتحاول التكهّن بمستقبل غامض، أو التحذير من تكرار الأخطاء.
تكرار مواضيع عدم النسيان، ومساءلة الماضي بجرأة، وفتح الجراح بقسوة، والاشتباك الصادق مع أغلب المسكوت عنه، تُعدّ من أبرز مميّزات سمات السينما اللبنانية المعاصرة. يتجلّى هذا في أفلامٍ وثائقية، أكثر من الروائية، رغم أنّ هذا يتأكّد في أول روائي طويل لسيريل عريس، “نجوم الأمل والألم”، الفائز بجائزة الجمهور، مناصفة مع “ذاكرة” للأوكرانية فلادلينا ساندو، في تظاهرة “أيام المؤلّف” في دورتها الـ22، والمنعقدة ضمن فعاليات الدورة 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025) لمهرجان فينيسيا.
يُطلّ عريس على الحاضر من نافذة الماضي لرصد تبعاته. يختار سبعينيات القرن 20، مع ولادة بطلي فيلمه في الوقت نفسه، أثناء القصف. تبعات الحرب، التي لم يشهداها، وغيرها من مشاكل عائلية ونكبات وحروب صغيرة مرّت في بلدٍ وعلى شعب، وصولاً إلى نهب المصارف، وانفجار مرفأ بيروت، هذا كلّه أثّر في شخصيتيهما، وطبع سلوكياتهما، وبات يتحكّم بردود أفعالهما، ونظرتيهما تجاه مستقبل غامض، وبلد يجبر سكّانه على التفكير اليومي بالمغادرة والهجرة، والعيش في شتات ومنفى قسريين. هذا تأكيد آخر على إحدى أهم السمات المتكرّرة بكثرة في السينما اللبنانية الحديثة: هاجس الرغبة القسرية في المغادرة/الهجرة.
في النهاية، يطرح الفيلم خيارات الرحيل والفراق والشتات وتمزّق المصائر، بعد اجتماع شمل انقطع ثلاثة عقود، عقب مزاملة ياسمينا (مونيا عقل) ونينو (حسن عقيل) في المدرسة، اللذين جمعهما حبّ طفولي لكنّه صادق، يتجدّد في الحاضر بعنف، بعد صدفة عشوائية تجمعهما، يعقبها قرار بزواج، يليه تردّد وخوف من إنجاب، وصولاً إلى تدهور أحوال تضعهما وطفلتيهما أمام خيار الرحيل إلى دبي، هرباً من راهن بلد جميل وحزين، لم يعد صالحاً لأي رومانسية، بل لعيشٍ عادي.
بين صرخات الميلاد وأزمة قرار الرحيل، المتوِّج لذروة الأحداث، أنجز عريس بمهارة دراما كلاسيكية رومانسية كوميدية مُحكمة إلى حدّ بعيد، ومُقنعة ولطيفة ومؤثّرة وحيوية، خاصة في الثلثين الأولين. الأهم أنّ خلطته، البعيدة جداً عن الكليشيهات المبتذلة، أتت بنَفَسٍ جديد للأفلام الروائية اللبنانية، الفنية تحديداً. عبر حوار رشيق بلا ثرثرة، وضبط جيد للأداء، خاصة حسن عقيل، لامس عريس التعطّش إلى الحب والرومانسية. كما نقل بصدق محاولة انسجام حبيبين أحدهما مع الآخر، وتعايشهما ومقاومتهما، رغم حضور الموت والحرب والفراق، وخيار الرحيل والمنفى. صحيح أنّ الحبكة لم تأت بجديد، مع أنّ هناك إمكانية سهلة لجعلها أكثر تعقيداً وتنوعاً، إنسانياً وفلسفياً، لكنّ المخرج لم يحد عن مُراده.
ببساطة وجدية وصدق، آثر عريس طرح الأسئلة اللبنانية نفسها، من دون مباشرة، في قالب رومانسي كوميدي، يترك أسئلة كثيرة معلّقة: أهناك ما يستحق البقاء في بلد منذور لحروب مستمرة؟ أعلى المرء البحث عن حياة أفضل في مكان آخر، رغم الارتباط بأماكن وذكريات وأحباب، وحياة ربما تكون عسيرة وحزينة للغاية، لكنّها جميلة أيضاً؟
الأسئلة، المطروحة برقة ونعومة في “نجوم الأمل والألم”، يُمدّدها على استقامتها، ويُعَمِّقها بشدة، الوثائقي “هل تحبّني” للانا ضاهر، المعروض في البرنامج نفسه. فعبر الماضي، تطلّ المخرجة برسالة ذات طابع رومانسي، بمسحة حنين لافتة، ترصد بعض جوانب الشخصية اللبنانية، المتّسمة بالمرح والحميمية، رغم الجراح والخسارات والمخاوف. ما يُعيد إلى الأذهان شخصيتي نينو وياسمينا وعوالمهما.
بداية، تفاجئ ضاهر، في وثائقيّها الأول هذا، بأنّ التاريخ اللبناني المعاصر، لبلدٍ جميل وحزين، لا يُدَرَّس في المدارس، رغم حضوره المؤثّر في شتى الجوانب اليومية. الأكثر مفاجأة وجرأة وإبداعاً بُنية الفيلم، المكوّنة من مئات اللقطات الأرشيفية، والموسيقى اللبنانية الخالصة، في جهد توثيقي بصري سمعي، نادر جداً في الوثائقيات العربية. إذْ لم يقتصر الأمر على محض اختيارات أو تجميعات عشوائية لموادٍ، وتوليفها ودمجها معاً.
الصعوبة السينمائية متأتية من ذكاء الانتقاء، وخلق التناغم الإبداعي بين موادٍ، تغطّي نحو 70 عاماً من تاريخ لبنان، من دون أي تعليق صوتي، خلا بضع لوحات إرشادية. المُثير للاهتمام أنّه، رغم خصوصية غالبية المواد ومحليّتها، المجهولة لجمهور عريض، تصل الفكرة بسهولة وعمق وتشويق، ومتعة أيضاً.
رغم طول الفترة الزمنية المرصودة، لا يسير “هل تحبني” بخطيّة متصاعدة، بل يتبع ترتيباً زمنياً خاصاً، بتقدّمه إلى الأمام أو بتراجعه في الزمن، وفقاً لطبيعة المادة الأرشيفية، المكوّنة أساساً من لقطات أفلام روائية ووثائقية، معروفة ومحلية، وبرامج تلفزيونية، وتقارير صحافية، وصُوَر فوتوغرافية، وأفلام هواة. إلى هذا، هناك لقطات لأغنيات مُصوّرة ومسموعة، يتكرّر فيها، في 70 دقيقة، أصوات فيروز وزياد الرحباني وأغنياتهما، وغيرهما أيضاً، منها الأغنية الشهيرة لعائلة بندلي، “دو يو لاف مي” (هل تحبني).
بجهد مونتاجي خارق للمونتير قتيبة برهمجي، وبمهارته الملموسة، تصل الفكرة المرصودة عبر مئات المقاطع الفسيفسائية المتنوّعة، الموصولة معاً بسرعة وتناغم وانسجام، يتطّلب إمعان النظر لمعاينة تاريخ يترى، يتألف من شظايا حيوات اجتماعية وسياسية متباينة. إذ نرى انفجارات واغتيالات وسيارات مشتعلة ودمار محيط، ووحشية الحرب، والخراب الجاثم، والموت المتربص. هناك أيضاً الغناء والبحر والمَشاهد الملوّنة، إلى حفلات زفاف ورقص وولادة، ولهو أطفال، وجمال الحياة، وسذاجة لقطات سينمائية مُنفّذة بركاكة.
فسحة الأمل والأحلام، المرصودة في فيلمي عريس وضاهر، تؤكّد أنّ هناك شعباً ينتفض دائماً لإعادة بناء بلده، وإنْ ظلّ ماضيه وحاضره يكبّلان مستقبله.