محمد هاشم عبدالسلام
الجمعة 9 يناير 2015
مع انتهاء الفيلم الألماني “الاتفاق” (Die Abmachung)، للمخرج الشاب بيتر بوسينبرج، يجد المرء إجابة شافية عن مغزى المشهد الافتتاحي الغريب في أول الفيلم، حيث تسبح الكاميرا لفترة طويلة في حركة علوية فوق منطقة سكنية، ثم تمسح تجمعات من المنازل المتجاورة والمتشابهة في تصميمها بأحد الأحياء شبه المقفرة وسط أجواء جد ساكنة وسماء رمادية لمدينة ألمانية ما، حتى تتوقف بنا الكاميرا أمام أحد المنازل.
بعد ذلك تنتقل الكاميرا إلى داخل ذلك المنزل، حيث نرى ذيول حدث يومي عابر يدور على هامش حياة “كارولا” ذات الخامسة والأربعين عاماً وابنتها “ستيفاني” ذات الستة عشر عاماً، نفهم من خلاله أن ثمة مشكلة بالتدفئة وأن ذلك العامل القادم لتوه، يدعى “روجر” وهو في الأربعين من عمره، سيعمل على إصلاحها بصحبة ابنه المرافق له الذي يدعى “كيفن”.
ثم نعلم لاحقاً أن الأمر سيستغرق بعض الوقت حتى يتم إصلاح التدفئة، هنا ليس ثمة ما هو غير عادي أو يستدعي الريبة أو انقلاب الأمور رأساً على عقب لاحقاً، لكن بضعة جمل حوارية تبادلتها كارولا مع روجر تجر بكرة الخيط على أقصى مداها.
“يعجبني منزلك”، يقول روجر في مستهل جمله الحوارية بالفيلم مع كارولا عندما تسأله عن السبب الذي دفعه وشركته للإقدام على أعمال مجانية ومنها مهمة إصلاح منزلها دون مقابل، وبالطبع لن يتوقف المرء قليلاً أمام تلك الجملة العابرة، فالمنزل أو الفيلا الشديدة التميز بطرازها وديكورها لافتة فعلاً، ومن ثم فإن المعنى المزدوج للعبارة يمر مرور الكرام، دون أن ندرك نحن ولا كارولا، الهاوية الكامنة خلفه، إلا مع تقدم الفيلم من منتصفه تقريباً.
بعد عام على وفاة زوجها، تجد كارولا، الممثلة الدنماركية الرائعة (ستين ستنجايد)، ذاتها على نفس الحالة التي عليها بيتها، كلاهما بحاجة ماسة للترميم والإصلاح الفوري، فالسقف يُسَرِّبُ والتدفئة لا تعمل والأرضية الباركيه تعاني من التضعضع وغيرها من الأمور، لكن كارولا ليس لديها ما يكفي من المال لمغادرة المنزل وشراء آخر أو حتى إصلاحه على الوجه الأكمل.
أول الأمر، هناك إصلاح للتدفئة، وفيما يتعلق بهذا، فثمة تفهم كامل وواضح، روجر سيصلح وكارولا ستدفع لاحقاً، عندما يتوفر معها المال، والأمر مغوي بالفعل بالنسبة لها، لا سيما وأن الاتفاق يسمح لها بالبقاء في منزلها والاستمتاع بحياتها الأسرية اليومية دون الحاجة لتركه أو إيقاف روتينها اليومي حتى انتهاء الإصلاحات.
وفي المقابل، فإن كل ما يريده روجر هو وجبة دافئة، دش ساخن بين الحين والآخر، والنوم العابر بالمنزل إن اقتضت الضرورة، لذا تضعف كارولا أمام عرض أو صفقة “روجر”، الممثل البارع (أليكس برندمول)، العامل الوسيم، الصغير السن، المنفصل عن زوجته، كما يُخبرها.
بعد فترة يضاف إلى هذا انجذاب جنسي فيما بينهما، ولا نعلم حقاً إن كانت كارولا تشعر فعلاً بالاحتياج إليه أم لا؟ خاصة وأنه لن يتكرر لاحقاً طوال الفيلم، على أية حال هذا الاحتياج يلبيه روجر عن طيب خاطر، وباعتباره حدث عادي بين اثنين، وليس ضمن إطار خطة ما خفية ومُحكمة، فإننا لا نتوقف أمامه كثيراً.
يستغرق روجر وابنه كيفن (مو هوليسكين) الكثير من الوقت في العمل، ويأخذان تدريجياً في التنقل بحرية داخل منزل كارولا، ويُقدمان على الكثير من الأمور الغريبة التي تضطر معها ستيفاني (أنطونيا لينجمان) لاستدعاء والدتها، وبعد ذلك، توبيخ كيفين على مراقبته وملاحقته لها، وذات يوم تضع أغراضهما أمام المنزل طاردة إياهما، لكن روجر لا يقبل بعدم الترحيب هذا من جانب ستيفاني، الاتفاق اتفاق، ويبرر سلوك ابنه بأنه كان محاولة من جانبه هو لدفع ابنه لعمل علاقة مع سيتفاني ليس أكثر، وأنه سيكف عن هذا.
الأمر رهيب وكابوسي بالفعل، فالفيلم الذي بدأ بحدث شديد العادية يقع عرضاً ضمن الكثير من الأحداث اليومية العابرة، وكان المفترض أنه لا يترك أي أثر يذكر، تطور واتخذ منحاً خطيراً بفعل ذكاء الحبكة وقوة والسيناريو، فقد تبدل الحال كلية بعد عدة مشاهد، على نحو تدريجي حثيث، وتقريباً دون أن يشعر المتفرج بكل هذا، فرويداً رويداً يكتشف مع بطلة الفيلم أن العودة إلى الوراء والنكوص عن ذلك الاتفاق قد باتت بالفعل متأخرة جداً.
وأن الاتفاق الذي بدأ بمنتهى اللطف والبراءة والسعادة والأريحية بين الطرفين، سرعان ما ينقلب، على امتداد تسعين دقيقة، إلى دراما شديدة الإثارة تجعلنا بالفعل نمسك أنفاسنا طوال الفيلم، ومع النهاية نكتشف أننا لم نكن بصدد فيلم إثارة أو حركة أو رعب صرف، وإنما مزيج من كل هذا في إطار يغلب عليه بالأساس الطابع النفسي الشديد القوة، والبالغ التعمق في أغوار الشخصيات التي يقدمها لنا على الشاشة دون أي افتعال من جانب المخرج ولا الممثلين.
تحاول كارولا أن تتراجع بعدما أخذت تدرك ما يحيق بها، لكنه تراجع غير حاسم، فهي بحاجة للاعتماد على شخص في حياتها وليس للاستقلال، إنها عاجزة فعلاً بمعنى الكلمة، وتعيش حالة من الوهم يبدو معها أنها لا تريد الخروج منها ولا أن تُصدّق الواقع، وروجر بدوره، يدرك هذا جيداً ويملأ كل تلك المناطق، فهو يعرف هدفه جيداً، وبهدوء شديد الإفراط يبسط نفوذه على كل أوجه الحياة الأسرية كأنه حقاً هو رجل البيت، وبالفعل، نراه ماثلاً في أغلب المشاهد، وحتى في حالة عدم وجوده، نرى آثار ما خلفته يداه هنا وهناك بالمنزل.
والمثير في الأمر أن المنزل الجميل حقاً، قد تحول على امتداد الفيلم إلى موقع بناء وهدم وتبدلت معالمه كثيراً، وبالرغم من ذلك فلم تعمل التدفئة، الأمر الذي يثير عند كارولا الشك في مدى مهارة وحرفية روجر، فتبدأ ترتاب فيه وفي نواياه، التي لا تعرفها حقاً، لا سيما وقد أخذ بالفعل يدخل تعديلات هنا وهناك على تصميم وديكورات المنزل.
هذا الشك يطلعنا على حقيقة روجر، بعدما تتبعته ذات يوم بعد انصرافه، وعلى ظروفه البائسة وكذبته الكاملة، واكتشافها أنه مجرد متشرد يبحث عن مأوى وأسرة، وكيف أنه حتى بعدما اكتشفت كارولا أمره، لم يبال قط، بل وواصل ما اعتزمه منذ أول يوم دخل فيه المنزل، وهو احتلال حياتها ومنزلها احتلالاً كاملاً بموجب ذلك الاتفاق الشفهي بينهما.
ومع ذلك، لا يتصاعد الصراع إلا مع اشتداد وطأة الضغوط من جانب ابنة كارولا، النافرة منذ البداية من روجر وابنه، والتي تترك لها المنزل بالفعل، وعندما بات الأمر متعلقاً بالأمان الشخصي المُهدد بالانهيار، وبالدمار النفسي الوشيك، الذي لا يقل عن دمار المنزل، أخيراً تتحرك كارولا، وتُقدمُ حتى على التجرأ على اقتراف جريمة تُنهي وتُجهزُ بها على حياة ذلك الكابوس المدعو روجر، الذي أدخلته لحياته بكامل إرادتها الحرة.
وحتى مع نهاية الفيلم لا تتنفس كارولا الصعداء، إذ تعرف عبر الهوائي الخاص بأحد الشرطيين أن روجر لم يمت، وأنه لم يتم العثور على أحد بالمنزل، الأمر الذي نرى تباعاته على عيون كارولا وابنتها الجالستين في عربة الإسعاف، أي أن التشويق لا يتوقف حتى مع نزول التترات الختامية.
إن “الاتفاق” يُمسك بأنفاسك فعلاً، ويجتاحك تدريجياً منذ مشاهده الأولى، برغم البناء الخطي للقصة، ووحدة المكان والزمان، وقلة الشخصيات والأحداث.
والفيلم الذي لا يمكننا تصنيفه نوعياً، كفيلم إثارة أو نفسي أو رعب خالص أو كل هذا معاً، يصعب علينا فك شفرة رسالته، فقد يعتبر رسالة عن تصدع الطبقة البرجوازية بالمجتمع الألماني أو رسالة تنبيه ضد ما لحق أو قد يلحق بالطبقة البرجوازية على أيدي الحاقدين المتطفلين، فالجدية الشديدة التي تتملك روجر، المتجهم طوال الفيلم، مفعمة بالأسى أو المرارة، وأحياناً تتصور أنها نابعة من حقده على كارولا وطبقتها وحياتها ومنزلها وابنتها اليافعة الذكية المتمردة، مقابل حياته البائسة وتشرده وابنه شبه المضطرب عصبياً ونفسياً، وكيف أنهم على النقيض في كل شيء.
وربما يكون الفيلم رسالة تحذير للمجتمع الألماني برمته ضد العناصر الدخيلة عليه، والطامعة في مكتسبات المجتمع والراغبة في انتزاعها دون وجه حق. أما المُرجح أكثر، أن الفيلم عن الضعف الإنساني، ومغبة الاستسلام لهذا الضعف من ناحية، ومن ناحية أخرى رسالة تنبيه لمدى خطورة بعض الأفعال أو التصرفات الحياتية التافهة التي لا يلقي لها المرء بالاً، وتتسبب لاحقاً في قلب حياته رأساً على عقب.
وربما أراد المخرج، بيتر بوسينبرج في ثاني أفلامه الروائية، أن ينسج لنا واقعاً كابوسياً على غرار عوالم كافكا، ناهيك بالطبع عن إمتاعنا بفيلم رائع على جميع المستويات، البصرية والتكوينية وحتى ملابس الأبطال التي لم تتغير على امتداد الفيلم، وبالطبع الأداء التمثيلي الشديد القوة في أغلب مشاهد الفيلم.
وفي نفس الوقت، وبرغم البراعة التمثيلية، إلا إن البطل الحقيقي فيه، هو المنزل، ذلك المكان الذي تدور فيه أكثر من تسعين% من أحداث الفيلم، والمثير للدهشة، أنه ومع انتقال الكاميرا إلى الخارج لضرورات درامية قليلة، يؤدي هذا إلى إثارة الضيق البالغ، لمفارقة المنزل لدقائق جد قليلة، دون معرفة ما الذي تعرض له أو طرأ عليه من تغيير خلال تلك الدقائق. وتلك كلها تُحسب للسيناريو المكتوب ببراعة.
إن الاهتمام الدقيق بكتابة السيناريو، الذي اشترك فيه مخرج الفيلم بيتر بوسينبرج مع كاتب السيناريو والمخرج “يال رويفيني”، والعناية بالتفصيلات الصغيرة، والمكان، وحركة الكاميرا المتميزة في ذلك الحيز المُحكم، بجانب قوة التمثيل، نقلت لنا صدق مقاومة كارولا، ممثلة المسرح والسينما المتميزة ستين ستنجايد، العاجزة فعلاً عن مقاومة سلوك روجر، الممثل أليس برانديمول، الذي شاهدنا له أكثر من أداء تمثيلي قوي حقاً بأفلام ألمانية متميزة المستوى، وبالتأكيد سيكون مستقبله واعداً بالسينما الألمانية.