كان – محمد هاشم عبد السلام

انطلاقاً من الذاتيّ، يُقدّم الإيراني جعفر بناهي “حادث بسيط” الفائز بالسعفة الذهبية للدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لـ”مهرجان كانّ السينمائي الدولي“، ليؤكّد عبره أنّه ليس ضرورياً أن يسرد المخرج سيرته الذاتية بحذافيرها للتحدّث عن نفسه، إذ يمكن الاكتفاء بمحطات فارقة، ليصنع منها عالمه الصادق والمؤثّر والمشوّق. لذا، يُعتبر جديده فيلماً ذاتياً جداً، يتوجّه به، وبما يطرحه فيه من أسئلة ملحّة وإشكالية، إلى نفسه أولاً، مستلهماً تجربته في الاعتقال والسجن، من دون أن يحيد عن توجيه إدانة صارخة إلى أي سلطة قمعية مسيئة، في بلده وفي غيره. كما فضح الآثار الغائرة التي تعرّض لها من تجاسروا يوماً على التمرّد والاحتجاج ورفض القمع.
ربما تبدو الخيوط العامة للحبكة مُتناوَلة بأساليب ومعالجات مختلفة. البشر متشابهون، كذلك تجاربهم وخبراتهم المؤلمة. لذا، ليس للحكاية أهمية بالغة بقدر التأمّل في جرأة بناهي في الطرح السياسي والمواجهة المباشرة والتمعن في خطابه الذاتي، والأسئلة التي يطرحها على نفسه. ومنها، كيفية التصرّف لو كان مكان شخصيات فيلمه، المستلهمة ممّا تعرّض له. إذ يكشف “حادث بسيط”، صراحة وبشكلٍ مُفجع، ما عانته شخصياته المرسومة بإتقان، ويتساءل إن كان ممكناً تبرير استخدامها الأساليب الإجرامية نفسها التي استخدمها مضطهدوهم للتنكيل بهم. السؤال محوري، كدوافع الشخصيات وتصرّفاتها وردود أفعالها، وما ينطوي عليه من أخلاقيات، يطرحه بناهي على نفسه أولا، قبل المشاهدين.
فنياً، وبعيداً عما يحمله من قضايا وتأويلات وأسئلة سياسية وأخلاقية شائكة، وعن المباشرة والتناول البسيط للموضوع، يجب ألا يغيب عن البال تناول “حادث بسيط” في سياق سينما مخرجه. هكذا تظهر فيه فروقات كثيرة عن المعتاد، إلى مألوف أيضاً. من بين أفلامه (لم ينجز روائياً خالصاً منذ فترة طويلة)، يُعتبر جديده هذا الأكثر توظيفاً للممثلين غير المحترفين، الذين يقودهم باقتدار، بعد سنوات من عجزه عن القيام بهذا، بحرية.
يُلاحظ أيضاً ظهور أكثر من ممثلة من دون غطاء رأس، وهذا تحدّ، بل جرأة تحدّ لقوانين الرقابة في بلده. كذلك، استخدام لقطات طويلة، مُصوّرة في الخارج وليس خلسة كالعادة، أو في شقة أو سيارة أجرة، باستخدام هاتف أو كاميرا مخفيّين. هذا انعكس كثيراً على حرية الاشتغال السينمائي. لتوظيف الصوت أهمية كبيرة، إذ يُلاحظ أنّ أغلب الشخصيات عالية الصوت، ينتابها صراخ دائم أو صياح بعضها ضد بعض. إضافة إلى وقع الأقدام العرجاء ذات الدلالة البالغة التي فجرت القصة، وقادت الأحداث إلى التعقيد فبلوغ الذروة. للأمر وجاهته طبعاً، إذ من يتعرّض للتعذيب معصوب العينين، يكون الصياح والصراخ والصوت المرتفع وسيلته للتعبير، إلى جانب حاسة السمع المرهفة للتواصل مع المحيط. وبالأخص، التعرّف على الوقع المميّز للأقدام، لا سيما الاصطناعية منها.

يبتعد النسيج العام للرؤية البصرية، قليلاً، عن المعهود في الأفلام السابقة لبناهي. أما الجديد اللافت للانتباه، فقدرته على صُنع مواقف طريفة، وإثارة ضحكات عبثية غير مفتعلة. مع هذا، لم يحد كثيراً عن سينما التقشّف الخاصة به، وولعه بالتصوير في أماكن مغلقة، وحشر الشخصيات في إطار/مكان ضيق أو محدود. إذ إن مشاهد كثيرة تحصل في عربة “فان” مغلقة، تعكس مساحتها الضيقة والخانقة والمظلمة الكثير من دواخل الشخصيات وردود أفعالها.
في “حادث بسيط” (أو “كان مجرّد حادث”)، هناك إقبال (إبراهيم عزيزي)، المسؤول الأمني الذي، أثناء عودته إلى منزله ليلاً مع زوجته (أفسانة نجم آبادي) وابنته (دلماز نجفي)، يصدمه كلب، فتتعطّل السيارة. يتمكّن من بلوغ مستودع قريب طلباً للمساعدة. عندها، ينتقل الفيلم فجأة إلى وحيد (وحيد مبصری)، عامل بسيط يعاني آلام الكلى بسبب التعذيب، فيتعرّف إلى إقبال، بل يسمع وقع قدمه الاصطناعية. لأسبابٍ تنكشف تدريجياً، يتبعه إلى منزله. ثم يضربه ويخطفه، ويتجه به إلى الصحراء، ويحفر حفرة لدفنه فيها حياً. لكنّ الأمور تتعقّد في اللحظات الأخيرة، بعد أن يساوره الشكّ في أنّه إزاء الشخص الخطأ، وليس من أشرف على تعذيبه.
منذ تلك اللحظة، يكتسب الوقت أهمية جوهرية، إذ يصارع وحيد الزمن في توجّهه إلى أكثر من شخص تعرّض للتعذيب مثله، كي يتأكّد من الأمر. سريعاً، تمتلئ الشاحنة ببعض الضحايا، لكلّ منها قصة مؤثّرة. الجميع تحدوهم، في لحظات مختلفة، الرغبة نفسها في الانتقام ممن اعتدى عليهم شهوراً متواصلة. يتزايد التشويق أكثر، نظراً إلى عجزهم عن التيقّن من الأمر، فهم يجهلون وجهه، ودليلهم الوحيد ساقه الاصطناعية. حتى بعد التيقّن، يتساءلون: هل ينكّلون به، وينتقمون منه، أو يقتلونه؟ أي: هل يتحلّون بأخلاقياته وسلوكياته نفسها؟
يتعيّن الوقوف طويلاً أمام الطرح القوي لبناهي في “حادث بسيط”، لكونه الأكثر مباشرة وجرأة وتحدياً، كما أنّه لم يخلُ من تغيير فني في اشتغاله السينمائي، مقارنة بسابقه “لا دببة” (2022). مع ذلك، هل يعتبر الفيلم أهم ما أنجزه بناهي فنياً في مسيرته؟ تساؤل يثير أسئلة جمّة، يصعب حسمها لاختلاف الأذواق. لكنّه بالتأكيد ليس الأسوأ بين أفلامه.
يُذكر أنّ جعفر بناهي، بحصوله على السعفة الذهبية هذه، ينضمّ إلى مخرجين قلائل جمعوا الجوائز الثلاث الكبرى للمهرجانات المُصنّفة فئة أولى، كالإيطالي ميكلأنجلو أنتونيوني، والأميركي روبرت ألتمان، والفرنسي هنري ـ جورج كلوزو. فبناهي، قبل السعفة، فاز بالأسد الذهبي في فينيسيا عن “الدائرة” (2000)، وبالدب الذهبي في برلين عن “تاكسي” (2015).