محمد هاشم عبد السلام

كان اختيار الفيلم العراقي “كعكة الرئيس” The President’s Cake للمخرج الشاب حسن هادي للمشاركة في تظاهرة “نصف شهر المخرجين” (في مهرجان كانّ) في دورتها الـ57، مفاجأة غير متوقعة أبدًا، سيما وأن السينما العراقية كانت غائبة عن المحافل الدولية والعربية منذ سنوات طويلة. يضاف إلى هذا، وهو من الأمور المثيرة للغرابة، أن اسم مخرج الفيلم لم يكن معروفًا من قبل، أو بالأحرى يعتبر مجهولًا تمامًا في الساحة السينمائية العربية، ناهيك بالدولية، إذ لم ينجز حسن هادي إلا فيلمًا قصيرًا، ومونتاج حفنة أفلام قصيرة.

المثير للإعجاب أن “كعكة الرئيس” فاز بجائزة “أفضل فيلم” في التظاهرة. وهي جائزة تمنح بناء على تصويت الجمهور للأفلام المعروضة. ورغم أن الفيلم هو الروائي الطويل الأول للمخرج، وأول مشاركة عراقية خالصة في هذا القسم، وفي مهرجان “كانّ” بصفة عامة، فقد حقق حسن هادي مفاجأة كبرى بتتويجه بواحدة من أرفع جوائز المهرجان، “الكاميرا الذهبية”. وتمنح للفيلم الأول لمخرجته أو مخرجه، شريطة أن يكون من الأفلام اللافتة أو المتميزة المعروضة في مختلف مسابقات وفعاليات المهرجان. لا شك في أن الجائزة المستحقة، التي منحتها المخرجة الإيطالية وكاتبة السيناريو أليتشيا رورفاخر، ستفتح أمام الفيلم ومخرجه آفاقًا للتحليق في مهرجانات عالمية مختلفة، وتتيح له التوزيع في أسواق بلدان العالم. ناهيك بأنه سيكون خير ممثل للعراق في ترشيحات “أوسكار” العام القادم.

وبهذا الإنجاز، يعتبر “كعكة الرئيس” أول فيلم عراقي ينتزع جائزتين رفيعتين دفعة واحدة، في أول مشاركة له في مهرجان “كانّ”. وأول فيلم ومخرج عراقي يحصلان على هذه الجائزة الرفيعة، “الكاميرا الذهبية” منذ إطلاقها في عام 1978 على يد الناقد السينمائي ورئيس المهرجان السابق جيل جاكوب.

المخرج العراقي حسن هادي يتسلم جائزة “الكاميرا الذهبية”.

تدور أحداث فيلم “كعكة الرئيس” الذي يحمل أيضًا عنوان “مملكة القصب”، في تسعينيات القرن الماضي، خلال فترة حكم الرئيس السابق صدام حسين. تحديدًا، فترة الحصار الأميركي الخانق، والمتبدية تبعاته على كافة أوجه الحياة اليومية في الشارع العراقي. حيث تقنين المياه، وندرة الطعام، وشح الدواء، والتضخم الهائل. في ظل هذه الأجواء الكارثية، لا يستنكف الحاكم عن الاحتفال سنويًا بعيد ميلاده. أما زبانيته فلا يتورعون عن التهديد والوعيد والتنكيل بمن يفكر في التقاعس عن الاحتفال أو المشاركة في هذا اليوم. ناهيك عمن يتهرب من شرف المهام الموكلة لهم فيه، بمن في ذلك طلاب المدارس. وذلك، من دون أدنى اعتبار لمشاكل الجوع والفقر والتضخم وشح مواد الغذاء الأساسية، وما تعانيه البلاد والعباد من مصاعب حياتية.

عبر لقطة افتتاحية، طويلة ومحكمة وساحرة، لموقع نهري في أهوار العراق، حيث البيوت القديمة المبنية بعيدان القصب، والزوارق الرفعية كوسيلة وحيدة للانتقال، والذهاب والإياب، يفتتح المخرج حسن هادي فيلمه. رؤية فنية تكشف عما يخبئه المخرج من اهتمام بمستويات الصورة والسرد البصري، غير المتكلف ولا المصطنع، ودقة بكافة التفاصيل، جعلت الفيلم يفلت من العيوب المعهودة في التجارب الأولى. أمر يؤكده استعراض المخرج لقدراته في كتابة قصة بسيطة، مقنعة ومؤثرة جدًا، وصادقة قبل كل شيء، وذكاء بالغ تجلى في حوارات سلسة، وإسناد الشخصيات إلى صبية وصبي، ليحملا الفيلم ورؤيته على كتفيهما. مخاطرة كان من الممكن أن تدمر كل شيء، سيما وأنهما وبقية طاقم الفيلم ليسوا ممثلين محترفين. لكن حسن هادي قدَّمَ للسينما العراقية موهبتين رائعتين فعلًا، وخلق بينهما كيمياء أو حالة من التناغم والانسجام قلما توجد بين طفلين. ومن دون مبالغة، يعتبر هذا الاكتشاف والأداء الاحترافي الرفيع من جانبهما، تحت إدارة مخرج واع، من بين أجمل وأصدق الأداءات في السينما العربية. والفيلم إجمالًا – بالأخص الأداء الصادق للطفلين في أغلب المشاهد – يستدعي إلى الذهن روائع مماثلة في تاريخ السينما العالمية. ورغم التشابة أو التقاطع مع هذه الأعمال، إلا أن لتجربة حسن هادي خصوصيتها وفرديتها، وتتوفر على قدر كبير من الأصالة، دون شك.

يتمحور “كعكة الرئيس” حول رحلة الطفلة الفقيرة، ذات التسع سنوات، لميعة (بنين أحمد نايف)، التي تعيش مع جدتها المريضة على نحو خطير بالسكر، وغيره من الأمراض، بيبي أو فطيمة (وحيدة ثابت خريبات). لا نعلم الكثير عن خلفيتها الأسرية، عن والديها مثلًا أو ما حدث لهما. بإخلاص واجتهاد وبراءة، تحاول لميعة مساعدة جدتها في الشؤون اليومية المعتادة، البعيدة كل البعد عن أية أجواء تشجع على التعليم والدراسة. ومثل كل الأطفال، تود الهرب والتملص من القيام بالواجبات والذهاب إلى مدرسة، خاصة في يوم “السحب”. لاحقًا، نعلم عن هذا اليوم الذي يقام في أنحاء العراق، ويتم فيه إجراء قرعة نزيهة، قبل يومين من عيد ميلاد الرئيس، لاختيار المكلف بمهام جلب أدوات الاحتفال، وبالأخص إنجاز كعكة عيد الميلاد.

في ظل أجواء متوترة، وحرب وشيكة، وحصار خانق، وشح في مواد الطعام، وخراب الذمم والضمائر، يقع الاختيار على لميعة المسكينة لإعداد الكعكة، وعلى زميلها وصديقها وجارها سعيد (سجاد محمد قاسم) لجلب الفاكهة. ما يجعلهما ليس فقط في موقف لا يحسدان عليه، وهما الأكثر فقرًا، بل أيضًا في سباق محموم لإنجاز المهمة الوطنية المستحيلة تقريبًا قبل انقضاء الوقت. بهذه القصة البسيطة، الصادقة والقريبة من الواقع، يقدّم الفيلم رؤية إنسانية مؤثرة، تنقل قسوة الواقع ومرارته، وتتقاطع مع الحاضر أيضًا، وذلك بلغة سينمائية جيدة جدًا، وبسيطة للغاية، مؤثرة ومشوقة أيضًا، تجمع بين الرمزية والفنية والصدق.

لقطة من الفيلم العراقي “كعكة الرئيس” أو “مملكة القصب”.

من خلال توليفة رائعة، مغلفة بروح تتدرج بين الدراما المحبوكة المتوازنة جدًا، والأداء المقنع، والكوميديا السوداء النابعة من الخيوط الدرامية ذات المواقف البسيطة الآخذة في التعقد تدريجيًا، تتدفق الأحداث، بسهولة وانسيابية، عبر رحلة تسعى من خلالها لميعة وسعيد لجلب المطلوب. رحلتهما ليست عبر الزوارق المعتادة بمنطقتهما الفقيرة، بل عبر سيارة وسفر وطرقات طويلة إلى أقرب مدينة، حيث اختلاف الحياة وأسلوب وسلوكيات التعامل. هناك، نعاين الكثير من مفردات الحياة العراقية، وسلوكيات البشر خلال فترة من أحلك الفترات. ونلامس مدى ثقل المهمة، وعسر التحصل على المطلوب نظرًا لشح الدقيق، واختفاء السكر، وصعوبة التحصل على البيض أو توفر الفاكهة.

أيضًا، كان للمواقف غير الإنسانية التي تعرّضا لها، خاصة لميعة، أبلغ الأثر على ردود أفعالهما وسلوكياتهما وتصرفاتهما. إذ، بعدما هربت من جدتها، وبات سعيد هو رفيق الدرب الوحيد في رحلتها الملحمية، تعرضت لميعة لمواقف غير متوقعة ولا مسبوقة. مثلًا، يلتقيان بقالًا يستغل جنسيًا امرأة جائعة وحامل، ويغريهما بتوفير السكر حال حراستهما لهما ريثما ينتهيا، أو النصب عليهما ومنحهما نقودًا مزيفة، أو سرقة ديك لميعة الحبيب “هندي”. وغيرها من المواقف المُزلزلة، وكان أقساها نجاتها بصعوبة من مخالب عجوز حقير مفترس وسيء النية، حاول اصطحابها للسينما بعدما أقنعها بالعثور على ديكها.

بنبرة هادئة ومتمكنة، يطلعنا حسن هادي على قصة جيل (أو حتى أجيال) جُرّد من طفولته وانتهكت آدميّته وفقد براءته، وكيف حلَّ الخوف محل اللهو واللعب والفرح والانفتاح على العالم، واستبدلت الأحلام بالطاعة العمياء، والألم والرعب؛ قصة جيل، كابد فساد نظام، وأجبرته الظروف على النضج قبل الأوان، ومعاينة قبح وفساد وقسوة العالم من حوله، وفوق هذا مكابدة ألم الفقد والفراق. إذ يعكس سيناريو الفيلم – بطبقاته المتعددة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا – الذي كتبه المخرج باحترافية شديدة، تعقيدات الحياة اليومية في العراق، وصنوف القهر المتعددة التي عاناها الشعب في ظل الحكم الاستبدادي. وإن كان الإطار العام، لما نسجه وسرده في الفيلم، ينسحب أيضًا على بلدان عربية كثيرة، أو أية بلاد تخضع أو خضعت لحكم استبدادي، كذلك، تنطبق الفكرة العامة والخيوط العريضة على أي نظام بطريركي الطابع، حتى على مستوى الأسرة الصغيرة.

اللافت للنظر التواجد السينمائي العراقي المكثف والملحوظ هذا العام. إذ بعد تمثيل لافت في “مهرجان برلين السينمائي الدولي” بفيلم روائي قصير بعنوان “تحتها تجري الأنهار” للمخرج علي يحيى، وحصوله على “تنويه خاص”، لم يتوقف الأمر عند اختيار “كعكة الرئيس” وفوزه التاريخي في “كانّ”. فقد وقع الاختيار أيضًا على ترميم فيلم “سعيد أفندي” للمخرج كاميران حسني، وهو من أفلام فترة منتصف خمسينيات القرن العشرين الماضي، وعرضه ضمن برنامج قسم “كلاسيكيات كانّ”.

كما أكدت وزارة الثقافة العراقية على المشاركة الدولية السينمائية من خلال التواجد في “سوق الفيلم”، وحضور بعض أهل الصناعة للترويج لمبادرة دعم السينما. إذ يبدو أن ثمة محاولة جادة للانطلاق بالسينما العراقية، وتواجدها على الساحة العربية والدولية بشكل فعال، سواء من خلال الأفلام، أو الإنتاج المشترك، أو إقامة المهرجانات الدولية والفعاليات المختلفة، وحتى إصدار سلسلة متخصصة في الكتب المؤلفة والمترجمة، وغيرها من المشاريع التي يرجى أن تخرج للنور سريعًا لإثراء الساحة السينمائية العربية. المرجو أن يكون التواجد العراقي، وبالأخص فوز “كعكة الرئيس”، حافزًا لصناعة السينما العراقية، وتحديدًا العمل على إعادة تأهيل دور العرض العراقية للعمل، وانتشارها مجددًا كما في السابق.

يُذكر أن الإيطالي من أصول عراقية حيدر رشيد كانت له مشاركة جد لافتة في تظاهرة “نصف شهر المخرجين” في عام 2021 بفيلمه المهم “أوروبا” (إنتاج إيطالي/أميركي). تجربة قدَّمَ من خلالها رؤية متميزة وفكرة مغايرة عن الهجرة والمهاجرين عامة، والعرب خاصة، إلى أوروبا. وعن المشاكل والصعاب والمستحيلات التي يخوضونها على الأراضي الأوروبية، سيما تخطي الحدود، وعصابات التهريب، والشرطة، إلخ، وذلك من خلال شخصية بطله “كمال” الفار من العراق إلى أوروبا، بحثًا عن حياة أفضل. ويُذكر أيضًا أنه جرى اختيار الفيلم وترشيحه لتمثيل العراق في مُسابقة “أوسكار” لعام 2022.