أجراها: تشارلز توماس صمويل
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
تعكس حجرة المعيشة في شقة أنطونيوني، حيث عقدت هذه المقابلة، أرقًا فكريًا بدلاً من أن تبعث الرغبة في الراحة. وباستثناء الأريكة الفخمة التنجيد، تم تأثيث الغرفة بشكل مقتصد غير مترف، لكن في كل مكان كانت ثمة كتب، وسجلات، ومنظومة واسعة من التحف العتيقة. يوجد فوق منضدة واحدة مجموعة من رؤوس السهام، ونصال السكاكين، وأسلحة أخرى أثرية. حشد من الأشياء النفيسة فوق عتبات النوافذ، من ضمنها الشبكة التلفزيونية التي كان يشير إليها ويتحدث عنها أثناء المحادثة. حتى منضدة القهوة الزجاجية الواطئة كانت مغطاة بتشكيلة من العلب، وقطع شظايا من تماثيل، ومنافض السجائر الضخمة وأشياء أخرى، بعضها غير محدد المعالم. الانسحاق يسيطر على الكل، أحيانًا لوحات صارخة، خصوصًا “ليكتينشتاين”[1] الذي جاء على ذكره أثناء المحادثة، والعظيم “فرانسيس بيكون”[2]، بشكل شبه تمثال نصف بشري مركب في كرسي مريح بسيط لكن، بالرغم من كل هذا، يبدو فاقد أحشائه الداخلية.
تحدثنا لمدة أربع ساعات، برغم الحرارة الشديدة، وانشغاله بالعمل في فيلمه “زبريسكي بوينت”. كانت أسئلتي تطرح عليه باللغة الإنجليزية، على الرغم من أنني دعوته، لأجل السرعة وتوفير الوقت، للإجابة بالإيطالية. زوجتي، التي كانت تتحدث الإيطالية بطلاقة، كانت موجودة في المكان لتفسر لي في التو أي شيء يستغلق عليّ فهمه. لاحقًا، تم إعداد النسخة بأكملها وترجمتها على نفقة أنطونيوني، لأنه رفض أن يترك شريط التسجيل من يديه. وذكر مفسرًا موقفه، إن مؤتمرًا حرًا مفتوحًا تم تسجيله مع الطلبة ولكن تمت إذاعته دون علمه، نظرًا لأنه كان قد وضع في سياق ملخص ما قاله تعليقات معينة حول طريقة المنتج لم يكن راغبًا في الإعلان عنها، وبالإضافة إلى ذكره معاناته السابقة مع هذا المنتج فقد ذكر بعض التعليقات السلبية عنه. ناهيك عن إنه لا يحب نبرة صوته ويفضل التقليل من انتشاره.
الصوت ناعم ومنخفض، العينين حزينتين، ورغم أن الوجه والجسم أصغر بكثير من سنواته الستين، فإن حيوية وقوة أنطونيوني الظاهرتين يفضحهما أسلوب قاتم كالح جدًا وسلسلة من التوترات العصبية التي تصبح أكثر حدة كلما وجد نفسه يجاهد من أجل الكلمات. بعد أسبوع من المقابلة، وعلى الغداء، أظهر مقدرة على الحصافة والاسترخاء، لكن بينما نتحدث الآن، يبدو مثقلاً بمحاولته الجادة للإجابة عن أسئلتي. بدأت، وأنا أتوقع أنه سيجد مشقة في الرد، بدأت بموضوع مألوف وعام.
تشارلز: لك قول مأثور شهير نصه: “بمجرد أن يتعلم المرء قاعدة أو قاعدتين من قواعد النحو السينمائي، فإن بوسعه أن يفعل ما يحلو له حتى لو حطم هذه القواعد”. إلى أية قواعد كنت تشير؟
أنطونيوني: القواعد الأكثر بساطة، القطع المستعرض، جعل الممثل يدخل من الجهة اليمنى إذا كان قد غادر قبل ذلك إلى يسار الإطار، الخ. هناك المئات من أمثال هذه القواعد التي يتم تدريسها في معاهد السينما والتي لها قيمة فقط حتى تبدأ فعلاً في إخراج الأفلام. كثيرًا ما قمت بتصوير شيء بسيط لأبين لنفسي كم هي غير مفيدة تلك القواعد. إنك تحطم إحدى هذه القواعد ولا يلحظ ذلك أحد، لأن الجمهور يرى فقط نتيجة “خطئك”، ومادامت النتيجة موقفة، فمن يهتم إذن بالقواعد!
تشارلز: “وقائع قصة حب”، أول أفلامك الطويلة، كان أداء الكاميرا فيه إبداعًا جديدًا ومبتكرًا، بالمقارنة مع فيلمك الثاني[3] “السيدة من دون زهرة الكاميليا”. على سبيل المثال، في “السيدة” أنت بانتظام تبرز الشخصية عندما تتحرك صوب الكاميرا، وذلك بالتأكيد طبقًا للقواعد، بينما في “وقائع قصة حب”، كما في أفلامك اللاحقة، نادرًا ما كنت تقليديًا. لماذا هذا؟
أنطونيوني: لا يمكنني الإجابة عن السؤال. عندما أقوم بتصوير فيلم لا أفكر على الإطلاق في كيفية تصوير شيء ما، ببساطة أنا أصور، هذا كل ما في الأمر. تقنيتي، التي تختلف من فيلم لآخر، فطرية وتلقائية تمامًا ولا تبنى أبدًا على أساس من اعتبارات مسبقة. لكنني أعتقد أنك محق في قولك أن “السيدة” يبدو أكثر تقليدية عن الفيلم السابق له، لأنني عندما كنت أصور الفيلم الأول، قمت بأخذ لقطات طويلة جدًا، متعقبًا بكاميرتي حركة الممثلين حتى بعد انتهاء المشاهد الخاصة بهم. لكن، أنت تعرف، “وقائع قصة حب” ليس أكثر ابتكارًا مما تلاه. فيما بعد قمت بتحطيم القواعد أكثر مما فعلت في السابق. أنظر إلى فيلم “المغامرة” وانظر بصفة خاصة إلى فيلم “تكبير الصورة”.
تشارلز: فيلم “تكبير الصورة” هو من أكثر أفلامك غير التقليدية. لكنني اهتممت بملاحظة ما يتعلق بحركة الكاميرا السابقة عليه وذلك في فيلمك التسجيلي القصير “عمال النظافة”، الذي يدور حول عمل “عامل النظافة”، أو العمل الحي للرسوم الهزلية، والذي يحتوي على الكثير من الخدع التصويرية كأعمالك التالية. إنني أفكر، على سبيل المثال، في أنك قصرت تصوير مشهد “الفيمتي” على ما انعكس في الكاميرا. ألا يتخطى الأمر حدود المصادفة حيث أن الفيلمين اللذين يحتويان على أكثر المشاهد المصورة تعقيدًا هما الفيلمان اللذان اهتما بالتصوير الفوتوغرافي؟
أنطونيوني: أنت على صواب في قولك أن “تكبير الصورة” هو من أكثر أفلامي غير التقليدية، لكنه غير تقليدي في المونتاج، وفي التصوير الفوتوغرافي أيضًا. يعلمونك في “سنترو سبير يمينتيل” ألا تقوم بعمل مونتاج للقطة أثناء الحركة. ومع هذا فعلت ذلك بشكل مستمر في “تكبير الصورة، يبدأ “هيمينجز” في السير نحو كشك التليفون – قطع يستغرق صورًا قليلة – لكنه يكون هناك في لمح البصر. أو لنأخذ المشهد الذي كان يلتقط فيه صورًا فوتوغرافية لـ “فيروشكا”، قمت بمونتاج صور كثيرة أثناء عملية الالتقاط هذه، إن القيام بتنفيذ ما يطلبه المدرسون في “سنترو” مشين جدًا.
تشارلز: هل إيقاع هذا المشهد كان يعني الإيحاء بعواطف المصور؟
أنطونيوني: إلى حد ما. أردت إعطاء الجمهور نفس الأحاسيس التي كانت للمصور أثناء التصوير. لكن، هذا النوع من الأمور شائع جدًا في السينما اليوم. بدأت منح نفسي هذه الصلاحيات المتاحة منذ وقت طويل، والآن أصبح تجاهل القواعد هو التصرف المعتاد بالنسبة لمعظم المخرجين.
تشارلز: الآن أصبح المونتاج الذي قمت به في مشهد “فيرشكا” من أكلاشيهات الإعلانات التلفزيونية.
أنطونيوني: نعم.
تشارلز: إن هذا لا يزعجك، ها؟ حسنًا، دعنا نرجع إلى السؤال المتعلق بتقنية الكاميرا. لماذا لا تقوم إلا نادرًا جدًا باستخدام القطع العكسي في المشاهد الحوارية؟
أنطونيوني: لأنه مبتذل جدًا لدرجة أنني بالغريزة أجده مثيرًا للسخط، بيد أنني أحيانًا ما أستخدمه، حتى أنني استخدمته مؤخرًا في ” زابريسكي بوينت”. لكنني عادة ما أحاول تجنب تكرار أية لقطة. ليس من السهل أن تعثر على لقطة مكررة في أفلامي. ربما، على ما أظن، ترى شيئًا ما مرة أو مرتين لكن هذا سيكون نادرًا. ثم، كما تعرف، كل خط يتطلب نوعًا من التصوير الخاص به. الطريقة الأمريكية الخاصة بتصوير ممثل واحد بشكل متواصل ومستمر، ثم الانتقال إلى شخص آخر، ثم القطع المتبادل لكليهما طريقة خاطئة. يجب أن يكون للمشهد إيقاعه الخاص به، هيكل أو بنية خاصة به.
تشارلز: تدريجيًا وعلى مدار مهنتك، يبدو أنك تطمس اللحظة المحددة للقطع وأنك تتحاشى الانتقالات الواضحة، تقريبًا كما لو أنك تتمنى منع المشاهدين من الاسترخاء. نظرًا لحقيقة أن أفلامك اللاحقة تحكي القصص الرصينة ببطء، ألا تحاول الوصول عن طريق التدفق إلى السرعة بنفس الطريقة التي تقوم فيها بالقطع؟
أنطونيوني: إذا كان الأمر كذلك، فإنه غريزي. أنا لا أعمل شيئًا في هذا عن عمد.
تشارلز: هذا ليس صحيحًا. أخبرت “ريكس ريد” أن جميع أفلامك صنعت بمعدتك، باستثناء “تكبير الصورة”، الذي صنع برأسك.
أنطونيوني: في “تكبير الصورة” استخدمت عقلي بشكل غريزي.
تشارلز: كش ملك، وضعتك في مأزق. عندما عقد بيانكو نيرون مقابلة معك في عام 1958 قلت أن المخرجين الجدد تخلصوا من “مشكلة الدراجة”.
أنطونيوني: ما الذي كنت أعنيه بهذا؟
تشارلز: أنا اعتقدت أنك تقصد الدافع الاجتماعي الخاص بسلوك الشخصية، وأنت بالتأكيد تركز على قوة الشخصية، على النفس بدلاً من المجتمع. لكن، بالرغم من أن شخصياتك لا تحركها دوافع اجتماعية، إلا أنها منغمسة في السياق الاجتماعي، وهو ما يعطي أفلامك ثرائها وغناها غير العادي. لذلك، أعتقد أن تصريحك في 1958 يدل على ما هو فعلاً اختلاف زائف.
أنطونيوني: أنت تعرف ما أريد أن أفعله: أن أصنع الفيلم بممثلين يقفون في أرض فضاء حتى يتوجب على المشاهدين تخيل خلفية الشخصيات. لم أصور حتى الآن مشهدًا لا يضع في الاعتبار خلفية الممثلين لأن العلاقة بين الناس والبيئة المحيطة بهم لها الأهمية الرئيسية. أعني ببساطة أن أقول إنني أريد أن تقترح شخصياتي الخلفية الخاصة بها في ذواتها، حتى ولو كانت هذه الخلفية غير مرئية. أريدها أن تكون من القوة لأن تدرك أننا لا نستطيع تخيلها بمعزل عن سياقها الفيزيقي والاجتماعي الخاص بها حتى عندما نراها في مساحة فارغة.
تشارلز: بسبب عينيك المعبرتين عن التفاصيل، تقوم فعلاً بربط شخصياتك بخلفياتها. في الواقع، كلما تمعن المرء في أفلامك، يراك تعتمد بشكل أقل فأقل على الحوار وأكثر فأكثر على البيئة الطبيعية لخلق وتكوين شخصياتك.
أنطونيوني: نعم.
تشارلز: ما الذي كنت تقصده في البيان المصاحب لفيلمك “المغامرة” في مهرجان “كان” عندما قلت إن الإنسان مثقل في بداية عصر الفضاء بالمشاعر غير المناسبة كلية لاحتياجاته؟
أنطونيوني: كنت أقصد بالتحديد ما قلته: إننا مثقلون أو محملون بعبء ثقافة لم تتقدم مثلما تقدم العلم. إنسان العلم بالفعل فوق سطح القمر، وحتى الآن نحن لا نزال نعيش بالمفاهيم الأخلاقية لـ “هوميروس”، وهنا يكمن المأزق والاضطراب، هذا الاختلال في التوازن الذي يجعل الناس الضعاف قلقين وخائفين، حيث يجعل من الصعب جدًا عليهم التأقلم مع آليات الحياة الحديثة.
تشارلز: أنا أفهم هذا المدى جيدًا واستوعبه، لكنني متحير بشأن بعض المضامين. هل تقصد أن تقول ضمنًا أن حزمة العادات الأخلاقية القديمة يجب التخلص منها؟ إذا كان هذا هو ما تعنيه، فهل هذا ممكن؟ هل بوسع الإنسان تصور مفاهيم أخلاقية جديدة؟
أنطونيوني: لماذا الاستمرار والإيغال في استخدام تلك الكلمة التي أمقتها! نحن نعيش في مجتمع يجبرنا على الاستمرار في استخدام هذه المفاهيم، ولم نعد نعرف ما الذي باتت تعنيه. في المستقبل – ليس بعيدًا ربما بحلول القرن الخامس والعشرين – سوف تفقد هذه المفاهيم علاقاتها أو صلاتها بالمجتمع. أنا لا أستطيع أن أفهم كيف كنا قادرين على اتباع هذه المسارات البالية، التي استسلمت للذعر في مواجهة الطبيعة. عندما يجبر الإنسان الطبيعة على القبول والإذعان، عندما يصبح الفضاء خلفيته الحقيقية، ستفقد هذه الكلمات والمفاهيم الأخلاقية معناها، ولن يتوجب علينا استخدامها بعد.
تشارلز: دعني أربط بين تصريحك ولحظة في واحد من أفلامك. في نهاية “المغامرة”، يعترف “ساندرو” بأن انحلاله أضر “بكلوديا”، التي كانت له معها علاقة من أقوى وأعمق العلاقات في حياته، بقدر ما عرفنا. هل تريدنا أن نعتقد أن ذنبه أو ندمه الناجم عن ذلك (والذي دفعه إلى البكاء) يعتبر خطأ لأن ما يجعله يشعر بهذا الذنب هو مفاهيم الحب الرومانسي والمسئولية الشخصية التي أصبحت أعباء بلا مبرر الآن؟
أنطونيوني: “ساندرو” شخصية في فيلم تم تصويره عام 1960 ولذلك فهو منغمس كلية في مثل هذه المشاكل الأخلاقية. إنه إيطالي، كاثوليكي، ولذلك فإنه ضحية لهذه الأخلاقية. ما قلته منذ لحظة هو أنه لن تكون لمثل هذه المآزق أو المعضلات الأخلاقية تواجد في المستقبل؛ الذي سيكون بدوره مختلفًا عن الحاضر. نحن اليوم نبدأ فقط في لمح هذا المستقبل، لكن في عام 1960 كنا نعيش في بلد مع البابا والفاتيكان، اللذين كانا دائمًا مهمين جدًا بالنسبة لنا جميعًا. حتى الآن ليست هناك مدرسة في إيطاليا، ولا محكمة دون صلبان معلقة بها. لدينا المسيح في بيوتنا، ولذا مسألة الضمير، التي يتم غرسها فينا كأطفال ستصبح فيما بعد لا فكاك منها، ولن تكون هناك نهاية للمشاكل التي سيتعين علينا خوضها من أجل التخلص منها. كل الشخصيات في أفلامي تجابه هذه المشاكل، تحتاج إلى الحرية، تحاول العثور على طريق لبدء بداية جديدة تمامًا، لكن تفشل في التخلص من الضمير، والإحساس بالإثم، وكل ما في الجعبة أو الجراب.
تشارلز: لا أعتقد أنك تطرح شيئًا ما هو فقط مسألة زمن. هل ما تطرحه جيد بدرجة تكفي للاستغناء عن جعبة الحيل، كما أطلقت عليها؟ أتساءل إن كان علينا ألا نفخر كثيرًا بهذه التقاليد التي تعود إلى “هوميروس” أكثر من الرحلة إلى القمر. أتحدث فحسب عن نفسي – لا، أنا متأكد أنني أتحدث بلسان الآخرين أيضًا – نهاية “المغامرة” قوية جدًا لأن لدى “ساندرو” ضميرًا يجعله قادرًا على الأسف عما فعله. للشعور بهذا الأسف، يجب على الإنسان أن يؤمن بالأهمية السامية للمسؤولية الإنسانية، وأنا لا يمكنني تصور الفن بدون ذلك الإيمان.
أنطونيوني: أريد أن أوضح أنني أتحدث فقط عن الأحاسيس. أنا لست بعالم اجتماع ولا بسياسي. كل ما يمكنني عمله هو أن أتخيل لنفسي ما سيكون عليه المستقبل. اليوم نجد أنفسنا وجهًا لوجه مع بعض الحقائق الغريبة والجديدة. على سبيل المثال، ولدت الحركة الشبابية اليوم تحت لافتة الفوضوية. إنها صنعت الفوضوية للإشارة إلى مجتمع جديد سيكون أكثر مرونة، ويقوم على أساس النظام الذي يمكن، بدرجات أو مستويات ما، أن يتماشى مع الأحداث المعاصرة، ومع الحقائق والحاجات الضرورية. من ناحية أخرى، هؤلاء الشباب ينظمون أنفسهم في الجماعات الروحانية، يجب أن أعترف أن هذا يزعجني إلى حد ما. أنا لم أعد أعرف ما الذي يسعني التفكير فيه… لا أريد أن يبدو ما أقوله كنبؤة أو كشيء يبدو كتحليل للمجتمع الحديث… تلك هي المشاعر التي تنتابني، وأنا أقل إنسان تأملي على وجه الأرض.
تشارلز: مضمون ما تقوله فيما يتعلق بفيلم “تكبير الصورة” يأسرني. ألم توحي بأنك كنت تقصد تصوير الشباب في ذلك الفيلم بشكل إيجابي؟
أنطونيوني: نعم، نعم “تكبير الصورة” مؤيد لشباب تلك الفترة الزمانية والمكانية تحديدًا. أنا لا أعرف ما الذي سأشعر به إذا بدأت في دراسة جماعات بعينها في إيطاليا، على سبيل المثال، هؤلاء الذين يجب أن أعترف فقط بالمعرفة الأكثر غموضًا وإبهامًا تجاههم.
تشارلز: لكنني أجد أن الفيلم انتقادي، وآخرون يرون نفس الشيء. على سبيل المثال، استرجاع مشهد مسيرة السلام، حيث يسير الشباب حاملين لافتات تقرأ فيها “انطلقوا”، “سنواصل”، “إلى الأمام”. تلك هي المحاكاة الساخرة (البارودي)، ومع ذلك تقول أنك اعتزمت لها أن تكون مناصرة ومؤيدة.
أنطونيوني: عندما يتم تصوير مشهد، فإنه من الصعوبة بمكان أن يعرف المرء ما الذي يرغب في أن يقوله المشهد، وحتى إذا عرف فعلاً، فثمة اختلاف دائمًا بين ما يكون في تصور المرء، وما يكون عليه الفيلم. أنا لا أفكر أبدًا بشكل مسبق في اللقطة التي سأقوم بتصويرها في اليوم التالي لأنني لو فعلت هذا، فإنني سأقدم تقليدًا أو محاكاة سيئة للصورة الأصلية التي في ذهني. لذلك فإن ما تراه على الشاشة لا يعكس أو يقدم المعنى الذي قصدته بالتحديد، لكن فقط إمكانياتي في التعبير، ربما بكل الحدود التي تتضمنها تلك العبارة. ربما تكشف عن عدم قدرتي على عمل الأحسن، ربما شعرت تجاه الفيلم بسخرية لا شعورية. لكنه مجرد فيلم، والباقي متروك لك.
تشارلز: شاهدت في الأسبوع الماضي للمرة الأولى فيلمك الوثائقي عن الإيمان بالخرافات لدى مزارعي القنبيط. وصُدمتُ بالتشابه بين هؤلاء الفلاحين والهيبيز الذين تؤمن بهم.
أنطونيوني: أية تشابهات؟
تشارلز: الهيبيون أيضًا يؤمنون بالخرافات. الفلاحون لديهم ساحرهم، والهيبيون معلم روحاني. الهيبيون يلبسون الأحجبة، التي بالضبط تشبه ثمرة القنبيط. هل هم المستقبل فعلاً؟ ألا يحملون حقيبة بها حزمة من الأخلاق، ويمارسون عادات بالية، حتى أنها أكثر قدمًا من التقليد الأخلاقي الذي تجد جعبته عبئًا ثقيلاً جدًا؟
أنطونيوني: أعتقد أن هذه التشابهات ناجمة عن رغبة الهيبيين في عدم إصلاح المجتمع الحالي، بل القيام بتدميره، والعودة عن طريق تدميره تقريبًا إلى العصور القديمة البائدة، حيث الأنقى، والمزيد من الحياة الأولى، الأقل آلية… وغير المبنية على نفس الأسس التي للحياة الحالية. وبذلك، يعودون إلى المنبع الأصلي، ومعلموهم أو زعماؤهم يتشابهون مع الساحر القديم في الإيمان بالتطير. لكنني لا أعتقد أنهم إذا وصلوا في أي وقت إلى مركز السلطة، إنهم سيعيدون بناء المجتمع بنفس الكيفية التي كانت عليها المجتمعات البائدة، لأن هذا سيكون من اللامعقول. إنهم بحاجة إلى إعادة النظر في المجتمع، ولا أحد يعرف إجابات حتى الآن.
تشارلز: لذلك، أنت لست معجبًا إلى حد كبير، في “تكبير الصورة” و”زابريسكي بوينت”، بسلوكهم الحالي على الرغم من الأمل في أنهم سينتجون شيئًا ما أفضل؟
أنطونيوني: تقريبًا. إنهم يؤمنون بإمكانية الحياة، هذا هو ما يظهرونه في تجمعاتهم البدائية. لكنني أعتقد أن التكنولوجيا سوف تشكل يومًا ما كل أفعالنا. لا أعتقد أن الأمر سوف يمكن تداركه، لن تكون هناك فرصة للمقاومة.
تشارلز: أنا مازلت متحيرًا. أنت تقول إن المستقبل يجب أن يكون محكومًا تكنولوجيًا، وعلاوة على ذلك، أنت بنفسك ترغب في ذلك. لكن بقدر ما يمكن أن أرى، توحي أفلامك برد فعل قوي ضد التكنولوجيا. في فيلم “الصحراء الحمراء”، على سبيل المثال، حيث يتحدث “كورادو” مع زوج “جوليانا” أمام المصنع. من المستحيل سماع الحديث بسبب الضوضاء، ويحول الدخان دون رؤية كل منهما للآخر. بعد ذلك يغلفهما الدخان حتى أننا نعجز أيضًا عن رؤيتهما. من ناحية أخرى، قمت بطلاء مواسير المصنع حتى تصبح جذابة إلى حد ما. من ناحية، تظهر أن الحياة التكنولوجية الجديدة سيئة، ومن ناحية أخرى، تقول إنها جيدة.
أنطونيوني: لكنني لم أقل أن التكنولوجيا سيئة، نحن لا نستطيع الاستغناء عنها. أقول فقط أن الناس الحاليين لا يمكن أن يتأقلموا معها. فقط ثمة تضارب مصطلحات: “التكنولوجيا” و”الشخصيات التي ليست على الموضة”. أنا لا أصدر الحكم، على إطلاقه جزافًا. لدى مدينة “رافينا”، قرب البحر، امتداد من المصانع، محطات تكرير، مداخن، الخ على جانب واحد، وغابة صنوبر على الجانب الآخر. كتبت في مكان ما أن غابة الصنوبر هي بدرجة كبيرة جدًا أكثر مللاً. أنظر إلى هذا على سبيل المثال، أجد هذه المكونات الخاصة بدائرة التليفزيون المنزلية إنها رائعة تمامًا. انظر! إنها رائعة. لذا أنت ترى، أنا معجب بالتكنولوجيا. إن الأجزاء الداخلية للكمبيوتر رائعة إذا نظرت إليها من الداخل – ليس فقط لوظيفتها لكن للطريقة المصنوعة بها، والتي هي جميلة في حد ذاتها. لو قمنا بتمزيق إنسان، فإنه سيكون مقززًا، أفعل الشيء نفسه مع الكمبيوتر تجده يظل جميلاً. في عام 2001، أنت تعرف، أفضل أشياء في الفيلم هي الآلات، والتي هي أكثر روعة من البشر الحمقى. في “الصحراء الحمراء”، واجهت أيضًا هذه التكنولوجيا وهذه الماكينات، مع الكائنات البشرية المتخلفة أخلاقيًا ونفسيًا، ولذلك كانوا غير قادرين تمامًا على تدبير أمرهم مع الحياة الحديثة.
تشارلز: أنت تقصد، إذن، أنه خطأ الإنسان وليس خطأ البيئة التي يمكنه أن يكيِّفها أو يضبطها، وأن هذا الإنسان بائس إلخ؟
أنطونيوني: نعم الحياة الحديثة صعبة جدًا بالنسبة للناس غير المستعدين. لكن هذه البيئة الجديدة في النهاية ستسهل إنشاء عقد علاقات واقعية بين الناس. على سبيل المثال، ذلك المشهد، تلك النفثة الضخمة من – ليست دخانًا – البخار والتي ترتفع في الهواء بين الشخصيتين. حسبما أرى، يجعل هذا البخار العلاقة أكثر حقيقية، لأن الرجلين ليس لديهما شيئًا ليقولاه أحدهما للآخر. أي شيء قد يظهر فجأة دون توقع سيكون كاذبًا وزائفًا.
تشارلز: نعم. لكن أليس من الممكن أيضًا أن تقول إنهما لا يتكلمان معًا لأن البيئة الخاصة بهما تحرمهما من حياة داخلية توفر لهما التواصل؟
أنطونيوني: لا. أنا لا أتفق معك. في تلك الحالة… انتظر، دعني أفكر للحظة. أعتقد أن الناس يتحدثون كثيرًا جدًا، هذه هي حقيقة الأمر. أنا كذلك، أنا لا أؤمن بالكلمات. يستخدم الناس كلمات كثيرة جدًا وعادة بطريقة خاطئة. أنا متأكد من أنه في المستقبل البعيد سيتكلم الناس بشكل أقل كثيرًا وبطريقة أكثر جوهرية وتركيزًا. إذا تحدث الناس بشكل قليل جدًا، فسيكونون أكثر سعادة. لا تسألني لماذا. في أفلامي تجد أن الرجال الذين لا يشتغلون بشكل مناسب ليسوا هم الآلات.
تشارلز: ليس هذا هو ما نناقشه؛ نحن نناقش السبب. هل هذا الشيء صعب تجنبه، حتمي في أرواح الناس أم هو شيء موجود في لحظة تاريخية بعينها؟
أنطونيوني: أنت تحاول أن تجعلني فيلسوفًا للحياة الحديثة، الأمر الذي لا يمكنني أن أكونه أبدًا. عندما نقول أن الشخصية في أفلامي ليست وظيفية، فنحن نقصد أنها لا تؤدي دورًا كشخص، لكنها تؤدي دورًا بالفعل كشخصية – هذا هو الأمر، إلى أن تتخذها أو تتعامل معها كرمز. عند تلك النقطة إنه أنت الذي لا يؤدي دورًا. لماذا لا تتقبلها ببساطة كشخصية، بدون الحكم عليها؟ اقبلها كما هي عليه. اقبلها كشخصية في قصة، بدون الزعم بأنه يعوزه المعنى الذي يكتسبه أو يشتقه من القصة هذه. قد تكون هناك معاني، إلاّ إنها مختلفة بالنسبة لنا جميعًا.
تشارلز: هناك فارق بين الحكاية والقصة. إنه لمن الممتع سماع المخرج، الذي تشبه أفلامه القصص إلى حد كبير وتكون أقل شبهًا بالحكايات، يطلب مني أن أتناول شخصياته وأتعامل معها كما لو كانت شخصيات في حكايات، أناس يظهرون وهم يفعلون أشياء، بدون مغزى واضح.
أنطونيوني: أنا لم أقل أنها بلا مغزى. أقول إن هذا يجب ألا يُستخلص ويتم تلقيه وتأويله من الفيلم طبقًا لميزان قيم موجود مسبقًا وقائم بالفعل. لا تنظر إلى شخصياتي كرموز لمجتمع محدد بذاته. انظر إليها كشيء يشعل أو ينير رد فعل داخلك، حتى تصبح هذه الشخصيات خبرات شخصية لك أنت. الناقد هو مشاهد وفنان بقدر ما يحول العمل إلى شيء شخصي خاص به.
تشارلز: ماذا لو قمت أنا بتأويل الفيلم إلى شيء خطأ؟
أنطونيوني: ليس هناك في الفيلم ما هو خارج ما تشعر به.
تشارلز: آه، ذلك هو “بيركلي”: إذا سقطت شجرة ولم يرها أحد، فإنها لم تسقط. هل تؤمن بهذا؟
أنطونيوني: كلا.
تشارلز: إذن الفيلم حقيقة موضوعية وبهذا يمكن أن يُساء فهمه. إلاّ إذا كنت راغبًا في أن تضفي معان بذاتها حيث ينبغي أن يجبر الفيلم المشاهدين على أن يفهموا هذه المعاني، يجب عليك أن تقبل كل شيء سخيف يقوله أي شخص، في هذه الحالة.
أنطونيوني: ما الذي يمكنني قوله؟ رأيت فيلمًا من إخراج صديق لي حيث هوجم الفيلم بقسوة من جميع النقاد وتم سحبه بناء على أوامر الرقيب. عندئذ كتبت إلى الصحف أشرح لماذا كان هذا الفيلم جيدًا. لكنني كنت الوحيد الذي أحب الفيلم، الوحيد في إيطاليا!
تشارلز: لكنك تتحدث عن التقييم، الذي هو شخصي بالضرورة. أنا أتحدث عن المعنى الموضوعي. على سبيل المثال، هل “ساندرو” في “المغامرة” شخصية ضعيفة أم قوية؟ “ساندرو” حقيقة، والحقيقة مساوية للضعف. أليس كذلك؟
أنطونيوني: لا، ليس صحيحًا. إنه شخصية قوية من زاوية ما.
تشارلز: أية زاوية؟
أنطونيوني: إنه قادر على الإقلاع عن شيء لم يعتقد يومًا أنه سيقوى على الإقلاع عنه. أنت بحاجة إلى قوة من أجل ذلك النوع من التنازل أو التخلي.
تشارلز: لماذا يبكي في نهاية الفيلم؟
أنطونيوني: لعدة أسباب. الرجل الذي يقتل الناس أثناء الحرب – ذلك فعل يدل على القوة والشجاعة – يمكنه أيضًا أن يصاب بأزمة وينهار ويبكي. إلا أن هذا لا يستمر طويلاً. ربما بعد عشر دقائق يتوقف عن البكاء. لكن قد يكون البكاء تحريرًا له من أزمته. من يعرف؟
تشارلز: إذا تصورت أنت أن بكاء “ساندرو” لا يعرضه للشبهة كشخصية شجاعة، فأنا أفترض أنك تعتقد أن شخصياتك الأخرى تمتلك الشجاعة. ومع ذلك معظمها يغلبها البكاء في اللقطة الأخيرة.
أنطونيوني: أين؟
تشارلز: بكاء البطلة في نهاية “وقائع قصة حب”.
أنطونيوني: كلا؟ نعم.
تشارلز: وعلى نفس الشاكلة واحدة من نهايات الأحداث في “المهزومون” و”الصرخة” وهي تعني الاحتجاج، الذي هو ما ينهي الفيلم…
أنطونيوني: و”نيني” في فيلم “الصديقات”…
تشارلز: و”ساندرو” و”فيتوريا” في “الكسوف”…
أنطونيوني: كلا. إن هذا الفيلم متفائل جدًا.
تشارلز: متفائل؟ لماذا، إن الحبيبين لن يرى أحدهما الآخر ثانية، أم أنهما سيلتقيان؟
أنطونيوني: كلا. إنهما لن يلتقيا أبدًا.
تشارلز: إذا أردت منا أن نكون متأكدين من هذا (دعنا نترك مسألة التفاؤل جانبًا الآن)، لماذا توحي الإشارة الأخيرة لـ “بيرو” بتغيير في شخصيته، فبينما هو هيستيري طوال الفيلم، نراه في النهاية يرفض الرد على تليفوناته، يستلقي إلى الخلف في كرسيه ويبتسم، بينما النسيم (الذي له تلميحات رمزية مهمة) يحرك شعره.
أنطونيوني: هناك أناس مثله يعيشون في كل مكان حولي، مليئين بالتناقضات، وبنقاط الضعف والقوة، الخ. شخصياتي غامضة. لنطلق عليها هذا. أنا لا أمانع. أنا نفسي غامض. من منا ليس كذلك؟
تشارلز: حسنًا، إذن، ماذا عن تصريحك بأن الفيلم متفائل؟ قلت ذات مرة إنه ألقى الضوء على مشاعر “ديلان توماس”: “يجب، أن يكون هناك، بعض اليقين، الجدير بالثناء، إن لم يكن بالحب، حسنًا إذن، فعلى الأقل باللاحب”. ألا تتسع هذه العبارة لأشياء نطلق عليها متفائلة؟
أنطونيوني: لا. إذا كان بوسع الشخصيات الإقلاع عن علاقاتها الغرامية الوليدة، فذلك لأن لديها ثقة بعينها في الحياة. وإلاّ، يكون الحديث بكلمات قديمة قبيحة، إنهم إذا اعتقدوا أنهم لن ينجوا من الحزن الناجم عن الحب، فإنهم لن يتخلوا أو يتنازلوا عن بعضهم البعض بل من الممكن أن يتقابلوا ثانية.
تشارلز: لكن الفيلم يبدأ بالتخلي (عندما تترك “فيتوريا” حبيبها الأول) وهو واحد من أتعس المشاهد في أفلامك. لماذا هذا التخلي كريه ومؤلم جدًا، بينما التخلي الحادث بعد ذلك علامة على التفاؤل؟
أنطونيوني: لأنه في المشهد الأخير ترفض “فيتوريا” تكرار الأمر مرة ثانية. هذا هو، لا تريد أن تعاني من وخزات الحب مجددًا. هذا هو تقريبًا المعنى في شكل كلمات.
تشارلز: وماذا عن النهاية؟ ألا ترمز إلى نهاية العالم: ذلك البيت الذي لن ينتهي أبدًا، ذلك الطوب الموجود على الأرض، مياه المطر التي تتدفق من البرميل، العنوان الرئيسي”السلام ضعيف”؟
أنطونيوني: هذا يظهر مدى خطأ هذه الطريقة في مشاهدة وتناول الأفلام، لأننا إذا رجعنا إلى هناك في ذلك المكان، فسوف نرى أن البيت قد تم الانتهاء منه!
تشارلز: جيد. دعنا نغير الموضوع. في أمريكا، كانت سرعة وإيقاع “تكبير الصورة” مفاجأة للجماهير التي اعتادت على أفلامك السابقة. هل تعتقد، ولو بطريقة لاشعورية، أنك أخرجت “تكبير الصورة” بسرعة رشيقة ردًا على النقد الموجه إليك بأن أفلامك “بطيئة”؟
أنطونيوني: مطلقًا لا. تم قطع الفيلم بهذه الطريقة لأنني شعرت أن هذه القصة احتاجت لمثل هذا الإيقاع، ولأن الشخصيات تتحرك بعصبية. أنا لم أفكر أبدًا في أي وقت في النقاد لأنني نادرًا ما أقرأ لهم.
تشارلز ما هي وظيفة لافتة النيون في “تكبير الصورة” تلك التي لا يمكن فهمها نظرًا لأنها ليست كلمة ذات معنى؟
أنطونيوني: لم أرغب في أن يتمكن الناس من قراءة هذه اللافتة، سواء أعلنت عن أحد المنتجات أو ما هو غير ذلك فهي غير ذات أهمية. وضعتها هناك لأنني احتجت مصدرًا للإضاءة في المشاهد الليلية. بالإضافة إلى ذلك، فضلت وضع لافتة قرب المتنزه. كانت موضوعة هناك لسبب واضح: لتكسر الجو الرومانسي.
تشارلز: هل تنزعج من النقاد الذين يريدون المضي إلى ما وراء ذلك المستوى من التفسير؟
أنطونيوني: كلا، لأنه، كما قلت، كل شيء في الفيلم هو خبرة خاصة بالمشاهدين. لأنه في النهاية، ما الذي يفعله المخرج؟ إنه ينقل ما يعتقد أنه قد رآه. لكن، يا إلهي، إن معنى الواقع أو الحقيقة، العيش كما نفعل وفق هوانا بما يوافق ذواتنا، ليس واضحًا دائمًا لنا. بإمكاننا أن نناقش حدثًا لساعات أو حتى شيء عُثر عليه في الشارع. ونفس الشيء ينطبق على الحدث أو الشيء المصور، باستثناء واحد هو أنني لا أطلب أبدًا تفسيرات لما أراه في الحياة الحقيقية، لكن مع الفيلم أسأل المخرج. لكن المخرج لا يعدو أن يكون إنسانًا. كثيرًا جدًا ما لا أستطيع إعطاء تفسير لأنني أرى الصور فقط، والصور هي ما أقوم بتحويله إلى الشاشة. كثيرًا جدًا ما لا تتضمن هذه الصور تفسيرًا، ليس هناك سبب أو مبرر لوجودها فيما وراء أو أبعد من ذواتها.
تشارلز: قلت منذ لحظة أنك نادرًا ما تقرأ النقد. أليس هناك نقد يبدو أنه مهم بالنسبة لك؟
أنطونيوني: أحيانًا أمسك بمجلة وأقرأ مقالة نقدية لفيلم حتى نهايتها، هذا فقط إذا استهوتني. لا أحب المقالات المسرفة في المدح لأن أسباب المديح تبدو خطأ أو غير متوافرة وذلك يضايقني. النقاد الذين يهاجمونني يفعلون هذا لمثل هذه الأسباب المتناقضة لدرجة أنهم يربكونني، وأخشى أنني إذا تأثرت بواحد ووافقته، أن أكون مذنبًا وفقًا لمقاييس الآخر.
تشارلز: أريد العودة إلى “تكبير الصورة”. فيما يسمى بتسلسل العربدة والقصف يرى المرء رجلين في الخلفية خلف النماذج. لماذا؟
أنطونيوني: ليس هناك سبب لهذا. إنهما المصوران اللذان لم ألحظهما ولذلك نسيتهما في القطع.
تشارلز: يبدو لي أن العبارة التي تضعها في مقدمة الطبعة الإيطالية لسيناريوهاتك ذات صلة محدد بـ “تكبير الصورة”: “نحن نعرف أنه تحت الصورة التي نكشف عنها هناك صورة أخرى أكثر حقيقية فيما يتعلق بالواقع وتحت هذه الصورة الأخيرة لا تزال هناك صورة أخرى تحت هذه الأخيرة، مماثلة مائة بالمئة للصورة الحقيقية الخاصة بالواقع وهي تحتها أو وراءها مباشرة، هي كيان جوهري، مطلق، غامض، ذلك الذي لن يراه أحد أبدًا أو ربما هو يكمن كأساس لتحليل أية صورة، أية حقيقة”.
أنطونيوني: أرغب في أن أقول بأن هذا ينطبق أكثر على خاتمة فيلم، “الخسوف”، أكثر مما ينطبق على “تكبير الصورة”، إلاّ أنه ينطبق أيضًا على “تكبير الصورة”. في المشهد الأخير من “الخسوف”، كنت أسعى إلى نوع من تحليل الأشياء.
تشارلز: ثمة اقتباس عنك يقول أن العنصرين الرئيسيين في التقنية الخاصة بك هما الكاميرا، والممثلين.
أنطونيوني: لم أقل أبدًا شيئًا كهذا. أين قرأته؟
تشارلز: لا أتذكر.
أنطونيوني: دائمًا ما يحرف الناس كلامي.
تشارلز: مثل “ريكس ريد”؟
أنطونيوني: لقد لفق تلك المقابلة بأكملها. أنا لم أقل أبدًا ما تنقله أنت الآن عني. فأنا دائمًا ما أقول إن الممثل هو فقط عنصر من عناصر الصورة، نادرًا ما يكون هو الأكثر أهمية. الممثل مهم بحواراته، بالمناظر الطبيعية المصاحبة له، بالإيماءة – لكن الممثل في حد ذاته لا شيء.
تشارلز: بالطبع، أفلامك معرضة للهجوم بناء على هذا الأساس. على سبيل المثال، لماذا تستخدم الكثير من الممثلين الأجانب الذين تحتاج أصواتهم للدبلجة إلى الإيطالية؟ لماذا تستخدم ممثل مثل “رتشارد هاريس”، الذي، من وجهة نظري، يبدو غير معبّر إلى حد بعيد؟
أنطونيوني: لا بد أن تكون الرسام الذي يأخذ قطعة الخيش أو الكنفا ويفعل بها ما يحلو له. نحن نبدو أكثر شبهًا برسامي القرون الماضية الذين كانوا يؤمرون برسم لوحات جصية على الجدران أو الأسقف بمقاسات معينة. قد يكون من بين الناس الذين سيحتوي عليهم الرسم الجداري، الأسقف، أو زوجة الأمير، الخ. الرسم الجداري ليس سيئًا لأن الرسام ببساطة كان يستخدم نماذجه من أناس في بلاط الأمير الذي طلب اللوحة ودفع له أجره. في الفترة التي كنت أخرج فيها “الصحراء الحمراء”، الممثل الإيطالي الذي كنت محتاجًا إليه كان مشغولاً، أو كان يطلب مالاً كثيرًا جدًا، أو لم يتوافر لي اسم مهم بقدر كاف. لم يكن “هاريس” اختيارًا مناسبًا – لكن ليس هذا لأنه ممثل أجنبي. ومع ذلك، اخترته، والخطأ خطئي. لكن فيما يتعلق بالصوت: لماذا لا يستحسن للسينما القيام بمثل هذا التغيير؟ الصوت الذي دبلجته ليتماشى مع الدور أفضل من صوت “هاريس” نفسه، الناعم والخفيض. احتجت لصوت قوي ليناسب صورة شخصية “هاريس”. لكن ينبغي عليّ أن أكرر، عندما نجد أنفسنا إزاء العقبات العملية التي لا يمكن التغلب عليها، يجب أن نمضي قدمًا. إما أن تقوم بعمل الفيلم كما تريد أو لا تعمله على الإطلاق.
تشارلز: دعنا الآن نتحدث عن الكاميرا. ما هو مقدار الاستقلالية الذي تعطيه لمصورك؟ بمعنى، هل “دي فينانزو” أو “دي بالما” الخ. يفرض أسلوبه على الفيلم الذي يصوره؟
أنطونيوني: لا. دائمًا ما أمليت إرادتي على المصور. علاوة على ذلك، كنت أختارهم من البداية وهم في بداية عملهم المهني، وبدرجة معينة، شكلّتهم بنفسي. استعنت بـ “دي فينانزو”، على سبيل المثال، في قطاعين من فيلم “الحب في المدينة”[4]: أتذكر أنه في ذلك الوقت كان غير معتاد على التعامل مع مصابيح الإضاءة الغامرة ذات الفولت العالي، حيث كانت مصابيح الإضاءة المتركزة – ذلك النوع من الإضاءة الذي اعتاد هو عليه في تسليط الإضاءة. جعلته يستخدم النوع الآخر، الخاص بالتصوير في المناطق الخفيضة ذات الإضاءة الضعيفة، وطلبت منه استخدام نوع خاص من المصابيح الزجاجية المنتفخة التي أتاحت بالضبط الجودة التي كنت أريدها. كان يستخدم نوعًا غير مناسب من أشرطة الأفلام حتى جعلته يستخدم النوع “كوداك”. الآن يشير في عقوده إلى أنه سيصور فقط بأفلام “كوداك”، كان عليّ إرغامه على هذا الاختيار، رغم أنه استمر في العمل بأسلوبه الخاص. “سكافاردا”، الرجل الذي قام بتصوير “المغامرة”، لم يقم بتصوير فيلم آخر في روعة تصوير “المغامرة”. في فيلمي القصير”إن. يو” استعنت بـ “فينتيميجليا”. كان أسلوبه في التصوير فاتنًا. لكن أنا الذي اخترت اللقطات، بل وحتى اللحظات التي يجب أن تلتقط فيها. سأقول:”سوف نبدأ في الثانية عشرة والثلث وننتهي في الثانية عشرة واثنتان وثلاثين، لأنه بعد هذا التوقيت لن تكون الإضاءة جيدة”. كل شيء يتوقف على ما تضعه أمام الكاميرا، وأية منظورات تبدعها، والتباينات، والألوان. بإمكان المصور القيام بأشياء رائعة، بشرط أن يكون ذو خلفية تقنية جيدة. إذا لم يمتلك الشخص المادة الخام أي الموهبة أو تلك الثقافة الفنية، فلا يمكنني بوضوح عمل أي شيء معه. لكن كل ما أطلبه في المصور هو خبرته التقنية. كل ما عدا ذلك متروك لي. كنت مندهشًا من اكتشاف أن المصورين في أمريكا قد فوجئوا بأن هذه هي الطريقة التي أعمل بها واستغربوا لها.
تشارلز: قلت في المقابلة التي عقدها معك “ألبرتو مورافيا” عن “زابريسكي بوينت” أن أمريكا مكونة من طائفتين من السكان: ثلثين من العجائز البغيضين، وثلث صغير السن ورائع. هل هذا هو ما تشعر به؟
أنطونيوني: حسنًا، ربما أسأت توزيع النسب. ثلثين وثلث تصريح مجازي جدًا، وأنا لا أعرف أمريكا كلها بدرجة كافية كي أقول هذا. من الواضح، أنه في أمريكا كما في أي مكان آخر، يجد المرء تناقضات في السكان، لكن لأنها بلد عنيف، فإن التباينات تبرز بوضوح. لذلك قلت إن “والاس”، والهيبي هم إخوة: كلاهما أطفال دولة تبلغ النهايات أو الحدود القصوى للتطرف.
تشارلز: قلت ذات مرة أن على النقاد ألا يتكلموا عن العناصر التسجيلية في أفلامك الرئيسية بل بالأحرى عن العناصر السردية في أفلامك التسجيلية الوثائقية. إذا استطعت، هل تفضل الاستغناء عن السرد؟
أنطونيوني: لا. أنا أرغب دائمًا في سرد القصص. لكن لابد أن تكون قصصًا متطورة، مثل حيواتنا الخاصة. ربما ما أبحث عنه هو نوع جديد من القصة. سأقوم في أفلامي القادمة بتغير أنواع القصص التي أرويها. والطريقة التي أحكيها بها.
تشارلز: هل تجد كونك مخرجًا شهيرًا يسبب لك صعوبات مع الناس الآخرين؟
أنطونيوني: نعم. هناك أوقات يؤدي ظهوري بكينونتي كمخرج إلى تغير المشهد. اللحظة التي أظهر فيها، يشعر الناس بقليل من الرهبة، وذلك يروعني. لأنني أريد أن أشعر بجزء من الجو الطبيعي. كثيرًا ما ألجأ إلى الحيل كي أقدر على رؤية الأشياء في حالتها الطبيعية. لكن تبقى الصعوبات، وأنا أجدها مزعجة جدًا.
تشارلز: تظهر أفلامك معرفة حميمية بالحياة الإيطالية الرغدة المرفهة الراقية. هل تدخل هذا العالم طوعًا أم للحصول على مادة؟
أنطونيوني: من الصعب جدًا القيام بالتمييز بين الحالتين. لا يدخل المرء في تجمعات الناس لأنه ببساطة يرغب في ذلك أو يحتاج إليه. يتاح للمرء عدد هائل من الفرص التي تحدث لأسباب غير محددة. أحيانًا تشعر بمتعة مفاجئة وغير متوقعة لكونك موجودًا حيث تجد نفسك. قد يكون السبب تافهًا جدًا، لِمَ لا؟ لست من النوع الذي يتعمد أن يحمل دفتر ملاحظات صغير في كل مكان ويدون جملاً أو عبارات من المحادثات التي يسمعها. أحاول عيش حياة بسيطة، حياة طبيعية. ما يبقى داخلي هو ما سأحتاج لاستنشاقه، وهو ما سأستعين به.
تشارلز: في مقابلة لي مع “جون إبدايك”، قال شيئًا راق لي: “كونك فنانًا أمر خطير لأنه يتيح للمرء القيام بتحويل ألمه بشكل سريع إلى عمل مربح”.
أنطونيوني: ليس بوسعي استخدام تلك العبارة اليوم “كوني فنانًا” – كما لو كان هذا شيئًا ما استثنائيًا. وإذا قام شخص بتحويل ألمه إلى ربح، فذلك مكسب جيد جدًا. أجد أن هذه أروع طريقة لقتل الألم.
تشارلز: لماذا تقول “اليوم”؟ هل بوسعك استخدام العبارة “كونك فنانًا” بالنسبة إلى فترات زمنية أخرى؟
أنطونيوني: نعم، بالطبع. أعتقد أن عصر النهضة كان فيه كل شيء متأثرًا بالفن. اليوم العالم أكثر انشغالاً إلى حد كبير عن الفن لدرجة لم يعد معها بإمكاني تخيل وظيفة مستقبلية للفن.
تشارلز: لكن اليوم ما هي وظيفة الفن؟
أنطونيوني: أنا لا أعرف.
تشارلز: أنت لا تعرف؟
أنطونيوني: هل تعرف أنت؟
تشارلز: نعم.
أنطونيوني: إذن قل لي.
تشارلز: هل تريد مني أن أقول لك ما هي وظيفة الفن! كلا، قل لي ما رأيك في “فرانسوا تروفو:؟
أنطونيوني: أعتقد أن أفلامه مثل النهر، جميل عند رؤيته، والاستحمام فيه، منعش ولطيف بشكل غير عادي. ثم ينساب الماء ويذهب. قليل جدًا من الشعور اللطيف هو الذي يبقى لأنني سرعان ما أشعر بالقذارة ثانية وأنني بحاجة إلى استحمام آخر.
تشارلز: هل تقصد أن أفلامه لا تبقى لأن صورها غير جديرة بالتذكر؟
أنطونيوني: نعم، هذا جزء من الأمر. كلا. إن صوره تمتاز بالقوة كصور “رينيه” أو “جودار”، لكن قصصه تافهة. أعتقد أن هذا هو ما اعترض عليه.
تشارلز: لكنني كنت أظن أنك لا تلقى بالاً بدرجة كبيرة لمغزى القصة.
أنطونيوني: “رينيه كلير” يسرد أيضًا قصصًا خفيفة، لكنها تمسني أكثر. لا أعرف لماذا لا يترك “تروفو” أثرًا عندي. أنا لا أحاول قول أنه ليس لديه أي مغزى. أقصد فقط أن الطريقة التي يحكي بها القصة لا تفضي إلى شيء. ربما هو لا يحكي نوعية القصص التي تستهويني. ربما هذا هو الأمر.
تشارلز: هل تكره طريقته في العمل لأنها تؤكد بشدة على التأثيرات الخادعة للكاميرا؟
أنطونيوني: لا توجد هناك أبدًا الصورة التي تصيبني بضربة في المعدة. أحتاج لهذه الضربات. “جودار”، من ناحية أخرى، يقذف بالواقع في قوة في وجوهنا. وأنا أتأثر بهذا. وليس “بتروفو” أبدًا.
تشارلز: دعني أرجع إلى أفلامك للحظة. هل كنت تريدنا في نهاية “المغامرة” أن نعتقد أن “ساندرو” و”كلاوديا” قد انجذبا إلى بعضهما البعض بفضل خبرتهما؟
أنطونيوني: لا. أنا لم أقصد قول شيء في تلك اللحظة باستثناء ما تقوله اللحظة نفسها: هنا قصة خاصة بشخصين – إلى حد ما قصتهما مختلفة – لكنهما، حاليًا، قريبان إلى حد ما. ما الذي سيكون عليه مستقبلهما أنا لا أعرف. لا يمكنني قول شيء فيما يتعلق به وأنا غير مهتم بالموضوع.
تشارلز: عندما أسألك عن المشهد الأخير في “المغامرة”، تقول إنه ليس باستطاعتك أن تخبرني بأي شيء فيما وراءه. ومع ذلك في وقت سابق، عندما قلت أنا تصريحًا عن نهاية “الخسوف”، تصديت لي بحقيقة تحدث في العالم الواقعي بعد انتهاء الفيلم. من ناحية، أنت تصر على أن وظيفة العمل الفني تتوقف وأننا نعرف ببساطة الكثير بقدر ما يخبرنا به، ومن ناحية أخرى، أنت تتحدث عن العمل كما لو أن حياته تنساب في الحياة التي استمد منها.
أنطونيوني: (صمت).
تشارلز: جيد. سأعود إلى فيلم “المغامرة”. دعني أخبرك بما تعنيه النهاية بحسب تصوري. نظرت “كلوديا” إلى “ساندرو”، وهي تعرف ما به تمامًا. هذا كل شيء.
أنطونيوني: نعم. وليس ثمة مغزى، لا تأثير ضروري على مستقبلهما. كثيرًا ما نربط أنفسنا بالناس الذين نعرف حدودهم كلها بشكل جيد جدًا، ثم ماذا بعد؟ أنت على صواب تمامًا. انتهت القصة.
تشارلز: لماذا تترك “آنّا” إنجيلها خلفها و”الليل كم هو رقيق”؟ هل اخترت الأخير ببساطة لأنك تحب “فيتزجيرالد”، أم مفترض أن الكتاب يشير إلى علاقة “آنّا” بأبيها؟
أنطونيوني: كلا. اعتقدت فقط أن “سكوت فيتزجيرالد” هو المؤلف الذي يمكن أن تقرأه فتاة مثلها.
تشارلز: هناك عدد كبير من اللقطات الطويلة في الفيلم لاتبدو موضوعية، وإنما هي تقترح أو تثير إلى حد ما منظور المتفرج. على سبيل المثال، في أحد المواقع سيارة “ساندرو” في الميدان. رؤية “كلاوديا” و”ساندرو” وهما يتحركان هنا وهناك. ثم يحدث لنا قطع على لقطة بعيدة مأخوذة من نهاية شارع يؤدي إلى الميدان، ثم نتعقبهما. هل يفترض هذا التنبيه إلى أن “أنّا” قد تكون هناك؟
أنطونيوني: إن هذه اللقطة هي الأكثر غموضًا في الفيلم. أعتقد أنه من المستحيل شرحها. أنا لا أعرف لماذا رغبت في تصويرها. أنا لا أعتقد أن “آنّا” كانت هناك، لا ينبغي أن أقول هذا، على الأقل. لكنه يكون مجهودًا كبيرًا أن أتذكر الحالة المزاجية التي كنت عليها عندما صورت تلك اللقطة. شعرت بالحاجة إلى لغز، يتمثل في التعقب. ذلك هو ما تشعر به، ولهذا السبب تتساءل عن الطريقة التي تم تصوير اللقطة بها. عرفت أن هذه اللقطة ستخلق ارتباكًا. أنا لا أدري أي لغز تم إبداعه، لكن قدرًا من اللغز هو ما كنت احتاجه.
تشارلز: سواء كان ذلك صحيحًا أم لا فقد صورت المشهد بالغريزة –
أنطونيوني: دائمًا ما أعرف إلى أين أريد المضي.
تشارلز: نعم. تتمتع ببعض الحس إزاء التأثير الذي يرغب فيه المشاهد. ما الذي أحاول لفت الانتباه إليه هو الأثر الناتج. انظر، يكتشف المشاهد في “المغامرة” أن “ساندرو” و”كارولين” يبحثان فعلاً عن “آنّا”، مضبوط؟
أنطونيوني: إنهما يبحثان عنها في البداية، لكن، تدريجيًا، ينسيانها.
تشارلز: بالضبط. والآن، إذا كان ذلك حقيقيًا، يجب على المشاهد أن يصبح مدركًا للاختلاف المتسع أو الفارق الهائل بين عملهما الفعلي والغرض الظاهري له. يجب علينا المحافظة على الشعور بأنهما لا يعملان ذلك بالقدر الكافي، إنهما يكابدان ميولاً أو دوافع لكنهما لا يرغبان حقًا في العثور عليها. لذلك نحن نتكلم في اللقطة عن، المسار الذي يجعلنا نشعر بأنه “ربما آنّا موجودة هناك. لماذا لا يمشيان عبر الشارع و……”
أنطونيوني: لماذا يجب أن تكون موجودة هناك؟
تشارلز: لِمَ لا؟ نحن لا ندري إلى أين ذهبت. يمكن أن تكون في أي مكان.
انطونيوني: أخبرني شخص ما أنها انتحرت، لكنني لا أصدق هذا.
تشارلز: أريد أن أسأل سؤالاً واحد فقط عن فيلم “الليل”. حتى بين النقاد الحساسين تجاه عملك سمعت استهانة وتقليل من قدر المشهد الأخير. يقولون إنهم يجدون من غير المعقول أن يتوجب على “ماستروياني” أن يكون قادرًا على الاستماع إلى قراءة “موريو” بدون أن يدرك أنها تقرأ خطابًا كتبه هو نفسه. علاوة على ذلك، حتى إذا كان هذا مقبولاً، فإن الأمر المتعلق بالزواج كان بالفعل ظاهرًا بوضوح من قبل وأن قراءة الخطاب زائدة عن الحاجة. ما هو رأيك في هذا؟
أنطونيوني: لا شيء على الإطلاق، يعطي الخطاب تصويرًا محددًا ودقيقًا عن الكاتب، إنه خطاب مكتوب ببساطة، يظهر كم كان محقًا في الاعتقاد بأن موهبته ليست على ما يرام. ربما كان ينبغي عليّ أن أجعل الخطاب مقروءًا بحيث لا تكون الكلمات مفهومة. لكن ربما عندئذ كان سيتولد لدى المرء انطباع بأنه كان خطابًا رائعًا جدًا، في حين أنه ليس حتى مجرد خطاب لطيف. وكان هذا مطلوبًا لأجل إيقاع التسلسل النهائي، الذي ينتهي بفعل جدير بالازدراء وغير ضروري وهو ممارسة الحب. بدون الخطاب – أقصد العاطفة التي يثيرها – بدون دليل نسيانه، حيث كان “ماستروياني” خاليًا إلى حد بعيد من الشعور، كان من الممكن أن يكون الفعل وحشيًا جدًا، وكان سيُحمّل بمغزى مختلف.
تشارلز: التحدث عن “الليل”، جعلني أتذكر موضوعًا آخر أردت أن أطرحه عليك: مسألة اللحظات المتكررة في أفلامك. في نهاية “الليل” تترك الكاميرا الاثنين في الفخ الرملي وتقوم بحركة محورية ( بان) عارضة فجر يوم جديد، بسخرية واضحة. يحدث نفس التأثير في فيلمك الأول الطويل، “وقائع قصة حب”، عندما يتقابل الحبيبان في القبة الفلكية. تحديدًا في اللحظة التي ندرك فيها للمرة الأولى استحالة علاقتهما، تستمر الإضاءة، مشيرة إلى يوم جديد.
أنطونيوني: كلا على الإطلاق. إن الضوء يستمر فقط لأن العرض قد انتهى.
تشارلز: ماذا عن النهاية في كل من “تكبير الصورة” والحادث الإنجليزي العرضي في”المهزومون” في ملعب التنس؟
أنطونيوني: يلعب الناس التنس في جميع أنحاء إنجلترا. للمشهدين غرضين مختلفين.
تشارلز: لماذا استخدمت ملعب التنس في “المهزومون”؟
أنطونيوني: لأنه كان قريب من دار القضاء ولأنني أردت أن أبرز أن هذا النوع من الحياة يتواصل بينما كان يحكم على إنسان بالموت. لعبة تافهة.
تشارلز: لكنك أشرت توًا إلى تشابه المعنى. في كلتا الحالتين تقترف جريمة قتل، ومع هذا ننتهي بلعبة تافهة.
أنطونيوني: إنها ليست تافهة. إنها لعبة جدية.
تشارلز: بدون كرة؟
أنطونيوني: نعم، بطريقة ما.
تشارلز: بأية طريقة؟
أنطونيوني: أنا لا أعرف بأية طريقة، لكنني أعرف إنها جادة. صورتها بجدية.
تشارلز: أود أن أعرف رد فعلك تجاه النقد الذي تناول أفلامك منذ “الليل” وحتى آخر فيلم لك. على سبيل المثال، نجد “داويت ماكدونالد”، الذي كان واحدًا من أشد معجبيك، قد شعر مؤخرًا أنك تظهر عوامل التأثير في الشخصيات بدون أن تفصِّل أو تبرز أسبابها تفصيليًا. ما رأيك في هذا؟
أنطونيوني: هل من المهم إبراز سبب ما تكون عليه الشخصية؟ كلا. إنها هكذا. هذا كل ما في الأمر.
تشارلز: أتفق معك في ذلك فيما يتعلق بجميع أفلامك باستثناء “الصحراء الحمراء”. نرى في أفلامك الأخرى شخصيات طبيعية في لحظات معينة، وكل أسئلتنا تدور فقط حول تلك اللحظة. لكن “جوليانا” مريضة، والمرضى يجعلوننا دائمًا في حاجة لمعرفة كيف أصبحوا هكذا.
أنطونيوني: للإجابة عن هذا السؤال، يجب عليّ القيام بإخراج فيلم آخر. كيف يصبح شخص ما مصابًا بمرض عصبي قصة طويلة ومعقدة.
تشارلز: لكن ألا يبين الفيلم أن بيئتها، بشكل ما، سبب في اضطرابها العصبي؟
أنطونيوني: نعم، لكن لا يصبح المرء عصبيًا ما لم يكن عنده – أقصد، يربط الاضطراب العصبي نفسه بأرض خصبة في داخل الشخص حيث يمكنه النمو والتطور عليها. هناك دائمًا أساس جسدي لكي تلعب البيئة دورها، وفقط بالدرجة التي يكون التركيب الجسدي للشخص عرضة لتأثيرها.
تشارلز: هناك شخصيات في “الصحراء الحمراء” تقاوم بيئتها، ولا تصبح مصابة بمرض عصبي. ما الذي يميز تركيبتهم ويغيب عن تركيبة “جوليانا”؟
أنطونيوني: أنا لا أعرف، لكن “جوليانا” كانت أكثر أهمية لي من الآخرين لأنها تمثل نسخة متطرفة عنهم. عندما كنت أبحث عن مواقع لتصوير “الصحراء الحمراء”، وجدت نفسي بين عائلات كاملة مصابة بمرض عصبي. إحداها، على سبيل المثال، كانت تعيش بالقرب من محطة كهربائية حيث كانت توربيناتها تدور ليل نهار. وجدت أن تلك الضوضاء كانت لا تطاق تقريبًا، بدرجة جعلتني أعتقد بحلول نهاية اليوم أنني قد فقدت عقلي. ورغم هذا، امرأة من تلك العائلة لم تشتكِ. بينما عندما أدرنا مولداتنا، جاءت إلى الباب وبدأت تصرخ فينا. لم تكن مولداتنا تمثل شيئًا مقارنة بالتوربينات، لكنك ترى، لقد أحدثت ضوضاء جديدة إضافية. كانت هذه المرأة مصابة بمرض عصبي دون أن تعرف ما هو. سوف تنفجر يومًا ما، بالضبط مثل “جوليانا”. إن في داخلها، ذلك الأساس المهيأ لأن تعمل البيئة فيه. من يعرف لماذا؟ ألعيوب وراثية، أمومية أو أبوية؟ هناك ألف سبب لتفسير عصابية الشخص. ثم ينفجر الاضطراب العصبي يومًا ما. هذا الانفجار هو الذي يثير اهتمامي.
تشارلز: في هذا الفيلم، هل أنا محق في الاعتقاد في أن اللون يعبر عن حالة “جوليانا” العقلية؟
أنطونيوني: نعم. إنه تحويل نفسي للمظهر من وجهة نظر العصابي.
تشارلز: لكن ثمة مشاكل. على سبيل المثال، في مشهد الفندق، النباتات الخ. بيضاء قبل أن تدخل هي الردهة. بمعنى أننا نرى تشويهات اللون التي لا تبدو كنتيجة لمنظورها.
أنطونيوني: إنه يصدمني كإفراط شديد يؤدي إلى الخطأ أو سوء الفهم الادعاء أن كل اللقطات يجب أن تتغير لتلائم وجهة نظر “جوليا” وتلك الخاصة بأي شخص آخر لا تكون كذلك. العالم بأكمله متحول متغير من حولها.
تشارلز: بالنسبة لنا أيضًا؟
أنطونيوني: ليس بالنسبة لنا. أقصد أنها مدركة أن العالم كله محتشد من حولها.
تشارلز: دعني أطرح مسألة مشابهة حول نقطة أخرى. في مقابلتك مع “جودار”، سألك عن التتابع أو التسلسل عندما يخبر “كورادو” العمال عن “باتاجونيا”. فجأة يحدث قطع عنه إلى الحائط، ثم تتحرك الكاميرا حركة حرة (بان)، تميل إلى أعلى، إلخ. قلت إن هذا كان عقل “كورادور” وهو يفكر في “جوليانا”. أجد أنه من الصعب قبول هذا. ليست هناك لقطة أخرى في الفيلم من منظوره، وليست هناك إشارة مرجعية موجودة لجوليانا في سياق حواره. كيف يتسنى للمتفرج أن يعرف أنه يفكر بها فقط من مشاهدة لقطة الحائط؟
أنطونيوني: قلت فقط أنه كان يصرف الانتباه أثناء حديثه وأنه ربما كان يفكر في “جوليانا”. بعد ذلك خرج، لماذا خرج؟ يبدو من المحتمل أنه يفكر في علاقته الغرامية التي كانت قد بدأت منذ فترة قصيرة. في النهاية وعلى أية حال ما الذي سيفكر فيه رجل في حالة عشق؟ من البديهي أنني لا يمكنني حشر أو إقحام قطع إلى “جوليانا”. ربما فعل “جودار” هذا. أنا لم أفعل هذا قط.
تشارلز: لماذا كان تغيير ألوان السقف في مشهد الإغراء؟
أنطونيوني: يجب ألا تطلب مني توضيح كل شيء أفعله. هذا ليس باستطاعتي. هكذا جاء الأمر. كيف يمكنني القول لماذا احتجت هذا في لحظة معينة. كيف أوضح لماذا احتجت تشويشًا أو فوضى لونية؟
تشارلز: تذكر نهاية “الصرخة” وافتتاحية “الصحراء الحمراء” بإضراب. لماذا بدأت الفيلم بهذه الطريقة؟
أنطونيوني: ربما لأنني أردت أن أبين أنه عندما يكون الإنسان مستغرقًا في مشاكله الشخصية، فإن بوسعه إهمال كل شيء آخر.
تشارلز: لكنك تتحدث عن “الصرخة”. سألتك عن “الصحراء الحمراء”، أيضًا.
أنطونيوني: إنهما مختلفتان كلية.
تشارلز: لكن الإضراب –
أنطونيوني: ليس هناك إضراب في “الصحراء الحمراء”.
تشارلز: بلى. يوجد في البداية.
أنطونيوني: آه، في البداية. لكن الحالة مختلفة. إنها ليست فرد من أفراد المصنع، إنها زوجة أحدهم فحسب. هذه المشاكل بعيدة عن دائرة اهتمامها.
تشارلز: هذا هو ما قلته أنا أيضًا. في كلتا الحالتين يستمر الإضراب لذلك يمكننا أن نرى الاهتمام الضئيل الذي تعيره الشخصية المركزية للإضراب.
أنطونيوني: حسنًا، وما الضرر في ذلك! (نضحك ثلاثتنا)
تشارلز: حسنًا، أنت محق بطريقة ما. لأن المشهد في “الصحراء الحمراء” يحتوي على تضمين واحد لا يوجد في “الصرخة”: التباين بين العمال والبورجوازية. لأن “جوليانا” ليست فقط عصابية، لكنها أيضًا بورجوازية. في فيلمك يبدو أن كليهما شكلان من أشكال العجز وعدم الكفاءة.
أنطونيوني: موافق. إلاّ أنني لن أقدر أبدًا على القيام بهذه المقارنة.
تشارلز: هناك أدلة كثيرة عليها في الفيلم. أنت تتذّكر المرأة صاحبة الشقة التي زارها “أندرو” و”جوليانا”. يعرضان على زوجها عملاً بأجر مرتفع، لكنها لا تريده أن يتركها. يصور أو يعكس ذلك المشهد تباين واضح بين شعور العائلة العمالية والشخصيات البرجوازية التي بدأت بالفعل تسلك طريق الزنا. أو أيضًا هل تتذكر العامل الذي كان تتحدث إليه جوليانا قرب “الهوائيات”.
أنطونيوني: (صمت).
تشارلز: في مقدمة الطبعة الإيطالية لسيناريوهاتك تقول، “الخطر الأعظم لأولئك الذين يعملون في السينما هي الإمكانيات غير العادية والاستنثنائية للكذب”. ما الذي تقصده؟
أنطونيوني: لإعطاء تفسير ندرك أنه غير صحيح بالنسبة للحياة. لأنه في تلك اللحظة من المثير والشيق كثيرًا أن تضع شيئًا من هذا الغير صحيح، لنسيان المعنى الحقيقي لما نفعله في تسليتنا باستخدام ذلك المحتوى السينمائي.
تشارلز: ها أنت تتكلم عن معيار خارج نفسك، تقول دائمًا أن معيارك وحده هو ما يدخل على نفسك السرور.
أنطونيوني: حينما أصنع فيلمًا، تكون بداخلي حقيقة مؤكدة – “حقيقة” كلمة سيئة. هنا بالداخل، إلى حد ما، عندي اضطراب في فَم معدتي، نوع من الورم أداويه بإخراج الأفلام. إذا نسيت ذلك الورم، فأنا كاذب. من السهل النسيان، حتى إذا أدركت لا شعوريًا أنني أنسى. سهل جدًا.
تشارلز: هل تقصد الكذب من أجل إرضاء الجمهور؟
أنطونيوني: لا. فلنفترض أنني يجب عليّ تصوير شخصية تهبط تلك الدرجات على السلم. أريد التركيز على وجه الشخصية، لأن تعبيره عندما يرى الشخصية الثانية سيكون مهمًا جدًا في تلك اللحظة. لذا أجعله يهبط، لكن عندئذ يتعلق خيالي مع “ليكتينشتاين” هذا. أنا أحب ذلك، أيضًا. لذلك أجعل الشخصية تتوقف للحظة أمام “ليكتينشتاين”، بتوهجه الأخضر والأبيض. أحب ذلك. إنه يغريني، لكنه خطأ. فذلك يعني جعل التخطيط مهمًا في اللحظة ذاتها في حين أن الشيء الوحيد المهم هو الشخصية.
تشارلز: كنت قد ذكرت من قبل أن “ألدو” في “الصرخة”، شخصية جديرة بالإعجاب لأنه يريد الهروب من تعاسته. هل هذا هو ما تعتقده؟
أنطونيوني: لا.
تشارلز: بقدر ما يسعني أن أرى، إنه نوع من الأنانية الحزينة. كل النسوة اللائي التقى بهن كن أكثر شجاعة منه.
أنطونيوني: أتفق معك.
تشارلز: هل أنا على صواب في الاعتقاد بأنك لم تكتب التقديم الذي يقدم “المهزومون”؟
أنطونيوني: تشاجرت مع المنتج الخاص بي، وبسبب ذلك، كنت عاجزًا عن الكتابة. أصروا على كتابة مقدمة وخاتمة. نفذت ذلك بشكل لم يكتمل ولفترة قصيرة، لكنه لم يكن لي.
تشارلز: هل تعلمت أي شيء ذا قيمة من عملك مع “كارنيه”؟
أنطونيوني: كنت على خلاف واسع معه لأسباب مزاجية ولأننا جئنا من خلفيات مختلفة إلى حد كبير. عالمه الشعري لم يثر اهتمامي. ربما ما علمني إياه كان طريقة معينة من التأطير والذي كان جيدًا فيه بشكل خاص. لكنني أعتقد أن الزمن تعامل مع أفلامه بشكل سيئ.
تشارلز: اندهشت عند قراءتي أنك تحب أفلام “آندي وارهول”. هل بوسعك أن تخبرني لماذا؟
أنطونيوني: أنا لا أستطيع قول أنني أحب أفلامه، البعض منها نعم، والبعض لا. تعجبني حريته. إنه يفعل ما يرغب في عمله وبشكل محتقر للسينما، التي عادة ما تؤخذ بجدية. لكن أنا لا أقصد قول إنه يحتقر أفلامه. إنه يصنع الأفلام الآن أكثر من ممارسته للرسم، لذلك لابد وأنه يحب أفلامه، الشيء الذي أعجب به فيه هو وسائله: إن شخصياته تؤدي وتقول ما ترغب فيه وهي، بسبب ذلك، أصلية بشكل كلي في الأفلام المعاصرة.
تشارلز: من هم المخرجون الإيطاليون المفضلون عندك؟
أنطونيوني: “فيلليني” و”فيسكونتي”. إن الشاب الوحيد الذي يبدو واعدًا جدًا بالنسبة لي في الوقت الحاضر هو “بيللوكيو”. هناك آخرون لديهم إمكانيات – من بينهم، “مازيللي” – لكنهم لا يدركونها حتى الآن. لكنني أعرفهم جميعهم بشكل شخصي ولذلك أفضل ألا أتناقش معهم.
تشارلز: هل تعتقد أن أي من المخرجين الأمريكيين ينتمي إلى مرتبة متقدمة؟
أنطونيوني: في الحقيقة، لا يوجد لديّ مخرجين مفضلين. ذوقي يتغير وفقًا لاهتماماتي الحالية. كنت معجبًا جدًا، على أية حال، بفيلم “إيزي رايدر”. اليوم هناك العديد من الشباب الذين يكسرون قواعد السينما الأمريكية. وهم يثيرون اهتمامي. لاحظت في أفلامهم تأثير أفلام سينما “الأندر جراوند”: هذا يبين إلى أي مدى كانت الخصوبة في تلك الحركة.
تشارلز: باستثناء “تكبير الصورة”، تدور جميع أفلامك حول المرأة التي تفقد شيئًا ما بعد وضع ثقتها التامة في بعض الرجال. لماذا تعود باستمرار إلى هذه الحبكة؟
أنطونيوني: أنت تدفعني للتفكير في هذا الآن فقط. من الصعب جدًا تفسير أو توضيح ما قمت بعمله. إنه أمر غريزي شديد الفطرية أكثر مما تتخيل، أكثر، أكثر بكثير. على سبيل المثال، تسليت بالمقالات التي قرأتها عن “جوزيف لوسي”، لأنني أعرف طريقته في العمل. إنه يقرأ كتابًا، إذا أعجبه، يقوم بتحويله إلى فيلم. لكن إذا قال له منتج، “اصنع فيلمًا آخر”، فإنه يتخلى عن اختياره الخاص. بالنسبة لي، بالطبع، الأمر مختلف، لكن حتى بالنسبة لي، الأسباب التي تجعلني مهتمًا بموضوع هي، لا أستطيع أن أصفها، أسباب هوائية متقلبة. اخترت مرات كثيرة، من بين ثلاث قصص، واحدة لأسباب عرضية كلية: أستيقظ وأفكر، ستكون هذه القصة مذهلة لأنني الليلة السابقة حلمت حلمًا معينًا. أو ربما أراهن على جودتها بالقول إنني وجدت بداخلي أسباب لماذا تبدو هذه القصة بالتحديد هي الأكثر صوابًا.
تشارلز: “جوزيف لوسي” مخرج فظيع. أنت ترى هذا في “الحادثة”، والذي هو محاكاة حقيقية وربما ساخرة لـ “أنطونيوني”، والذي قام فيه بعمل أشياء تفعلها أنت لكن ليس لسبب قابل للإدارك. الآن هل تحاول إخباري – دع اختيار القصص جانبًا – أنك عندما تصور قصة، تكون غير مدرك للدوافع مثلما يبدو أن “لوسي” يفعل؟ أم أنك ببساطة لا ترغب في توضيح دوافعك؟
أنطونيوني: دائمًا ما تكون لديّ، لكنني أنساها.
تشارلز: أحيانًا تقوم بتوضيح شيء في أفلامك وفي أوقات أخرى ترفض ذلك.
أنطونيوني: أنت تدفعني للبحث عن تعليل. ليس لديّ تعليل.
تشارلز: لكن في بعض الحالات…
أنطونيوني: ربما كان ما أخبرتك به حتى الآن خاليًا تمامًا من الصحة.
تشارلز: أحيانًا ترغب في هذا –
أنطونيوني: أنا لم أرغب أبدًا.
تشارلز: لكنك فعلت.
أنطونيوني: فقط عندما أكون مضطرًا. ما عدا ذلك سأرغب في ألا أفعل هذا.
روي ليكتينشتاين: رسام بوب أمريكي (1923- 1997) – المترجم.[1]
[2] رسام إنجليزي إيرلندي الأصل (1909 – 1992) – المترجم.
[3] لأنطونيوني فيلم سبق هذا الفيلم بعنوان “المهزومون” – المترجم.
[4] “الحب في المدينة” (1953) بالاشتراك مع “فيلليني وتسافاتيني وألبرتو لاتوادا ودينو رينزي” – المترجم.
* من كتاب بعنوان “مواجهة المخرجين” (نيويورك: جي. بي. بتنام صنز، 1972) من ص15إلى ص32. عقدت هذه المقابلة في روما 29 يوليو، 1969 – المترجم.