محمد هاشم عبد السلام

 

18/5/2016

 

في فيلمه الأخير الذي يحمل عنوان، “أطفال أنقذوا من النازية: قصة السير نيكولاس وينتون”، يعود المخرج السلوفاكي “ماتي ميناتش”، إلى تناول ذات الموضوع الذي سبق أن تناوله من قبل في أكثر من فيلم عبر مسيرته المهنية. ولد ماتي ميناتش في ستينيات القرن الماضي، وبدأ مسيرته الإخراجية مع نهاية القرن الماضي فحسب، وقد تخصص في إخراج الأفلام التسجيلية، وهذا هو الفيلم الرابع له، والثالث في ثلاثيته التي خصصها لهذا الموضوع الذي ظل طي الكتمان على مدى خمسين عامًا.

يبدو ميناتش وكأنه مخرج الفيلم الواحد والموضوع الواحد حول رجل واحد، فجميع أفلامه حتى اليوم تتمحور تقريبًا حول تلك القصة المؤثرة للغاية وبطلها النبيل، الذي آثر طيلة نصف قرن ألا يذكره أحد وألا يُذَكِّر أي فرد كان بما صنعه. وقد كان من الممكن بالفعل أن يرحل السير نيكولاس وينتون من دون أن نعرف أي شيء عنه أو عما قام به. وفي هذا الفيلم التليفزيوني الذي لا تتجاوز مدته الساعة إلا قليلا، يتناول المخرج بطولة فدائي من زمن الحرب، المحارب الذي لم يمسك قط ببندقية، فقد كان سلاحه الإصرار والعزيمة، وقبل كل شيء إنسانيته ونبل هدفه.

يرصد الفيلم على نحو شديد الدقة البطولات التي قام بها نيكولاس وينتون من أجل إنقاذ مئات الأطفال التشيكوسلوفاكيين اليهود من بطش الاضطهاد النازي، ومن المصير غير المعلوم الذي كان من الممكن أن يتعرضوا له لولا شجاعة هذا الرجل غير اليهودي. والذي لفرط تواضعه الشديد لم يشأ قط أن يلفت الأنظار إلى نفسه أو شخصه ولا ما بذله من جهد خارق من أجل إنقاذ مئات الأرواح، أرواح الأطفال الذين لا يزال الكثير منهم حتى الآن على قيد الحياة، ويدينون بحياتهم لهذا البطل المثابر الذي لم يتوان بالمرة عن بذل جل جهده لأجلهم دون انتظار لأي مقابل أو عرفان أو ثناء حتى من جانب زوجته وأقرب الناس إليه.

ذات يوم، وبمحض الصدفة البحتة، عثرت “نيكي” زوجة نيكولاس بداخل أحد الصناديق الخشبية الكبيرة المحفوظة بالسندرة على أحد الكتالوجات المجهولة لها. وعندما تصفحته هالها ما رأت، فقد كان به العديد من قصاصات الصحف والصور القديمة والوثائق والخطابات وخطط عمليات النقل وخطوط المواصلات وقوائم بأسماء وأرقام، ومن هنا فحسب علمت الزوجة القصة، بعد مرور نصف قرن على حدوثها، وكان ذلك على وجه التقريب في عام 1988.

حاولات الزوجة في البداية التواصل مع الصحافة والإعلام لكنها لم تجد سوى صحفية واحدة تحمست للقصة واهتمت بها وعملت على تتبعها وتعريف الناس بها، وأيضًا الاتصال بجميع الأطفال الذين وردت أسماؤهم بالقوائم، ولم تتلق سوى رد 250 فردًا فحسب، لكن العدد كان كافيًا لتعريف الناس بالرجل وبما قام به، وتعريفهم بمن أنقذ حياتهم، وصناعة ذلك الفيلم عنه وعن حياته ومجهوداته وذلك قبل أن توافيه المنية في العام الماضي عن عمر ناهز المئة وستة أعوام.

وقد كان الفيلم فرصة لإبراز دور هذا الرجل والصعوبات الجمة التي واجهته من أجل إنقاذ حياة هؤلاء الأطفال، وتسليط الضوء على الأسباب أو الدوافع التي جعلت ذلك الشاب، البعيد كل البعد عن العمل بالسياسة أو الاهتمام بها، والمتمحورة حياته العملية في عمله كمضارب بالبورصة، جعلته يُقدِمُ على مثل هذا العمل الجسور. كان نيكولاس وينتون، الذي كان بطلا في رياضة الشيش ويهوى التزلج، يرتب مع صديقه في براج من أجل الذهاب للتزلج على الجليد بسويسرا. قبيل سفره مباشرة بساعات قليلة حدث ما لم يكن بالحسبان، فقد اتصل به صديقه معتذرًا عن الذهاب إلى العطلة كي يساعد في ترتيب بعض الأمور العاجلة المتعلقة بالأسر اليهودية هناك والمشكلات التي قد تواجهها مع اجتياح القوات الألمانية للمدينة.

كان التوتر على أشده آنذاك في عام 1938، والقوات الألمانية على وشك الاجتياح والحرب على وشك الاندلاع في أي لحظة، والعديد من الأسر اليهودية بصفة خاصة تقف على أبواب جميع السفارات من أجل الحصول على تأشيرات للخروج من مدينة براغ دون فائدة. لم يتردد نيكولاس في الذهاب لزيارة صديقه والوقوف على حقيقة الأمر الذي حدّثه فيه. لم يكن لدى نيكولاس، في التاسعة والعشرين من عمره آنذاك، الكثير من المعلومات عن المدينة أو أهلها أو ما يدور هناك. وهو كما ذكرنا من قبل لم يكن يهوديًا وليست له أية جذور يهودية على الإطلاق، فقط كان متعاطفًا مع المحنة التي تعرض لها اليهود ومعاديًا لوحشية النازيين، ولان قلبه لما رآه فور وصوله.

صباح يوم وصوله، فوجيء نيكولاس بالعديد من الأسر يطرقون باب غرفته بالفندق ويخبرونه بأنه ليس ثمة منظمات في المدينة على الإطلاق، ناهيك عن تلك المهتمة بشؤون الأطفال، وأنه من الحتمي القيام بأي شيء حيال هؤلاء الأطفال، وبدوره شعر نيكولاس بالمسئولية ومدى فداحة الأمر بالنسبة لهم. فشرع أولا في إرسال مئات الخطابات لجميع الجهات المسئولة بأوروبا، وحتى إلى البيت الأبيض والرئيس الأمريكي روزفلت. والرد الوحيد الذي حصل عليه، وصله بعد أسابيع من جانب السفارة الأمريكية بلندن، ويفيد بأن الولايات المتحدة ليس باستطاعتها تقديم يد العون نظرًا لغياب القوانين والتشريعات كي تتدخل من أجل حماية ورعاية اللاجئين في ظل القوانين المنظمة لنقل ورعاية وحماية اللاجئين.

لم يستسلم وينتون بالمرة، واندفع يُعد الكثير من القوائم التي تحتوي على أسماء المئات من الأطفال الراغبة أسرهم في إجلائهم، واستمر في مقابلة الأسر في مقهى فندقه، الأمر الذي لفت الانتباه إليه من جانب المخابرات الألمانية، التي راحت تترصده متصورة أن الأمر يتجاوز مجرد إنقاذ حفنة من الأطفال. وبالفعل جندوا إحدى الجميلات التي تعرفت عليه وعقدت معه علاقة بصفتها تعمل بالصليب الأحمر السويدي وأنها مشغولة بإنقاذ الأطفال مثله. وبالفعل ابتلع نيكولاس الطعم وانخدع في الفتاة، لكنه في النهاية نجح عن طريقها في إجلاء ما لا يزيد عن خمسة وعشرين طفلا إلى السويد، واختفت الفتاة من حياته إلى الأبد.

من بين المشاكل الأخرى التي واجهها، وفقًا لكلامه، أن الأطفال الذين كانوا بحاجة عاجلة للخروج من البلاد كان عددهم يزيد عن ألفي طفل، وهو في النهاية لم ينجح بالطبع في إخراج كل هذا العدد، لأنه مع عملية الترحيل التي تمت في الأول من سبتمبر عام 1939، والتي كان من المفترض أن تنقل 250 طفلا، اندلعت الحرب وتوقفت عمليات الإجلاء. كما كان هناك نقص في عدد الأسر الإنجليزية وخشية أيضًا، لا سيما وأن الفترة زمن حرب وثمة نقص في الموارد المالية والمادية وحصار وشح في الإمدادات وغيرها من الأمور الكارثية. إلى جانب عدم توفر الموارد المالية اللازمة من أجل إتمام العملية التي لا تتمثل فقط في النقل، وإنما الإعانة أيضًا. كذلك، وهذا من بين الأمور المثيرة في الأمر، مع توالي عمليات نقل الأطفال إلى لندن، اعتراض بعض الأحبار اليهود في إنجلترا على أن الأسر التي تؤوي الأطفال هم من المسيحيين، الأمر الذي يخشون على الأطفال من تبعاته.

بالرغم من أن العديد أطلقوا عليه شيندلر البريطاني، لكن الأمر الذي أقدم عليه نيكولاس بنظرنا يصعب مقارنته على نحو تام مع ما فعله “أوسكار شيندلر”، فالأمر غاية في التركيب والتعقيد. فهؤلاء جميعًا كانوا أطفالا، وتم نقلهم لآلاف الأميال عبر أوروبا بالقطارات والبواخر، وإيواؤهم ومنحهم حياة جديدة. كذلك الأمر فيما يتعلق برفض نيكولاس العنيد الرضوخ والاستسلام للهزيمة أمام الكثير من العوائق البيروقراطية، وعقبات الجهات الرسمية التي أغلقت في وجهه بمنتهى القوة، لكن إصراره في النهاية جعل وزارة الداخلية ترضخ له وتقدم له يد العون، وتدعم خطته من أجل نقل أكبر عدد ممكن من الأطفال، والعمل على توفير أو البحث عن الأسر البريطانية الملائمة والمناسبة التي ستعمل على استقبالهم وإيوائهم وإعالتهم.

لقد نجح نيكولاس بالفعل في إطلاق أول قطار في مايو عام 1939، أي بعد شهرين تقريبًا من الاحتلال النازي لتشيكوسلوفاكيا، واجتياح براغ الذي تم في الخامس عشر من مارس. كما نجح في أن تظل جميع جهوده الدؤوبة طي الكتمان حتى تحصّل على جميع الأوراق اللازمة، وأنجز كافة المهام، وحصول على الموافقات اللازمة من جانب السلطات الألمانية من أجل الترحيل وتفتيش القطارات والإشراف على صعود الأطفال على متنها، والتأكد من الأرقام والعلامات الموضوعة أو المعلقة على صدورهم قبل انطلاقها. والمثير في الأمر أن أصغر هؤلاء الأطفال سنًا لم يكن عمره يتجاوز العامين، وكان الأكبر بينهم لا يزيد على أربعة عشر عامًا.

لقد نجح نيكولاس في، النهاية، عبر مجهود جبار وعمل ملحمي بطولي في إنقاذ حياة 669 طفلا، تم نقلهم إلى خارج براغ قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي أعاقت عمله. وبرغم ضخامة وعظمة ما فعله هذا الرجل نجده يخبرنا بأنه لم يجد ضرورة لكل هذا التذكر والإطراء والمديح لما فعله. ويضيف في مستهل مقابلة معه في بداية الفيلم، عقدت معه قبيل وفاته، “أعتقد أنه لو أننا تعلمنا شيئًا من الماضي فهو أن المستقبل يكمن في نسيان الماضي وليس في تذكره”.

من ناحية أخرى، هذا الفيلم يعتبر أيضًا فيلمًا تكريميًا عن التضحية وآلام الفراق المُبرحة التي عاناها بكل تأكيد كل الأباء والأمهات الذين أرسلوا أبناءهم وبناتهم على متن تلك القطارات إلى مستقبل غامض مجهول بغية إنقاذ حياتهم والحفاظ على آمالهم وتطلعاتهم وحيواتهم المستقبلية، وليكبروا وسط أسر وعائلات لا يعرفون عنها شيئًا، ولا يعرفون إن كانوا سيلتقونهم مجددًا أم لا، نظرًا لأنهم كانوا بصدد مواجة مصائر غاية في الغموض ومجهولة الخاتمة على نحو رهيب.

كذلك استرجع الفيلم لحظات فارقة في حياة العديد من الشخصيات الناجية، وقت أن كانوا صغارًا، وعملية النقل، والأسر التي آوتهم ومراحل حياتهم المختلفة، وكيف تشتت بالعديد منهم السبل بما في ذلك الأشقاء. وبالرغم من البعض لا يزال يعيش بإنجلترا والآخر بأمريكا والسويد وغيرها من البلدان، وبالرغم من مِهَنهم الراقية، يتبدى بقوة أن ما رسخ في مخيلة هؤلاء الأطفال، بخلاف الخوف والرعب، هو الوداعات، ووجوه الآباء والأمهات في لحظات الفراق الأخيرة الشديدة الإيلام. وقبل كل شيء بالطبع، المصير المجهول الذي لاقاه الآباء والأمهات، ومدى شجاعتهم في التضحية، وإيثار أولادهم على أنفسهم، وتجاهل أي مشاعر كان من الممكن أن تعوق القرار الذي اتخذوه، وتغير مصير من رأيناهم على الشاشة.

والمثير في الأمر فيما يتعلق بهؤلاء الأشخاص أنهم جميعًا لم يعرفوا من هو نيكولاس وينتون، وما هي قصته وما فعله من مجهود بطولي خارق من أجل إنقاذ أرواحهم. ومن بين اللقطات المؤثرة، يستعيد المخرج من أرشيف التليفزيون البريطاني حلقة من أحد البرامج التي استضافت نيكولاس وسط جمهور بالاستوديو، لم يكن يعرف من هم، وقد كان باللقاء ما يزيد على عشرين فردًا من هؤلاء الناجين. كانت المفاجأة سارة ومبكية في نفس الوقت، فهم لم يروا الرجل من قبل قط، بينما هو، لو افترضنا أن ذاكرته قد أسعفته، فلم يكن ليتذكر سوى صورهم وهم في سن الطفولة. وقد بكى الرجل تأثرًا ولم ينطق بكلمة، في إنكار للذات غير مسبوق.

يعتمد الفيلم بالقطع على مادته التي تفوق في قوتها كل ما عداها. لذا لم يرغب المخرج في بذل أي مجهود باستثناء السرد الأمين للأحداث من دون افتعال أو مبالغات أو مزايدة، والاستعانة بأكبر قدر ممكن من مادة أرشيفية عن زمن الحرب، منها ما لم يُعرض من قبل، والعديد من التسجيلات مع نيكولاس، والأشخاص الذين أنقذهم، والكثير من القصاصات والصور والخطابات وغيرها من أرشيف نيكولاس، إلى جانب إعادة بعض المشاهد دراميًا بحيث يكسر حدة الملل الذي قد تفرضه كثرة عرض المواد الأرشيفية والحوارية. باستثناء ذلك، فالفيلم من الناحية الفنية عبارة عن عمل تسجيلي تليفزيوني عادي.