كارلوفي فاري – محمد هاشم عبد السلام

ببساطة وفنية شديدتين، يؤكّد الوثائقي “علينا أنْ نؤطّره: محادثة مع يري بارتوشكا”، للتشيكيّين ميلان كوشينكا وجاكوب غوراسيك، إمكانية الوثائقيات الحوارية في استعراض شخصية الضيف وإبرازه، من دون حاجة إلى أسئلة كثيرة، أو حشو مواد أرشيفية وضيوف فيها.

في 66 دقيقة، تناول المخرجان محطات مهمّة وفارقة في حياة أيقونة التمثيل التشيكي بارتوشكا، صاحب المسيرة الفنية الممتدة عقوداً طويلة، شارك خلالها في أكثر من 120 فيلماً ومسلسلاً، وأكثر من نصف قرن في المسرح. يُركّز الفيلم، الذي افتتح الدورة الـ59 (4 ـ 12 يوليو/ تموز 2025) لـ”مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي” (تشيكيا)، بكثافة ومهارة، على العقود الثلاثة التي أمضاها رئيساً للمهرجان نفسه.

الـ”محادثة” مُقسّمٌ إلى فقرات متفاوتة الطول، لكلّ منها عنوان مستقل، وكاميرا ثابتة تُصوّر بارتوشكا من زاويتين/ ثلاثة يرد على أسئلة المخرجين غير الظاهرة على الشاشة. بهذا، استعاد ذكريات مختلفة بأريحية وحميمية وطرافة، وببساطة ملحوظة، من دون أنْ تفارقه سيجارته الوقت كلّه.

بساطة التنفيذ، والاستغلال الفني المُحكم والبارع للّقطات الأرشيفية والصُوَر، لا يحجبان أبداً ذكاء أسئلة محورية لا اعتباطية، تبرز ما هي عليه شخصية الضيف من إنسانية وحنكة وموهبة في الإدارة. وقبل أي شيء، مدى الجرأة والثورية التي على الفنان التحلّي بهما، وضرورة أنْ يكون صاحب مواقف وأخلاقيات وثقافة ومساهمات مجتمعية فارقة.

يبدأ “علينا أنْ نؤطّره” باستعراض موجز لطفولة بارتوشكا (24 مارس/ آذار 1947)، وكيف بدأ التمثيل في سنّ العاشرة، قبل دراسته التمثيل في كلية الفنون الجميلة في مدينة “برنو”. بعد تخرّجه، بدأ في المسرح التشيكي الفني، ثم انتقل إلى السينما عام 1975. بصراحة نادرة وجرأة لافتة، أكّد أنّ وسامته وطوله الفارع وشعره الكثيف الفاحم، إضافة إلى موهبته وشخصيته الجذّابة والكاريزمية، من أهم العوامل التي مهّدت له الطريق، وزادت فرصه في التمثيل، وكثرة الأدوار في السينما والمسرح والتلفزيون.

في “الثورة المخملية” في تشيكوسلوفاكيا (17 نوفمبر/ تشرين الثاني ـ 29 ديسمبر/ كانون الأول 1989)، وقبلها في “ربيع براغ” (5 يناير/ كانون الثاني ـ 21 أغسطس/ آب 1968)، كان بارتوشكا حاضراً بقوة. لم يكتفِ بالتوقيع مع آخرين على عرائض ضد الشيوعية، بل شارك أيضاً في قيادة التظاهرات، وألقى خطباً حماسية، ساهمت في نجاح الثورة وإسقاط الشيوعية. من دون أنْ يؤثّر هذا على نشاطاته الفنية، وعلى حرصه، منذ أنْ كان طالباً في سبعينيات القرن الـ20، على التردّد سنوياً إلى مهرجان كارلوفي فاري، ومعاصرة ما مرّ به من تقلّبات بسبب السياسة والأحداث المحتقنة في البلد، أو المصاعب التنظيمية والمعضلات المالية، انتهاءً بالتصدي لفكرة وزير للثقافة حينها بإلغاء المهرجان تماماً.

المُثير في الأمر أنّه، مع التعثّر التام للمهرجان، طُرحت أسماء كثيرة لتولّي رئاسته، آخرها اسم يري بارتوشكا، أو بارتاك وفقاً لاسم الدلال. عدم طرح اسمه بقوة مردّه انشغاله الدائم بأعماله الفنية، وخشية رفضه الاضطلاع بالمهمة وهو في أوج مسيرته. لكنه قَبِل لاحقاً، ببلوغه 47 عاماً. وبفضل دعم ومساندة إيفا زورالوفا، صديقته ومساعدته، والمديرة الفنية للمهرجان لعقود طويلة، وصاحبة الأيادي البيضاء في النقد والتاريخ والسينما التشيكية، جَنَّب المهرجان توقّفه، في خطوة أولى، تلاها قراره الذهاب إلى موسكو للتخلّص من العلاقة الشائكة معها، القائمة آنذاك، والمتمثّلة بانعقاده بالتبادل مع مهرجان موسكو. هناك، أخبر المسؤولين بحسم بأنّه قرّر إقامة المهرجان سنوياً.

من ناحية أخرى، كان المهرجان على المحك داخلياً، بعد بروز مهرجان “غوليم” في براغ، الذي بدأ، بعد عامين من انطلاقه، سحب التصنيف الدولي كفئة أولى من كارلوفي فاري، وأيضاً نيل ثقة ودعم رئاسة الدولة، والدفع بكارلوفي فاري إلى الهامش. لكنّ كفاح بارتوشكا، ودعم المخرج ميلوش فورمان، وفريق عمل المهرجان، أو “العائلة” كما يسميه، أعاد الأمور إلى نصابها.

يُعدّد بارتوشكا الصعوبات والعراقيل التي مرت على المهرجان، وأوّلها التمويل، الذي دفعه ذات يوم إلى التوقيع “الخطر” على شيك مصرفي، كاد يسجنه. الشيك، الذي أطّره لاحقاً في برواز صغير، كان إلهاماً لعنوان الوثائقي هذا. أما المبلغ فكان، بين عوامل كثيرة، مساهماً تدريجياً في عودة المهرجان، ونجاح دوراته، جاذباً أبرز النجوم والنجمات والمخرجين والمخرجات، وأهم الأفلام، واستعادة دوره وترسيخ هويته، حتى أنّه تجاوز أمجاده السابقة.

عام 2014، شُخّص بارتوشكا بإصابته بسرطان العقد الليمفاوية. بعد ستة أشهر من العلاج الكيميائي والإشعاعي، شُفِي نوعاً ما، ثم عاد إلى مهامه بمنتهى النشاط والقوة، معطياً درساً آخر في عدم الاستسلام للمرض، والركون إلى الراحة بانتظار الموت. يؤكّد هذا قوله إنْ مِل غيبسون اتصل به فور معرفته بخطورة مرضه، ودعاه إلى الإقامة في جزيرته الخاصة للراحة والاستجمام، وتمضية الوقت الذي يريده. مع ذلك، لم يذهب. ورغم مرضه، آثر أنْ يترأّس المهرجان عشر دورات أخرى، تُعتبر من أهم وأفضل سنوات المهرجان بثوبه الجديد.