محمد هاشم عبد السلام

 

18/8/2015

 

فاز فيلم ويبلاش للمخرج الشاب المتميز دميان تشازل بالعديد من الجوائز الهامة منذ نهاية العام الماضي وحتى تتويجه مطلع هذا العام في حفل الأوسكار بثلاث جوائز للتوليف الموسيقي والمونتاج وأهمها، أفضل ممثل مساعد، والتي استحقها عن جدارة النجم المتألق جيه. كيه. سيمونز، إذ لم يقدم سيمونز على امتداد تاريخه المهني في عالم الكوميديا والأدوار الخفيفة، والمسلسلات التليفزيونية على وجه التحديد، ما يستحق أن يصمد عند مقارنته بدور فليتشر.

فليتشر مدرس ساديّ من دون أدنى شك، وهذا جانب وحيد فقط من السمات أو الخصال العديدة القميئة التي تبدّت لنا من خلال تصرفاته على الشاشة طوال الفيلم، الذي لم يبين لنا على نحو واضح دون لبس، هل يتعمد فليتشر هذا في شخصيته أمام طلابه، بغية بث وزرع الهيبة والخوف، بالأحرى، الرعب في نفوسهم، أم أن تلك التصرفات وهذه الخصال هي من طبيعته بالأساس. إذ، على امتداد الفيلم، نقل لنا المخرج كل ما يمتّ بصلة للطرف الآخر، أي أندرو عازف الدرامز، حيث حياته في مسكنه، وعلاقته بوالده، وأسرته، وعلاقته الغرامية .. إلى آخره.

لكن، على النقيض من هذا، حجب المخرج عن عمد كل هذا فيما يتعلق بشخصية فليتشر، واكتفى فقط بمجرد لمحات بسيطة له عندما كان يتحدث لابنة أحد طلابه السابقين أو عندما شاهده أندرو في البار الذي كان يعزف فيه، ثم أخيرًا اللقاء الذي جمع بينهما. هذا الحجب، ربما رأى فيه دميان نقطة قوة وتعزيز لشخصية فليتشر، وأن كل ما هو خلاف ذلك سيكون من شأنه إضعاف أو أنسنة تلك الصورة الوحشية التي يرغب المخرج في أن تنقلها لنا شخصية فليتشر. وعلى أية حال، فقد نجح دميان، نظرًا لقوة أداء سيمونز وتألقّه في الدور، إلى جانب طبيعة الشخصية ذاتها، في أن ينسينا أي جانب آخر أو على وجه الدقة جعلنا زاهدين في استكشافه وتبيّنه، رغم تأثيره على فهمنا تلك الشخصية، والتي بدت لنا على امتداد الفيلم، ثابتة دون تطور لافت.

أما شخصية أندرو فمرسومة بتفصيل دقيق، وتتطوّر دراميًا على امتداد الفيلم، تمامًا كارتفاع وتيرة موسيقى ويبلاش على شريط الصوت. فمن طالب لا يشعر بأي قدر من النجاح، وغارق في وحدته وارتباكه، ينجح في لفت انتباه ذلك المدرب المهيب. وبين لحظة وأخرى يجد نفسه فجأة وقد تحقّق حلمه بأن يصير عضوًا في فرقة فليتشر ويتدرب على يديه، ليختبر هناك، كأنه انضم إلى كتيبة قتال عسكرية مسعورة لا رحمة ولا تآخي بين أفرادها، معنى القسوة والإهانة والمذلة. وهنا يبرز سؤال فرعي، هل، برغم تواجده في نفس المدرسة لم يسمع قط بما يفعله ذلك المدرب مع من يدربهم، أم سمع بالفعل وقَبِلَ بكل هذا؟

على أية حال، يجتهد أندرو قدر المستطاع، كي يكبح جماح نفسه ومشاعره ويوقف انهمار دموعه ويتحمل الصفعات والسباب واللعنات ومختلف أنواع الإهانة، حتى الإهانة الأسرية، وذلك بعدما، في لمحة بدت إنسانية من فليتشر، سأله عن أسرته فقط ليخرج مما سمع بنقاط يمكنه من خلالها إهانة أندرو واستفزازه وإذلاله ليعطي أفضل ما عنده. وتدريجيًا، يتحول أندرو من شاب خجول يعجز، كما أخبر فتاته، عن النظر مباشرة في عين من يحدثه، إلى شخص قاسي وشرس لا يتورع عن صدم محبوبته وتركها، ولا عن مهاجمة أسرته والسخرية من أفرادها، ولا عن مناطحة رفاقه في فرقته، ثم ارتفاع صوته وتعدِّيه اللفظي على مدربه المرهوب من الجميع، بل وفي تطور آخر مفاجئ، تعدِّيه الجسدي عليه والاشتباك معه.

نجح دميان عبر سيناريو غاية في الإحكام والدقة، وعبر مونتاج غاية في الصرامة في التخلص من كل ما هو زائد ولا يخدم حبكة الفيلم، وعبر عدم الانشغال كثيرًا بلفت الأنظار إلى نفسه كمخرج في مستهلّ طريقه يقدم أول فيلم روائي طويل له، وإخلاصه كلية وفقط لتجسيد سيناريو الفيلم وضبط إيقاع العمل وتوجيه مُمثلِّيه، نجح بالفعل في أن ينقل تلك الحالة التي أراد لنا أن نخرج بها من الفيلم. وقد أسهم في هذا دون شك، من بين أمور كثيرة، اختياره لحجرة التدريب الكئيبة المظلمة الشبيهة بالقبو، وبالطبع، ملابس فليتشر السوداء دائمًا والتي تبرز عضلاته وقسمات وجهه على نحو متعمد، وقبل كل شيء، التخلص، كما أسلفنا، من كل ما هو فرعي زائد.

لكن ما الذي أراد المخرج أن ينقله لنا عبر فيلمه؟ قد يعتقد البعض أنه أراد أن يبين أن تحفيز المبدع، أي مبدع، وبأية طريقة تحفيزية كانت، ضرب، صفع، إهانة، إذلال، تُخرِج ما بداخل الفنان من عبقرية مدفونة وتجعله، إلى جانب التدريب المكثف الذي يصل لدرجة الهيسترية المفضية إلى تحمُّل الألم والعذاب ونزيف الدم والعرق، يصل إلى مرحلة إبداعية راقية وسامية لا يصل إليها إلا قلة نادرة في عالمنا أو تُخرج ما بداخل الفنان من عبقرية قد يندر وجودها. وهذا ما يسرده فليتشر في خضم تبريره لأندرو آتيًا على ذكر قصة تشارلي باركر، وما فعله كي يصل لدرجة الكمال في العزف، وكيف أنه هو نفسه كعازف فاشل سابق، يهمه أن ينجح في إيصال الموهوبين إلى تلك الدرجة.

لكن، ودون استعراض للكثير من التجارب الإبداعية للعديد من الفنانين في مختلف المجالات، ووفقًا أيضًا لأية أسس علمية سليمة، سنجد أن هذا الطرح يتهاوى كلية، حتى عندما نلجأ إلى تطبيقه على قصة العبقري تشارلي باركر نفسها، فتشارلي لم يبلغ مرحلة الكمال في العزف بعد عام واحد فقط من إخفاقه، عبر الإهانة أو الإذلال أو التحقير أو حتى التحفيز أو التدريب المميت. فالإبداع الفني، والفنان، والمبدع الحقيقي، لا تنطبق عليه أية معايير أو أساليب عند رصدنا له ولنهجه الإبداعي، الذي قد يبدو هو نفسه غافلا عنه وعن مساره الذي قد يعلو ويهبط ويتغير ويتبدل من مرحلة عمرية لأخرى بل ومن عمل لآخر. ولا يمكن بالمرة التحكم فيه فقط عن طريق التدريب ثم التدريب ثم التدريب حتى الموت أو الكمال.

وبالعودة للفيلم، وبتجنبنا لطريقة فليتشر السادية ولطلبته المازوخيين وعلى رأسهم أندرو، نجد أن أهم ما تطرحه القصة، ومن ثم الفيلم، على نحو شديد القوة، وإن كان مواربًا وغير ظاهر على السطح، هو تلك النظرة التي نراها مع اللقطات الأخيرة بالفيلم، التي يحدق فيها أندرو مباشرة وبكل تحدي وقوة وعزم وتصميم في عين أيقونته ومُعذِّبه ومُعلمه. تلك اللقطات المتقاطعة المنتهية بشبه ابتسامة، تخبرنا بأن هذه الشخصية، بصرف النظر عما ستصير إليه في عالم الفن، قد انطلقت من إسارها وحطمت قيودها إلى غير رجعة وعرفت طريقها فعلا. فلن تذهب مجددًا إلى السينما في صحبة والدها كالأطفال، ولن ترهبها الوحدة والبقاء من غير حبيبة، ولن يقف عائقًا أمامها أي شخصية كفليتشر، الذي لم يجسر على أن يرفع عينيه فيه قط طوال الفيلم.

برأت شخصية أندرو تمامًا بتحديها لنفسها أولا وأخيرًا وقبل كل شيء، شفيت من تلك المتلازمة التي صاحبتها طيلة الفيلم. وقد بدا لنا هذا في تلك الدقائق البديعة من نهاية الفيلم، وذلك مع رفضها، بعد الخروج عن خشبة المسرح، استكمال العناق الأبوي الحنون الطفولي من الوالد ونصيحته بالرجوع إلى المنزل وتقبل الهزيمة، والعودة مجددًا للعزف ثم تحطيم كل القيود المتعلقة بالمسابقة والجمهور وأفراد الفرقة والمدرب نفسه. في تلك المرحلة فقط، لحظة العزف الارتجالي الوليد اللحظة، تشعر أن أندرو يعزف، يعزف بفنية وإلهام شخص موهوب بالفعل، ذلك لأنه تحدّى نفسه بالأساس وتمرد عليها وعلى سلوكها السابق. وهذا كله لا علاقة له بالتدريب المكثف ولا طريقة فليتشر التدريبية. وتلك بالفعل هي خلاصة قصة تشارلي باركر، وإن كنا لا نقلل بالمرة من دور وأهمية التدريب.

ثمة الكثير مما هو وراء الفيلم يزيد قصته عمقًا لتصبح حقًا مثالا يحتذى في تحدي النفس. فالمخرج هو نفسه كاتب السيناريو، والسيناريو مستند بالأساس إلى قصة المخرج حرفيًا، فهو درس في مرحلة من حياته العزف على الدرامز، وكان يرغب في أن يصير عازفًا استثنائيا، لكنه لم يفلح، وقصة ذلك المدرس وشخصيته حقيقية بالفعل. لكن ليس هذا هو مربط الفرس،  لأن المثير في الأمر أن المخرج تخلّى عن حلمه بالعزف، وتحدى نفسه بعدما عرف طريقه، فاتجّه إلى السينما، مصورًا فيلمًا قصيرًا عن، ولعه الأول، الموسيقى، وتحديدًا موسيقى الجاز.

وبعد قليل، وممارسته للكتابة بين الحين والآخر ليستطيع العيش وتسديد الفواتير، على حدّ قوله، ومن خلال تصويره لجزء بسيط من سيناريو “ويبلاش” تم عرضه بمهرجان “صندانس” عام 2013، وفاز ذلك الفيلم القصير، فحصل على منحة لتطويره ليصير روائيًا. ومن هنا بدأت الصعوبات، حيث ثمة مهلة محددة ينبغي الانتهاء قبلها، وعرض الفيلم بالمهرجان وإلا فقد المنحة، إضافة إلى المعاناة البالغة في إيجاده التمويل بعد رفض العديد، لأنه في النهاية عن الجاز، وليس انتهاء بتعجب سيمونز من أن هذا الشاب هو من كتب ذلك السيناريو وحيرته بشأن ما سيصير إليه الفيلم. وغيرها من المشاكل التي دفعته في النهاية لأن يصور الفيلم في تسعة عشر يومًا فقط لا غير، ومونتاج شهر، بالرغم من تعرُّضه لحادث سيارة أفقده الوعي لساعات، وفقدان الوعي هذا هو ترجمة أخرى لعنوان الفيلم، لكنه خرج منه لتحدِّى نفسه وتصوير فيلمه وإنهائه في الوقت المحدد.

وتلك القصة، عند الاستغراق في تفاصيلها المثيرة، ستجدها شديدة الإلهام والتحفيز للغاية. إنها الدرس المستفاد فعلا من الفيلم، والذي يتقاطع ويتكامل معه دون شك، حيث تحدِّي النفس والتخطيط والإعداد الجيد والمدروس لكل شيء، وعدم ترك أي مجال للخطأ، وقبل كل شيء الإخلاص لما تريده. ثم، أولا وأخيرًا، السيناريو ثم السيناريو ثم السيناريو، وحرفية كتابته ورسم شخصياته، حتى وإن لم تكن مكتملة الأوجه، وفي النهاية، الإخراج الذي يعرف بالضبط ما الذي يريده من كل مشهد ولقطة وكادر.