محمد هاشم عبد السلام
في الفيلم الروائي الأول الطويل، “الغريب” (2021)، للمخرج الشاب أمير فخر الدين، كتابة وإخراجًا، كانت هنالك محاولة ناجحة لتقديم شخصية غريبة عمن حولها. من خلال سياق الفيلم وأحداثه، نتعرف على عدنان (أشرف برهوم)، ومعاناته من أزمة أحبطته، وتركته حُطامًا، وجعلته غير مرغوب فيه من أسرته، ومحيطه الضيق، ومجتمعه. التوق إلى مبارحة المكان، ونفض ثقل الماضي وصدماته، وإزاحة إرث النظام الأبوي عن كاهله، والبدء مجدّدًا، والهجرة بعيدًا عن مرتفعات الجولان المحتلّ، إلى باريس، أو برلين، أو غيرهما، كلها، تطل بوجهها وتفرض حضورها على بطل الفيلم، والأجواء، والسرد برمته.
“يونان” يشكل الجزء الثاني في ثلاثية بعنوان “الوطن”، يعقبه آخر بعنوان “الحنين”، لتكتمل بهذا ثلاثية تؤكد على طموح مخرج يقدم نفسه بثلاثية خلال فترة زمنية وجيزة. ما يعني أن لديه كثيرًا ليقوله، ورؤية فنية يود طرحها، وفيضًا من الهموم الذاتية والأفكار المؤرقة الراغب في تقديمها بجهد ومثابرة وصدق. من هنا، لم يكتف أمير فخر الدين (المولود في العاصمة الأوكرانية كييف عام 1991، لأبوين من بلدة مجدل شمس في الجولان المُحتل) بتقديم عالم الوحدة الخانق، أو “الاغتراب” القاتل لبطله السباق، عدنان، إذ يتناول الغربة والعزلة وفقدان الانتماء والهوية عبر صورة أخرى تتجلى في المنفى، ويكابده بطل “يونان” الذي يشعر أيضًا بعدم القدرة على التأقلم والاندماج في محيطه.
“الغريب”، وكان أول مُشاركة للمخرج في مهرجان دولي كبير، باختياره ضمن “أسبوع النقاد” في الدورة الـ78 لـ”مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي” (1 ــ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) عمل بالغ الذاتية ينقل الشعور بالعجز والخواء لدى بطل لا يزال يكابد مأساة وطنه. ومع ذلك، لا يستطيع فعل شيء من أجله، ولا من أجل نفسه وأسرته ومحيطه. وذلك في استعارة شعرية كئيبة للغربة، التي يشعر بها أيّ إنسان، في المستويات كلّها، عندما يعيش في الأسر، ويكون الأسر هو الوطن ذاته.
في “يونان” المشارك في “المسابقة الرئيسية” لـ”مهرجان برلين السينمائي الدولي” في دورته الـ75 (13 – 23 فبراير/ شباط، 2025)، يمد أمير فخر الدين خيوط الشخصية الرئيسية في فيلمه السابق على امتدادها، مواصلًا طرحه واستكشافه لأزماتها الوجودية، الناتجة هذه المرة عن المنفى تحديدًا. صحيح أن المخرج لم يوضح إن كان المنفى هنا طوعًا، أو قسرًا، إلا أنه في النهاية حالة انسلاخ كاملة عن الأهل والجذور والوطن والهوية واللغة.
يتجلى هذا في إقامة بطل “يونان” منير (جورج خباز) في ألمانيا، وتحدثه الألمانية طوال الفيلم. أيضًا، يعاني منير من ضيق في التنفس على هيئة أزمات تنفسية مباغتة. بعد الفحوصات اللازمة يؤكد الطبيب على أنه مجرد إجهاد، علة نفسية بالأساس. يقترح عليه القيام بإجازة، والابتعاد عن محيطه وعمله، وبالأخص “الذهاب في نزهة على الأقدام”. مكتئبًا، غير قادر على مواصلة الكتابة، أو التواصل الجنسي مع صديقته، يحمل منير معه ثقل المنفى، الذي نلاحظ ازدياد وطأته بعد المكالمة التي أجراها مع أخته وأمه (نضال الأشقر)… في بلدهما، وتبينه معاناتها من مرض الزهايمر، وصعوبة تذكرها له.
في محاولة منه لإنعاش ذاكرتها، وربما ذاكرته هو، يطلب منها رواية قصة اعتادت أن ترويها له، وهي عن راع ملعون (علي سليمان) “لم يكن لديه شيء على الإطلاق. لا فم، ولا أنف، ولا أذنين. فقط قطيع كبير من الأغنام، وزوجة الصامتة (سيبيل كيكيلي)، أجمل من القمر”. تتوقف الأم وتغرق في التكرار، عاجزة عن إكمال القصة، فيما يبدو. تظل سطور القصة/ الأمثولة/ الأسطورة/ الخرافة تتكرر مرارًا على امتداد الفيلم، لدرجة تصبح عبئًا على السرد وتطوره أحيانًا، وليس العكس.

ورغم إحالاتها المتعددة، المحفوفة بغموض يصل حد الاستغلاق أحيانًا، أرادها المخرج كانعكاس لحالة المنفى والشوق والذكريات التي تهرب من الذاكرة. وكونها العنصر الوحيد في الفيلم الذي يربط منير بالعائلة والوطن، بذاكرته وجذوره. من هنا، نلاحظ أن الأماكن والملابس والأجواء كثيرًا ما تتشابه والبيئة العربية الصحراوية. وبصرف النظر عن التأويل والدلالات والإحالات، وبعيدًا عن حسن توظيفها، أو مرات استخدامها داخل الفيلم، فقد تعامل معها المخرج تنفيذيًا ببراعة لافتة. إذ، رغم عدم التطور الدرامي لها، نجدنا كل مرة إزاء أجواء وطبيعة مشهدية وإضاءة وألوان مختلفة كثيرًا، ساحرة أحيانًا. ثم، يمضي المخرج لما هو أبعد من مجرد استعراض مشاهد صامتة للراعي وزوجته. إذ قرب نهاية الفيلم، نجد منير في القلب منها، نراه يتفاعل فيها، وحتى يتلامس مع الراعي وزوجته. ولاحقًا، ذات ليلة، يجلس لتناول الطعام في منزلهما.
أيضًا، نلاحظ اختلاف الحضور الشكلي لمنير تمامًا، على الأقل مع هيئته على امتداد الفيلم. ففي إحدى المرات نراه حليق الرأس، مصفف الشعر، ولحيته مشذبة بأناقة، والملابس التي يرتديها مغايرة بدورها، وفاتحة اللون، وليست غامقة، وقد تخلى عن معطفه الداكن. كذلك، يتعمد المخرج كسر زمن الحكاية، أو الأمثولة، سيما في ما يخص العلاقة بالوقت. إذ يظهر منير وقت تناول الطعام وفي معصمه ساعة يد عصرية، وذلك على نحو يَخِلُّ عمدًا بالمعتاد في مثل هذه المشاهد من ناحية، وبكسر منطق الإيهام، أو الحلم، أو الذكرى، وخلق إحالات أخرى كثيرة تمزج مفردات عديدة مختلفة، ملتبسة، أو مستدعية للتأمل، من ناحية أخرى. وبعيدًا عن الخيط السردي للحكاية الخيالية الصامتة تمامًا، والبطيئة التطور دراميًا، يمضي الخيط الواقعي بوتيرة طبيعية بعض الشيء، بالغة الواقعية، من دون الإيغال كثيرًا في الرمزية، أو الاستعارة.
غير قادر على انتشال نفسه من اكتئابه، يستقل منير عَبَّارَة من هامبورغ باتجاه بحر الشمال، حيث يصل إلى جزيرة “هاليج”. مكان معزول وهادئ ومناسب للانتحار بمسدس أحضره في حقيبته. بصعوبة يجد غرفة في مكان معزول بجوار الفندق الوحيد في الجزيرة، الذي تديره العجوز فاليسكا (هانا شيجولا). يمضي منير أيامه في التجول في المراعي الممتدة المكشوفة، التي تتخللها منازل فردية مبنية فوق تلال صغيرة، حيث نرى المراعي والحيوانات، في مشاهد تستدعي للذهن فيلم “الغريب”.

أيضًا، في “الغريب”، تمتد سماء خريفية فوق المرتفعات الخلابة للجولان المُحتل. تتساقط الأوراق، وينضج التفاح ويُحصد. تغمر الأمطار الأرض التي تفيض بالأوحال، في توظيف ماهر للمناظر الطبيعية. يُمكن للمُشاهد أنْ يشعر بأجواء ترقّب وتوتّر، وموت وحياة، وبداية دورة ونهاية أخرى. وربما بما هو أضخم وأخطر. أمر ينسحب على “يونان”، وفيه يمعن فخر الدين في رصد أجواء الجزيرة لدرجة تخطف الأنفاس فعلًا، برع فيها المصور السينمائي رونالد بلانت، بكاميرا كثيرًا ما كانت تمسح الأفق ببطء ينقل جمالياته الخلابة، وتقلبات الطقس العاصف، وقسوة ورِقّة الطبيعة. كما الحضور الشاعري للطيور والحيوانات، ناهيك بالتباين اللوني في مشاهد عديدة، خاصة قبل وأثناء وبعد الفيضان. حيث نرى في لقطة واحدة مُركَّبة، مثلًا، السماء الباهتة والغيوم الرمادية والأمواج الداكنة والخضرة الزاهية، ويغلف هذا كله صوت البحر الهائج والرياح العاتية.
قطعًا، توظيف المكان ليس مصادفة أبدًا. الجزيرة ليست مجرد خلفية لعلاقة منير وفالسيكا صاحبة النُزل وابنها وأهل الجزيرة. إذ لها حضورها الخاص، ودورها المحوري وشخصيتها إن جاز التعبير، في تصوير عزلة وتمزق وصراع منير الداخلي. يعد الطقس القاسي والفيضان بمثابة استعارات لاضطراباته الشخصية، وللقوى التي يعجز عن السيطرة عليها والمُتحكمة في مصيره. وكيف أنها تعكس، إزاء التهديد المستمر للبحر، مدى هشاشة الواقع، وحياته. من هنا، تحضر ثنائيات كثيرة، تتصارع وتتواجه، المد والجزر، الصخب والسكون، القوة والضعف، الاختفاء والبقاء، الحياة والعدم… إلخ. ويتجلى هذا أيضًا في مشهد العراك بالأيدي الذي يُقدم عليه منير ضد ابن فالسيكا.
ثنائيات كهذه، وأكثر، حاضرة على امتداد رحلة منير المادية والروحية، الخارجية والداخلية، تجعله يفطن إلى أن الأرض التي غمرتها المياه، وبفضل مرونتها وصلابتها، تظهر مجددًا، وقد صمدت بعد انحسار الفيضان، مواصلة وجودها، وازدادت خصوبتها وقدرتها على التجدد والعطاء. صحيح أننا نرى صورة مهيبة للدمار والفناء والموت، لكن يعقبها أيضًا استعراض لمدى قدرة الطبيعة على الولادة والتجدد والبقاء. وهذا أيضًا هو ما يتعلمه منير من خلال رحلته بأكملها وبالأخص علاقته الحريصة مع فالسيكا، التي يمكن تلخصيها بعبارة الأديب والروائي الأميركي آمور تاولز في روايته “جنتلمان في موسكو”، “مامن أرواح مُتعاطفة أكثر من أرواح الغرباء”،

على النقيض من بنية “الغريب”، نجد أن بنية “يونان” تحتمل كثيرًا من الأبعاد النفسية والوجودية والأسطورية، أو حتى الدينية. مثل إحالة عنوان الفيلم للنبي يونان، أو يونس، الذي لفظه الحوت في إشارة إلى العودة مجددًا إلى الحياة، أو الولادة من جديد. يتأكد هذا في مشهد بالغ الدلالة نرى فيه الحوت الصغير بعد الفيضان. ما يمكن تشبيهه بالحمل والولادة. وإن كنا في “الغريب” قد شاهدنا فترة الحمل، فقد عاينا في “يونان” المخاض والولادة. ولادة بكل ما تحمله من إمكانيات جديدة، وانطلاقة متفائلة، وأمل في العثور على عزاء وهدف للحياة والعالم. إحالات كهذه لم تثقل كثيرًا على الفيلم وأحداثه وخيوطه وإيقاعه. استوعبها نسيجه العام، المنتمي وبقوة للسينما التأملية والفلسفية والجمالية البحتة، مقارنة بفيلم “الغريب”. كما تُذَكِّرُنا هذه الإحالات، ومنها مشهد الحوت، بحوت المخرج المجري بيلا تار في رائعته “إيقاعات فيركمايستر”، بكل رمزيته ودلالاته. وبخلاف هذا المشهد، واستلهام عوالم وأجواء بيلا تار، تحضر وبقوة عوالم لمخرجين آخرين مهمين في تاريخ السينما الفلسفية والتأملية والجمالية؛ منهم اليوناني “ثيو أنجلوبولوس”، والروسي “أندريه تاركوفسكي”. مثلا، يستدعي منير بهيئته ومعطفه ولحيته وكلبه، شخصية “ألكسندر” بطل الفيلم الشهير “الأبدية ويوم” (Eternity and a Day) لـ“ثيو أنجلوبولوس”، ناهية بمشكلته الوجودية والصحية.
مع ذلك، أثقل أمير فخر الدين “يونان” بما لم يكن ضروريًا أبدًا، وفي أكثر من مكان. مثلًا، افتتاحية الفيلم ببيت شعري مقتبس للمتنبي، “أُغالِبُ فيك الشوق والشَوق أغلبُ. وأعجبُ من ذا الهَجرِ والوصل أعجبُ”. ورغم جماله وعمقه، سرعان ما نسي مع تعاقب الأحداث، وانقضاء زمن الفيلم. الأكثر إزعاجًا من هذا، عدم ثقة المخرج في أن سرده البصري، أو طريقته في الحكي، قد أوصلت الحالة النفسية والشعورية والفلسفية المُرادة للمتفرج، من دون حاجة للتكرار. أيضًا، قرب النهاية يُفسد كثيرًا من الغموض، والحالة الشعرية المنسوجة بمهارة على امتداد الفيلم، بغية إيضاح وتفسير الملتبس والغامض. ما أدى، ليس للإيضاح، أو التأكيد، أو التفسير، بل تشويه البناء المكتمل، وإسقاطه في المباشرة المزعجة. ما يعيد إلى الأذهان خاتمة فيلم “الغريب”، وتفسير ما لا ينبغي تفسيره.
في “يونان”، كما في “الغريب”، ثمة جدية وصدق وطموح فني ملحوظ. وقبل هذا، جماليات بصرية لافتة، نابعة من عين فنية مثقفة وواعية ومرهفة، تؤكد إجمالًا على أننا إزاء مخرج موهوب فعلًا. مهتم بكل التفاصيل، وجاد في مشروعه الفني والفكري والإنساني، وصاحب بصمة بصرية جذابة وراقية، يُنتظر منه كثير. فقط، يُرجى في الجزء الثالث أن يثق أكثر في جمهوره، وفي أن الغموض والالتباس والإلغاز لهم وقع أقل وطأة من المباشرة. أيضًا، ضرورة الابتعاد عن المشاهد المكررة، أو الكليشيهات السينمائية، مثل مشهد الرقص على إيقاع أغنية “مَيّل يا غنّام”، كي يخرج الجزء الثالث مكتملًا ومتخلصًا من العيوب، أو الشوائب التي لحقت بسابقيه.