محمد هاشم عبد السلام

عاش الأديب الليبي والأستاذ الجامعي هشام مطر، المولود في نيويورك عام 1970 لأب معارض للنظام الليبي آنذاك، لفترات قصيرة من حياته في طرابلس والقاهرة وجنيف قبل أن يستقر في لندن، حيث أنجز تعليمه الجامعي. ومع انعطافة هذا القرن، ترك هشام الهندسة المعمارية بعد الحصول على الماجستير وتحوّل إلى كتابة الأدب وتدريسه، خاصة الأدب الإنكليزي وثقافات آسيا والشرق الأوسط. وخلال العقدين الماضيين أصدر هشام عدة روايات، تُرجمت لأكثر من ثلاثين لغة، وحصل على جوائز دولية عديدة مرموقة، مما يؤكد على بروزه وانتشاره وامتداد التأثير الثقافي لكتاباته.
يكاد القارئ لا يجد عملًا من أعماله يخلو من موضوعات النفي والمنفى، والبحث عن الأب، وآثار البطش والتنكيل والاستبداد السياسي، وأزمات الهوية والفقد. ما يثير أسئلة كثيرة، منها المتعلق بالمبالغة في استثمار مأساته الشخصية، لخلق تعاطف مباشر مع القارئ، ومن ثم انحصار أعماله في إطار محدد يجعل من الصعب تخطيه مستقبلًا. من ناحية أخرى، هذه التكرارات، ومحدودية الموضوعات، ونمطية البناء السردي ورسم الشخصيات ليست عيبًا فادحًا، لكنها توحي بأن تجربة هشام مطر الشخصية تسيطر بشكل كبير على خياله الأدبي، وتحد من تنوع موضوعاته، وتعيق جموح خياله، وتُسقطه في دائرة الملل بقوة. ومع هذا، لهشام القدرة على رسم شخصيات صادقة، ذات أعماق نفسية غائرة، تتنازعها ثنائيات عدة تتراوح بينها، مثل الحلم والواقع، واليأس والأمل، والماضي والحاضر، والمنفى والوطن.

“في بلاد الرجال” (2006)

صدرت ترجمتان لهذه الرواية، الأولى بعنوان “في بلاد الرجال” ترجمة: سكينة إبراهيم، عن دار المنى السويدية عام 2007، والثانية تحت عنوان “في بلد الرجال” ترجمة: محمد عبد النبي، عن دار الشروق المصرية عام 2012. المقارنة بينهما تدلل على أن تكرار الجهد المبذول في ترجمة العمل نفسه أكثر من مرة، خلال فترة قصيرة، غير مبررة إلى حد بعيد. لكن، ربما ما يبرر تكرارها، وصدور أكثر من طبعة، كون الرواية تُعتبر حجر الزاوية فعلًا في عالم هشام مطر الأدبي، بل ويمكن الزعم بأن قراءة هذا العمل، إضافة إلى الإحاطة بملابساته الواقعية وخلفية الكاتب، تُغني كثيرًا وإلى حد بعيد عن قراءة أغلب مؤلفات هشام مطر. إذ لن يحلق الكاتب بعيدًا عن حدود تلك الرواية وعوالمها، حتى وإن اختلفت أحداث ووقائع وبلدان وشخصيات الروايات التالية، مرورًا برواية “تشريح اختفاء” أو “اختفاء” وفقًا للترجمة العربية، وسيرة بعنوان “العودة” (يعتبرها البعض من أبرز إنجازاته، المؤثرة والمؤلمة، في محاولة البحث عن مصير والده، ما أهّلها للفوز بجائزة “بوليتزر” لعام 2017 في فئة السيرة الذاتية)، وانتهاءً بروايته الأخيرة “أصدقائي”، والتي يستدعي فيها الواقع السياسي الليبي القديم والحديث، نسبيًا، ويعود إلى نفس الخلفيات وذات الوقائع والشخصيات تقريبًا.

غلاف الترجمة الصادرة بعنوان “في بلد الرجال”.

لا شك في أن الرواية الأولى “في بلاد الرجال” لاقت نجاحًا عالميًا قد يكون مستحقًا، ما أدى لاختيارها ضمن قوائم قصيرة لعدة جوائز، منها جائزة “البوكر” الدولية المرموقة. قد يُعزى هذا بالأساس لكون هشام مطر قد نجح دوليًا وعربيًا في تقديم نفسه، وعالمه الفريد، عبر تلك الرواية، كصوت أدبي قوي يأتي من بلد لا وجود له بالمرة على الساحة الفنية بصفة عامة، والأدبية بصفة خاصة، منذ عقود طويلة. يسبق هذا، انتماء الرواية أصلًا لما يُطلق عليه الأدب السياسي، وكونها عن كواليس المسكوت عنه في بلد مجهول بالمرة بالنسبة للقارئ الغربي. إذ يُعتبر موضوعها وعوالمها وشخصياتها منطقة بكرًا، ومثيرة للفضول جدًا. يزيد من هذا استنادها إلى وقائع حقيقية، مُقدمة بشكل فني جيد وصادق، ولغة سلسة، وهذا، أيضًا، من بين العوامل التي دفعت بالرواية وكاتبها إلى الصدارة وجعلتهما في بؤرة الاهتمام.
تدور أحداث الرواية في ليبيا خلال فترة حكم معمر القذافي، وتحديدًا خلال صيف عام 1979. تُروى بلسان الصبي سليمان، صاحب التسع سنوات، والذي يعيش تجربة جد مريرة وقاسية، مُغلفة بالخوف والغموض في ظل قمع نظام باطش. تُصور الرواية براءة الطفولة، وتعرُّف سليمان التدريجي على العالم من حوله، خاصة الواقع السياسي والاجتماعي والتاريخي لبلده، وعلاقة أسرته به، إلى أن تتطور الأمور وتتعقد الأحداث لترصد ذروة الوحشية السياسية، وبطش سلطة قمعية ذات سيادة مطلقة، ضد المعارضين، وكان من بينهم والد سليمان.
وبعكس ما حدث في الحياة الواقعية لوالد هشام مطر، المعارض الليبي البارز جاب الله مطر، الذي اختُطف من مصر عام 1990 ولم يظهر له أي أثر ولم يُعرف مصيره حتى الآن، يعود الأب المثقف صاحب الميول الثورية في “بلاد الرجال” إلى بيته، بعد الاعتقال والتعذيب الوحشيين، ويتعافى تدريجيًا مما ألمّ به. لكن ما جرى له، يدفعه لاتخاذ قراره الحازم والحاسم والعسير بإرسال ابنه في أسرع وقت إلى القاهرة للإقامة والدراسة، حماية له مما قد تحمله الأيام، ولتأمين مستقبله بعيدًا عن بلده. وهذا أيضًا، يتقاطع جزئيًا مع ما حدث للكاتب.
لا شك في أن الرواية تُلقي الضوء، بصدق وقوة وبدون مباشرة فجة، على التأثيرات النفسية والاجتماعية للاستبداد الواقع على الأفراد والعائلات، بلغة رصد ذات صوت طفولي لافت، يمزج بين النضج والبراءة في كشفه عن فظاعة الواقع ومرارته. لكن العمل، الذي يتسم ببنية، ونسج شخصيات وأحداث وخلفيات، ذات طابع كلاسيكي، ولغة وصفية مباشرة، يُلاحظ عليه أيضًا كأغلب أعمال مطر، هبوط الإيقاع في أكثر من موضع، لدرجة تصل أحيانًا لفقدان التشويق أو الإثارة، أو حتى الرغبة في المتابعة. من هنا، نؤكد على أن أعماله بحاجة إلى صبر كبير من جانب القارئ لبلوغ النهاية. وما يُضاعف من ضرورة الصبر والجَلَد كون العوالم والوقائع لا تختلف كثيرًا من عمل إلى آخر.

“شهر في سيينا” (2019)

عمل يمثل مسارًا إبداعيًا وجماليًا وفكريًا مختلفًا عن المعهود في كتابات هشام مطر. إذ يبدو فيه، وإلى حد بعيد، أن الكاتب قد سمح لنفسه بإطلاق العنان لخيال وفكر وإبداع الأديب الفنان، أكثر من الكاتب النمطي الأيديولوجي السياسي الملتزم، المتمحور دائمًا حول الماضي واحتلاب تجاربه. لنكتشف أن لدى مطر إمكانيات فنية ونقدية أصيلة، وقدرة حقيقية على التذوق الجمالي، وبراعة في التحليل الفني لافتة فعلًا. صحيح أن ثقل الهم الذاتي، واختفاء الأب، والانشغال بالوطن، وغيرها من التيمات المعهودة، تطل برأسها من حين لآخر، لتحرك بعض الأحداث أو تثير ذكريات هنا أو هناك، لكن هذا كله ليس جاثمًا على العمل وفكرته وإيقاعه على نحو طاغ أو مُنفِّر.

من هنا، يصعب تصنيف الكتاب، سواء في خانة الروائي أو كنقد فني أو تأملي فكري خالص، أو حتى كأدب رحلات أو سياسة. إذ يعج كتاب “شهر في سيينا” بهواجس صاحبه حول الفن والتاريخ والسياسة والاجتماع والفلسفة، ويتأمل الوجود والموت والحياة والفناء، وأيضًا الأمراض والأوبئة، وغيرها. كما لا يقتصر الكتاب على تأمل تاريخ مدينة “سيينا” الإيطالية العريقة ومتاحفها أو أبنيتها وساحاتها وطرقاتها التاريخية أو التمحور حول اللوحات الفنية فحسب، بل يمتد لرصد وتأمل أحوال المجتمع الحديث في تلك المدينة عبر حيوات وإيقاع أفرادها. كذلك، التطرق لرصد بعض التواجد العربي هناك، ومن ثم الإتيان على ذكر التاريخ العربي السييني المشترك باقتضاب. وقد برز هذا من خلال شخصية الأردني آدم، الذي يلتقيه الكاتب هناك مصادفة، ويذهب لزيارة منزله وعائلته ذات يوم. يتوفر “شهر في سيينا” كفكرة وبناء وتأمل على ما يُكسب الكتاب طبيعة خاصة ومتفردة فعلًا ضمن سياق كتب الأدب والتأمل والفنون والرحلات في النثر العربي الحديث.

غلاف ترجمة كتاب “شهر في سيينا”.

اللافت حقًا في تجربة قراءة كتاب “شهر في سيينا“، الممتع فعلًا، ترجمة زوينة آل تويّه، وصدر عام 2024 عن دار الشروق المصرية، ابتعاد هشام مطر كثيرًا عن احتلاب تجربة الماضي. وإبعادنا ولو قليلًا عن عالمه المعهود، والمضي بنا في مغامرة ذكية وجذابة نحو رحابة أفق الفن التشكيلي السييني، لينسج لنا أحد أهم وأجمل تجلياته الإبداعية التي ستظل لها خصوصيتها في النثر العربي المعاصر. هنا، تطل الفنون التشكيلية، وعوالم المتاحف، خاصة فنون ومتاحف وتاريخ مدينة “سيينا” الإيطالية العريقة، برأسها. نُعاين مدينة من بين أهم وأجمل وأعرق المدن الإيطالية، قبل توحد إيطاليا تحت لواء الجمهورية. واحدة من أقدم قلاع الحكم المدني، والحكومات العلمانية، المستقلة كثيرًا عن سلطة الكنيسة لعقود، والتي، نتيجة للانفتاح والديمقراطية، ازدهرت بها الفنون، وأدى هذا أيضًا، وهو غير مذكور في الكتاب، لكون المدينة صاحبة أقدم بنك في العالم لا يزال يعمل حتى اليوم منذ تأسيسه عام 1472.
في “سيينا”، التي كانت قد أوقفت منذ ستينيات القرن الماضي استعمال المركبات في شوارعها، يمكث البطل أو هشام مطر في المدينة التي تُغادرها زوجته ديانا، فيبقى بمفرده لمشاهدة وتأمل لوحات الفن السييني، ذات الدلالات والإحالات الرمزية والتاريخية والفنية غير الخافية. مثل “البشارة أو شفاء الرجل المولود ضريرًا” أو لوحة “رمز الحكومة الصالحة” أو لوحة “جمع شمل الآخرة”. وتحليل قرابة ثمانية أعمال مهمة لفنانيها مبدعين فعلًا، من بين 16 لوحة مُضمّنة في متن الكتاب، أغلبها بالألوان، لفنانين ازدهرت تجاربهم في الفترة من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر. ليكون هذا التأمل أو التحليل بمثابة تكأة يُراكم من خلالها الكاتب الملاحظات النقدية والتأملية المختلفة عن الفنون والتاريخ والفلسفة والبشر والوجود بصفة عامة.
إجمالاً، يُعتبر الكتاب رحلة عميقة وجميلة وبسيطة، مسلية ومشوقة ومثيرة للتأمل والتفكير المغاير، كانت بحق وكما يشير الكاتب، “أردت فحسب، مثل بنّاء يشحذ إزميله على لوح خشن، أن أشحذ نفسي على لوح المدينة”. وقد تحقق هذا فعلًا، وأضاف لنا مطر الكثير، فكريًا وفنيًا. لكن، مع الأسف، لم يستمر أثر الشحذ لفترة طويلة. إذ سرعان ما انتكس، وعاد أدراجه في روايته الأخيرة، “أصدقائي”، أحدث ما صدر له في العام الماضي 2024، والتي لم تُترجم للعربية بعد.

“أصدقائي” (2024)

بخلاف أعماله السابقة، يبتعد الكاتب كثيرًا عن التمحور حول ما حدث لوالده، وعملية البحث عنه، وتاريخ عائلته. يتجلى خلط الخيال بالواقع عبر أحداث تسترجع، انطلاقًا من الحاضر، التاريخ المعاصر لليبيا، انتهاءً بأحداث الثورة، وإلقاء القبض على الرئيس السابق معمر القذافي.

لتتحقق مقولة أوفيد، التي يذكرها صراحة في ثنايا الرواية، وتنسحب على الأفكار الرئيسية في أعماله إجمالًا، “احترقت بلادنا بسبب شجار بين أب وابنه”. هذا الأب – يكرر الكاتب وصف إخراجه من أحد أنابيب الصرف بواسطة صديقين للبطل والراوي خالد كمال عبد الهادي، هما حسام ومصطفى – يذكره الكاتب صراحة في موضع آخر بالرواية على لسان مصطفى، فيقول: “لأجده حينها، والدنا المجنون، مختبئًا في أنبوب تصريف في تلك الصحراء الرملية”.
ليس معنى هذا أن الرواية تتمحور حول فكرة قتل الأب أو ما شابهها، بل بالأحرى، وبعيدًا عن السياسة الجاثمة على العمل، يحاول مطر عبر شخصيات نُسجت جيدًا، مقاربة فكرة المنفى بمعناها الأدبي والوجودي، وإن لم يمض فيها لأبعاد وأعماق غير مسبورة أو مطروقة. إذ اكتفى بالقشور فقط، وبالإتيان على ذكر أسماء بعض الكتاب العالميين أو العرب الذين عاشوا بالمنفى في إنكلترا، وفي لندن تحديدًا. إذ، شغلته السياسة والفظائع الحقيقية السياسية للنظام السابق عن التركيز على نسج، وسبر أغوار، فكرة المنفى على أكمل ما يكون من خلال الأبطال الرئيسين تحديدًا، أو الأصدقاء الثلاثة، الراوي خالد، وحسام ومصطفى أقرب صديقين له. ويقول عنهما، “ذهبا في اتجاهين متعاكسين: مصطفى عاد إلى الماضي وحسام سائرًا نحو المستقبل”. وذلك بعدما عادا إلى ليبيا للانخراط في الثورة، والقبض على القذافي، وتفريق الحياة والمنافي لهم، جسديًا ونفسيًا، واغترابهم عن بعض.

غلاف الطبعة الإنجليزية لرواية “أصدقائي”.

بعيدًا عن الأحداث، المستندة إلى الوقائع المتعلقة بما جرى أمام السفارة الليبية في سانت جيمس، في لندن قبل 37 سنة، تحديدًا في نيسان/ أبريل 1984، وإطلاق النار على المتظاهرين الليبيين، وتبعات هذا الحدث الذي شارك فيه الراوي وصديقه، وكيف ترك إطلاق النار جروحًا وآثارًا في جسده ورئته، نجدنا أمام نفس الراوي، وذات الحكاية، والعوالم غير المدهشة ولا المفاجئة، بل وحتى الكثير من الأوصاف والجمل المتكررة من أعمال سابقة. مثلاً، “تذكرتُ الرجل الذي تبوّل على نفسه أمام التلفزيون أثناء استجوابه”. وهذا المشهد ذُكر بالتفصيل في روايته الأولى. وأمام عبارات أدبية تكاد تكون مكررة من أعمال أدبية سابقة، مع بعض التغيير، ولا تضيف جديدًا، بالعكس تُعيدنا مجددًا لذات الفكرة المسيطرة على جل أعماله تقريبًا، إذ يقول: “أعني، ألم تلاحظ كيف أننا الليبيون لا نغادر وطننا أبدًا؟ نسافر بعيدًا، وقد نبقى عقودًا، لكننا نبقى مرتبطين بالوطن القديم. إنه إنجاز، في رأيي، إنجاز حقيقي، أن ينسى المرء والده. أود أن أفعل ذلك. أن يستيقظ المرء ذات صباح ويبدأ حياته بدون أن يُفكر فيه”.
ورغم تناول العمل للعلاقة بين المكان والهوية، الماضي والذاكرة، من خلال منظور المنفى المستمر، وتعمّق مطر في وصف تفاصيل اليومي كجزء من مقاومة النسيان، والتنقل السلس بين استدعاء أحداث الماضي وتبعاتها على الحاضر، ودورها في نهج أو سلوك الشخصيات والأبطال وتشكيل عوالمها، وكيفية تأثرهم بالسياسة وما جرى ويجري في بلدهم حتى وهم في المنفى، وامتلاك الكاتب بصفة عامة لقدرة لافتة على تحويل التجربة الشخصية والمأساة العائلية إلى نصوص إنسانية عالمية، إلا أن العمل، وكأغلب أعمال مطر، التي لا ننكر خلوّها من التأمل والفكر والفلسفة والإحالات التاريخية لحضارة ليبيا، في النهاية، بحاجة إلى قارئ لا ينزعج من تكرار عوالم وأفكار ووقائع وتجارب وشخصيات، ولا من تكرار هبوط الإيقاع، وحضور الملل أو قلة التشويق، وانتفاء المُدهش والمُغاير. ما يتطلب ضرورة التحلي بصبر شديد، حتى وإن كنا في حضرة حكّاء مُحترف.