كارلوفي فاري – محمد هاشم عبد السلام

بعد الفقرة الاستعراضية السنوية المعتادة، والمتسمة كالعادة بالإيجاز والفنية والغرابة، انطلقت مساء الجمعة 4 تموز/ يوليو فعاليات الدورة الـ59 لـ”مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي” (KVIFF)، في تشيكيا، على مسرح فندق “تيرمال” العريق، مقر انعقاد الجزء الأكبر والأهم من فعاليات المهرجان الذي يُعتبر أحد أهم وأكبر وأعرق المهرجانات السينمائية العالمية، والأوروبية، خاصة في وسط وشرق أوروبا. أثناء الحفل، جرى استعراض الأفلام المتنافسة في المسابقتين الرئيسيتين بالمهرجان، مسابقة “الكرة البلورية” ومسابقة “بروكسيما”، وأعضاء لجان التحكيم، ثم جرى توزيع الجوائز التكريمية، ليختتم الحفل بعرض غنائي خاص في القاعة الكبرى، أحيته فرقة “لا رو” (LA ROUX) البريطانية المعروفة، التي تأسست عام 2008، وحصلت على جوائز أوروبية ودولية عديدة.
كالعادة، تكتمل انطلاقة أو تدشين فعاليات المهرجان بعد انتهاء الحفل الموسيقي الغنائي المجاني، المقام على المسرح المنصوب أمام مقر انعقاد المهرجان في الهواء الطلق، والذي يعقبه دومًا إطلاق الألعاب النارية الكثيفة في سماء المدينة في تمام الثانية عشرة مساءً.
المهرجان المستمرة فعالياته حتى يوم 12 تموز/ يوليو، يحضره العديد من نجوم العالم، سواء للمُشاركة بأعمالهم أو للتكريم أو للمساهمة في أنشطته المُختلفة. أما الحضور الجماهيري أو النجم الحقيقي والفعلي للمهرجان، الذي يعتبر من أكبر المهرجانات الأوروبية المفتوحة للحضور الجماهيري، ففي ازدياد ملحوظ من عام إلى آخر. إذ ارتفعت مبيعات تذاكره من 128 ألف تذكرة قبل عامين إلى 140 ألف تذكرة في دورته الأخيرة لعام 2024.

الألعاب النارية تدشن انطلاقة المهرجان.

هذا، مع الأخذ في الاعتبار، صغر حجم المدينة، والكثافة السكانية القليلة، وعدد صالات العرض التي لا تزيد عن أصابع اليدين، وطاقتها الاستيعابية المحدودة، رغم التطوير والترميم. ما يجعل المهرجان، بعكس مهرجانات كثيرة تشكو من قلة الحضور والمتابعة وانصراف الجمهور، أمام واحدة من أهم العقبات التي يتعين التغلب عليها خلال السنوات القادمة في حال زيادة أو تضخم جمهور المهرجان. وهذا متوقع، لأسباب كثيرة، منها قرب كارلوفي فاري من مدن تشيكية مختلفة، والتسهيلات والتيسيرات الجمة التي يوفرها المهرجان، خاصة للطلبة والشباب. إذ أن أغلبية جمهوره من المراهقين والشباب الذين ارتبطوا به على مدى سنوات، وبات موعده الصيفي بمثابة وجبة ثقافية وفنية دسمة، شبه مجانية، لا يمكن تفويتها.

برنامج حافل

كما جرت العادة، يُشارك في مسابقة المهرجان الرئيسية، “الكرة البلورية”، 12 فيلمًا من آسيا وأوروبا. مع عودة ملحوظة للأفلام الإيرانية والتركية والأميركية، التي غابت عن المُنافسة في المسابقة العام الماضي.
فيلم “جيمي جاجوار” للمجري بينس فليجوف، صاحب الأعمال الروائية الطويلة والقصيرة، والحاصل على عدة جوائز من برلين ولوكارنو وغيرهما، من بين الأفلام المنتظرة. أيضًا، عودة الأميركي ماكس ووكر- سيلفرمان إلى كارلوفي فاري لتقديم فيلمه “إعادة بناء”، وهو الجزء الثاني من فيلمه “أغنية حب”، الذي عُرض في صندانس وبرلين وغيرهما عام 2022.
أما مُسابقة “بروكسيما”، التالية في الأهمية للمسابقة الرئيسية، وهي مفتوحة للأفلام الطويلة من أنحاء العالم، ومُخصصة للأعمال والتجارب الجديدة والتجريبية والجريئة للمخرجين الشباب، فيُعرض فيها 13 فيلمًا من مختلف القارات، بإجمالي 12 فيلمًا تعرض عرضًا عالميًا أول، وفيلمًا واحدًا كعرض دولي أول.

إلى ذلك، تحضر السينما العربية بفيلم وثائقي للسوري عمار البيك، بعنوان “تريبانيشن”. والفيلم ربما من أطول الوثائقيات الحديثة المعروضة في المهرجان، إذ يمتد زمن عرضه لـ222 دقيقة، ويتناول قضايا الهجرة والمهاجرين في أوروبا، وألمانيا تحديدًا، من منظور شخصي.
بخلاف هذا، يشهد المهرجان قرابة الـ12 تظاهرة فرعية، يعرض بها مئات الأفلام الحديثة أو القديمة، الطويلة أو القصيرة، تحت فئات عديدة. أبرزها بالطبع، المعروضة في القسم الاستعادي والكلاسيكيات أو ضمن قسم الشخصيات المكرمة أو عروض منتصف الليل. أما قسم “آفاق”، الذي يحرص الجميع على حضوره، وتنفد بطاقاته فورًا، والمختص بعرض أهم وأبرز الأعمال الحاصلة على جوائز في مختلف مهرجانات العالم، وبالأخص برلين وكان وفينيسيا، فيبلغ عدد أفلامه هذا العام 52 فيلمًا.
يذكر أن فيلم المخرجة الفلسطينية شيرين دعيبس “اللي باقي منك” سيعرض ضمن قسم “عروض خاصة”. وسيشهد نفس القسم غير التنافسي عرض 8 أفلام، إنتاج هذا العام أو العام الماضي، من بينها فيلم “كارافان”، وهو أول فيلم روائي طويل للتشيكية سوزانا كيرخنيروفا، وكان أول فيلم تشيكي يُعرض في منافسة قسم “نظرة ما” بمهرجان “كانّ” هذا العام، منذ 30 عامًا. أيضًا، فيلم المخرجة التونسية أريج السحيري “أرض بلا سماء” في قسم “آفاق”. كما سيعرض الوثائقي المهم عن المصورة الفلسطينية الشهيدة فاطمة حسونة، للمخرجة الإيرانية زبيدة فارسي “ضع روحك على كفك وامض” ضمن نفس القسم.
كما سيعرض في قسم “من الماضي” الفيلم الكلاسيكي “أحدهم طار فوق عش الوقواق” لميلوش فورمان، إنتاج عام 1975. وذلك احتفالًا بمرور خمسين عامًا على إصداره، وأيضًا في إطار تكريم المهرجان للنجم الأميركي مايكل دوجلاس الذي سيقدم الفيلم بنفسه. إضافة إلى عرض كلاسيكيات أخرى مثل “باري ليندون” لستانلي كوبريك، و”جلوريا” لجون كاسافيتيس، و”مأدبة زفاف” لأنج لي.

جوائز المهرجان التكريمية

جريًا على عادته في منح أكثر من جائزة تكريمية، “الكرة البلورية الفخرية” باسم المهرجان و”الإسهام المتميز” باسم رئيس المهرجان، لنجوم ونجمات من التشيك أو أوروبا أو من أنحاء العالم، تقديرًا لإسهاماتهم البارزة في الصناعة، تقرر منح الممثل الأميركي بيتر سارسجارد جائزة “الإسهام المتميز” باسم رئيس المهرجان. بيتر سارسجارد، الفائز بعدة جوائز دولية وترشيحات مهمة مثل، “كأس فولبي” من “مهرجان فينيسيا”، وترشيحات لجوائز “إيمي” و”جولدن جلوب” وغيرهما، والذي حرص خلال استقباله على السجادة الحمراء على مصافحة الجمهور والتوقيع لهم والتقاط الصور معهم بدون كلل أو ملل أو تبرم وبأريحية سامية، تسلم جائزته خلال حفل الافتتاح، وعبَّرَ عن امتنانه البالغ وتقديره العميق للمهرجان وإدارته.

النجم بيتر سارسجارد مع جائزته التكريمية.

أما الممثلة اللوكسمبورجية فيكي كريبس، بطلة فيلم افتتاح المهرجان العام الماضي، “الموتى لا يؤذون” للممثل والمخرج فيجو مورتنسن، فقد جلب لها دور الإمبراطورة “سيسي” المتمردة في فيلم “كورساج” للمخرجة ماري كروتزر (2022) جائزة “أفضل ممثلة” في قسم “نظرة ما” في مهرجان “كانّ”، و”أفضل ممثلة” في “جوائز السينما الأوروبية”، أيضًا. كانت فيكي قد بدأت تنال الإعجاب والجوائز منذ انتشارها عالميًا عام 2017. وكانت آخر إطلالة مميزة لها في فيلم “حبني برقة” للمخرجة آنا كازناف كامبيت. عرض الفيلم في قسم “نظرة ما” في مهرجان “كانّ” هذا العام. أما جديدها “أب وأم وأخت وأخ” مع كيت بلانشيت وآدم درايفر، تحت قيادة المخرج جيم جارموش، فمن المتوقع عرضه في “مهرجان فينيسيا” القادم. وقد تسلمت فيكي، خلال حفل الافتتاح جائزة “الإسهام المتميز” عن أدوارها اللافتة خلال مسيرتها الفنية القصيرة نسبيًا.

كما تقرر أيضًا منح الممثل السويدي المعروف ستيلان سكارسجارد جائزة “الإسهام المتميز” باسم رئيس المهرجان، تقديرًا لمساهماته الفنية البارزة في السينما العالمية. سيقدم سكارسجارد، الممتدة مسيرته المهنية لأكثر من خمسة عقود في السينما الأوروبية وبعض الأفلام الهوليوودية البارزة، أحدث فيلم شارك فيه وكان بعنوان “القيمة العاطفية” للمخرج يواكيم ترير، والذي شارك مؤخرًا في مسابقة مهرجان “كانّ”. وقد حصل الفيلم على “الجائزة الكبرى” للمهرجان.

النجمة فيكي كريبس تتسلم جائزتها التكريمية.

كما ستمنح نفس الجائزة التكريمية للممثلة الأميركية داكوتا جونسون، التي بدأت مسيرتها الفنية في سن العاشرة، واستمرت في إثبات قدراتها ومواهبها الفنية وعشقها للسينما أيضًا، ليس كممثلة فحسب بل كمنتجة ومخرجة. داكوتا التي ترشحت من قبل لجائزة “بافتا” وغيرها من الجوائز، ستقدم أحدث فيلمين لها، الفيلم الكوميدي الرومانسي “سبليتسفيل”، من إنتاجها وإخراج مايكل أنجيلو كوفينو، وعرض مؤخرًا في مهرجان “كانّ”، وفيلم “الماديون” للمخرجة سيلين سونج.
أما جائزة “الكرة البلورية الفخرية” التي تمنح باسم المهرجان فحصل عليها المونتير التشيكي المخضرم يِجِي بروجِيك. وفي رصيده أكثر من مائة فيلم سينمائي وتلفزيوني ومسلسل، ومسيرة عريضة امتدت لقرابة نصف قرن، عمل خلالها مع كبار المخرجين في تشيكوسلوفاكيا، ثم التشيك مثل، يري مِنزل، وإيفان باسر، وفيرا تشيتيلوفا.

تكريمات وحضور

النجم مايكل دوغلاس بالمهرجان سنة 1998.

ضمن تظاهرة تحمل عنوان “حياة وعصر جون جارفيلد”، سيُقيم المهرجان تكريمًا حصريًا لنجم الشاشة الأميركية في أربعينيات القرن الماضي الممثل جون جارفيلد. وذلك من خلال عرض 10 من أهم أفلامه، ثمانية منها نسخ 35 ملم، ذات جودة عالية.
وضمن قسم “من الماضي” يُعرض الفيلم الكلاسيكي “أحدهم طار فوق عش الوقواق” لميلوش فورمان، إنتاج عام 1975. وذلك احتفالًا بمرور خمسين عامًا على إصداره، وأيضًا في إطار تكريم المهرجان للنجم الأميركي مايكل دوجلاس. سينضم إلى مايكل دوجلاس في العرض الاحتفالي للفيلم بول زانتز، ابن شقيق الممثل الراحل شاول زانتز، الذي أنتج الفيلم مع دوجلاس، بالإضافة إلى أفراد من عائلة فورمان. كانت آخر زيارة قد قام بها مايكل دوجلاس إلى كارلوفي فاري عام 1998، عندما تم تكريمه هو وشاول زانتز بجائزة “الكرة البلورية الفخرية”.

إلى جانب حضور النجوم والنجمات من السينما الأوروبية والعالمية، تتواجد أيضًا نخبة من المخرجين المُهمين، سواء لعرض أعمالهم أو المشاركة في لجان التحكيم أو إعطاء ورش التدريب أو دروس السينما وغيرها. ومن بين أكثرهم مواظبة وحرصًا على حضور المهرجان، المخرج المكسيكي ميشيل فرانكو، والمخرج الأوكراني سيرجي لوزنيتسا، والمخرجة البولندية أجنيشكا هولاند، إضافة إلى نخبة من نجوم ونجمات ومخرجين ومخرجات السينما التشيكية، وأيضًا شرق ووسط أوروبا.

فيلم افتتاح مُختلف

عادة يفتتح المهرجان بفيلم روائي طويل، عالمي في الغالب، وليس تشيكيًا، يحضره نجوم ونجمات الفيلم. لكن هذا العام اختلف الأمر، نظرًا للظرف المفاجئ الذي وقع قبل فترة وجيزة من انطلاق المهرجان، إذ رحل نجم السينما التشيكية المخضرم، ورئيس المهرجان منذ عام 1994، يري بارتوشكا، في أيار/ مايو الماضي، عن عمر 78 عامًا. وقد تقرر، ضمن إطار تكريم وتأبين الرئيس الراحل، والذي تُرك منصبه شاغرًا حتى اللحظة، عرض الفيلم الوثائقي “علينا أن نؤطره: محادثة مع يري بارتوشكا”، إخراج ميلان كوشينكا وجاكوب جوراسيك.

لقطة من فيلم الافتتاح عن مدير المهرجان يري بارتوشكا.

إلى جانب فيلم الافتتاح، الذي تناول تاريخ بارتوشكا الفني وعلاقته الممتدة مع المهرجان، تزينت كارلوفي فاري، وتحديدًا امتداد النهر الرئيسي الذي يتوسط المدينة، نهر “تيبلا” وتعني الدافئ، بصور ليري بارتوشكا. وذلك بإجمالي 60 صورة ضخمة بالأبيض والأسود، من أهم أفلامه، ومراحل مختلفة من حياته، وضمن أروقة المهرجان، جرى التقاطها بواسطة مصورين مختلفين على مدى عقود. وذلك كجزء بسيط وسريع من جانب إدارة المهرجان لتكريم رئيسه الراحل، وتقديرًا لما شهده المهرجان من تطور لافت، ونقلة نوعية ملحوظة في مختلف المستويات، بفضل جهوده على مدى ثلاثة عقود تقريبًا.