فينيسيا – محمد هاشم عبد السلام

في أول مشاركة له في “مهرجان فينيسيا السينمائي”، بدورته 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025)، فاز الأميركي جيم جارموش بجائزة الأسد الذهبي عن فيلمه الرائع “أب أم أخت أخ”، المُنجز بعد انقطاع عن الإخراج ستة أعوام. الجائزة هذه تتويج لمسيرة أحد أبرز المخرجين المستقلّين في تاريخ السينما الأميركية الحديثة، منذ انطلاقته في ثمانينيات القرن 20، بأفلامٍ مغايرة كرّسته صوتاً سينمائياً فريداً، يصنع أفلاماً تنبض بالبساطة والسهولة والعادية، لكنّها عميقة ومؤثّرة، وذات بصمة أسلوبية فريدة وهادئة، وحوارات رشيقة ومُكثّفة ومُقتضبة، تهتمّ بالشخصيات والحياة الهامشية أولاً.

في جديده، يعتمد جارموش على بصماته الإخراجية الفريدة، المميّزة أغلب أفلامه الجميلة، تحديداً منذ “أغرب من الفردوس” (1984)، وإنْ بتنويعات طفيفة أحياناً، تذكّر كثيراً بجارموش القديم وأسلوبه اللافت، بعيداً عن أفلام الوسترن، كـ”رجل ميت” (1995)، أو الإثارة والجريمة، كـ”الكلب الشبح” (1999) و”حدود السيطرة” (2009)، وأفلام الزومبي، كـ”العشّاق فقط يظلّون أحياء” (2013) و”الموتى لا يموتون” (2019).

هنا، يتجلّى أسلوبه في عودته إلى أفلامه ذات القصص المنفصلة، إذْ ينقسم “أب أم أخت أخ” إلى ثلاث قصص، تجري أحداثها في ثلاث دول. يحضر أيضاً التجريد الجارموشيّ الفريد للقصص والأحداث، جاعلاً الدراما في أقصى حالاتها تقشّفاً، ومحافظاً على برود الإيقاع وهدوئه، لا بُطئه. كما يبرز تفضيله الدائم لتجريد الكادر واللقطات من كلّ ما يحول دون التركيز على الشخصية والحدث والحوارات البسيطة المتقشّفة، فالثانوي لا وجود له. لذا، لا يولي اهتماماً كبيراً بالاشتغال على جماليات الصورة وفنيّاتها، ولا الانشغال بحركة الكاميرا وتأطير لقطات مُبهرة.

بأسلوبه الفريد والذكي والعميق، يُبيّن جارموش كيف تحوّلت اللقاءات الأسرية، التي يُفترض بها أنْ تكون مُفعمة بالحرارة والدفء والحميمية والودّ، وتعيد وصل ما انقطع وفتر، إلى فخّ يسوده البرود والجفاء والرسمية والإجبار. يتجلّى هذا في عجز عن التواصل، وخلق لغة حوار إنسانية، لا تقع في الإحراج الناجم عن سيادة الصمت وتبخّر الكلمات، وتنأى عن الخراقة المتفجّرة عن عبثية الأسئلة الخاوية من المعنى، وغير المتطلّبة إجابات أصلاً. وكيف أنّ التواصل الإنساني بات مستحيلاً، وربما ثقيل الوطأة ومُزعجاً، حتى بين أقرب الناس.

تدور أحداث الفصل الأول (أب) في غابة أميركية، ذات شتاء. جِفْ (توم وايتس) أبٌ غريب الأطوار، ينتظر زيارة ولديه البالغين، جِفْ (آدم درايفر) وإيملي (ماييم بياليك)، للاطمئنان عليه بعد انقطاع طويل. في الزيارة الرسمية القصيرة، الباردة وشبه الودية، يحاولان استكناه سلوك والدهما وحياته وروتينه الغريب. تبرز الكوميديا في تفاصيل صغيرة: احتساء نخبٍ معاً بأكواب مليئة بالماء، ارتياب من الحالة المادية المتيسّرة للوالد، بناء على ساعة يد رولكس فاخرة، يزعم أنّها مُقلَّدة. يسمح جارموش لهذه اللحظات بكشف ما تحت السطح، من دون ثرثرة وافتعال لمواقف وكلمات.

الفصل الثاني (الأم) ينتقل إلى دبلن: الأم (شارلوت رامبلينغ) كاتبة جدّية وصارمة مشهورة، تنتظر قدوم ابنتيها ليليث (كايت بلانشيت) وتيموثيا (فيكي كريبس). تتكرّر تقريباً المواقف السابقة نفسها، والجمل الحوارية الساخرة والحادّة، الباعثة على الكآبة. كما تحوم شكوك حول ساعة رولكس أيضاً. المُغاير قليلاً أنّ جارموش يجعل أغلب اللقاءات تدور أثناء الجلوس إلى طاولة الشاي، وتناول معجّنات.

القصة الأخيرة (أخت أخ) في باريس: يعود شقيقان، من أصول أفروأميركية، إلى منزل والديهما الراحلَين مؤخّراً، في زيارة أخيرة للشقّة الفارغة. هنا بعض الحميمية والدفء بين الشقيقين التوأم سكاي (إنديا مور) وبيلي (لوكا سابات). يبدو أيضاً أنّ أحدهما لا يتواصل مع الآخر منذ فترة. رغم هذا، يُعتبر الجزء الأخير الأقلّ بروداً ورسمية، إذْ يُلمَس دفء وحميمية وألفة. هل مَردّ ذلك إلى وفاة الأبوين، أمْ لأنّ العلاقات بين الأشقاء تكون، أحياناً، أبسط وأعمق من تلك التي مع الوالدين؟

أسئلة كثيرة تُثيرها القصص الثلاث. سواء على حدة، أو بوضعها معاً في إطار صورة أكبر. أسئلة لا تكتفي بدقّ ناقوس خطر انهيار العلاقات الإنسانية بين الأقرباء، ونهاية ما يُعرف بالمفهوم التقليدي للأسرة في بقاع جغرافية مُختلفة فقط، بل أيضاً رصد معضلة الإنسان، ومشاكل الحياة، والمتاعب والمتطلّبات تجاه الأسرة الكبيرة، وكيف أنّ صلة الدم ليست أبداً شرطاً للحبّ، أو لزاماً للمودة، أو ضرورة لمعرفةٍ وثيقة بالآخر، والتفاهم والتواصل الإنساني البسيط معه.

ربما تكون السينما البسيطة لجيم جارموش، أو البدائية بمختلف جوانبها، والخالية من المبهر والمؤثّر، مُملّة ورتيبة قليلاً عند البعض، خاصة، إذا أُضيف إلى هذا طبيعة المواضيع والشخصيات والأحداث. لكنّ قوّة الطرح، ورشاقة الحوار المكثّف وذكاءه، والأداء التمثيلي المنضبط، تُدخِل المتلقّي في حالة خدر لذيذ ومُبهج ومُشوّق، وتنزع عنه أي انزعاج من أسلوب المخرج وطبيعة مواضيعه.