فيينا – محمد هاشم عبد السلام

في مساء الخميس 16 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، انطلقت بالعاصمة النمساوية فيينا الدورة الـ63 من “مهرجان فيينا السينمائي الدولي”، المنعقدة ما بين 16-28 أكتوبر/ تشرين الأول 2025 الجاري. يعد مهرجان فيينا الأقدم والأهم سينمائيا في النمسا، ومن أبرز المهرجانات وأعرقها في الدول الناطقة باللغة الألمانية.

فييناله.. الاسم الذي اشتهر به المهرجان

يُعرف “مهرجان برلين السينمائي الدولي” اختصارا باسم “برليناله”، وهي تسمية التصقت به منذ عقود، وباتت معتمدة في الإعلام العالمي، وليس لها أي مرادف أو ترجمة في اللغة الألمانية، خلا أنها تدليل من سكان برلين لمهرجانهم، كما قالت إدارة المهرجان ذات مرة.

على غرار “برليناله”، اشتهر “مهرجان فيينا السينمائي الدولي” باسم “فييناله” (Viennale)، وليس لها معنى ولا دلالة في الألمانية النمساوية، ويمكن تفسير المقطع الأول باسم العاصمة فيينا، لكن المقطع الثاني يثير غرابة وارتباكا وغموضا، لا سيما أن المهرجان لا يقام كل عامين، كي يستعير وصف “البيناله”، أو ما تعنيه كلمة “بينالي” بحدث ثقافي أو فني ينعقد كل عامين.

مهرجان عريق مُختلف

يُقام المهرجان سنويا في النصف الثاني من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، في قلب مدينة فيينا، ويجمع بين عروض الأفلام الحديثة، والبرامج الاستعادية، والفعاليات الخاصة، وغيرها من اللقاءات الثقافية، التي تنعقد في أجواء خريفية متميزة. أبرز ما يلفت الانتباه في المهرجان تشكيلة الأفلام المهمة، التي عُرضت هذا العام في شتى المهرجانات السينمائية الدولية، أو التي ستُعرض في مهرجانات الخريف في الأسابيع المقبلة.

وقد بنى المهرجان منذ انطلاقته شهرته على عرض أهم الأفلام العالمية الحديثة وأبرزها، محليا وإقليميا، والبرامج الاستعادية لأهم الأفلام وأبرزها وأغربها. وتسليط الضوء على أعمال المخرجين والمخرجات غير المشهورين في تاريخ السينما، مع عروض للأفلام المرممة أو المجهولة.

إعلان المهرجان في مختلف أنحاء المدينة.

المثير للانتباه أن المهرجان -على شهرته وعراقته وأهميته سينمائيا وإعلاميا ونقديا- ليس كغيره من المهرجانات المعتادة، فلا يتضمن أي مسابقات رئيسية أو فرعية، ولا لجان تحكيم، ولا جوائز ذات تصميم خاص، ولا شخصيات سنوية مكرمة، ولا يهتم كثيرا بحشد النجوم في فعالياته.

ثم إنه لا يعبأ باستقطاب شركات الإنتاج والتوزيع الكبرى، وحيازة أفلامها في عروض عالمية أولى حصرية، فهو خارج منافسة المهرجانات الكبرى على هذا المضمار. كما أنه لا يحتضن سوق إنتاج سينمائي، لعرض الأفلام والمشاريع وتوزيعها وبيعها.

لمحة تاريخية عن مهرجان فيينا

أُقيم المهرجان أول مرة في عام 1960، تحت اسم “المهرجان الدولي لأهم أفلام عام 1959″، بمبادرة من صحفيين ونقاد سينمائيين نمساويين. ثم عُرف رسميا بعد عام 1960 باسم “مهرجان فيينا السينمائي الدولي”، وصار منذ يومئذ يعقد سنويا، باستثناء سنوات قليلة، انقطع فيها لأسباب متعددة، وبات الحدث السينمائي الأهم والمنتظر سنويا في النمسا.

في الستينيات والسبعينيات، ركز المهرجان على تقديم أفلام مستقلة غير تقليدية، فتعززت مكانته منصةً للأفلام الفنية. وفي الثمانينيات والتسعينيات، توسع في عدد الأفلام المعروضة، وزاد عدد زواره، فأصبح وجهة مهمة لصناع السينما والجمهور على حد سواء. وفي السنوات الماضية، استمر في تقديم برامج متنوعة، مع التركيز على السينما المستقلة والتجريبية، وجذب جمهورا شابا ومتنوعا.

“سينما المدينة” واحدة من أهم سينمات المدينة والمهرجان.

يعد “مهرجان فيينا” من المهرجانات السينمائية المفتوحة للجمهور، التي تأخذ في اعتبارها الإقبال الجماهيري، وبيع تذاكر الأفلام للجمهور في شتى قاعات المهرجان. تُعرض أفلام المهرجان في دور سينمائية تاريخية متعددة في وسط فيينا، منها “سينما الحديقة”، و”متحف السينما”، و”أورانيا”، و”سينما المترو”، و”سينما المدينة”.

يُقدم المهرجان في أيام انعقاده أكثر من 300 فيلم، تشمل عروضا عالمية أولى، وأفلاما مستقلة، ووثائقية، وتجريبية، وكلاسيكية، وقصيرة. ومع أنه ليس تنافسيا، فإنه يمنح عدة جوائز، أبرزها:

  • “جائزة فيينا السينمائية”، وتُمنح لأفضل فيلم نمساوي.
  • “جائزة الجمهور”، وتُمنح بناء على تصوير جمهور المهرجان لأحسن الأفلام.
  • “جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما”، وتسمى اختصارا “فيبريسكي”.

الفعاليات الخاصة.. “جولييت بينوش” مخرجة

تتعدد الفعاليات الخاصة يوميا في المهرجان، منها السينمائي البحت، ومنها الفني والتشيكلي والموسيقي، وتشمل عروضا سينمائية في الهواء الطلق، وندوات ومحاضرات ودروسا سينمائية، ولقاءات مع صناع الأفلام، وحفلات موسيقية، وحتى عروض دي جي.

من أهم اللقاءات مع صناع الأفلام، تحضر المهرجانَ هذا العام النجمةُ الفرنسية “جولييت بينوش”، بصفتها ضيفة المهرجان، وبهذه المناسبة سيعرض فيلمها “في حركة” (In Motion) عرضه العالمي الأول، وهو أول أفلامها مخرجةً. يبلغ طول الفيلم 126 دقيقة، ويتناول السنوات التي توقفت فيها “جولييت” عن التمثيل، واستغرقت في تعلم فنون الرقص، وتصميم الرقصات، مع الراقص ومصمم الرقصات أكرم خان.

بيس
لقطة من الوثائقي “في حركة” للممثلة والمخرجة جوليت بينوش.

أما عروض الهواء الطلق، فربما تكون من الأوجه التي يتفرد بها “مهرجان فيينا”، ولا أظن أبدا أن ثمة من يشاركه فيها، إذ يعرض المهرجان بعض الأفلام في تمام الساعة السادسة والنصف صباحا، ضمن برنامج صغير يسمى “إفطار الصباح”، في “سينما الحديقة” في الهواء الطلق.

ضمن أفلام هذا البرنامج المبكر للغاية، يعرض مثلا فيلم “بيغونيا” (Bugonia) لليوناني “يورغوس لانتثيموس”، الذي قامت ببطولته النجمة الأمريكية “إيما ستون”. للفيلم أهميته المعتبرة، سواء في مسيرة المخرج أو مستوى أفلام هذا العام، وقد نافس في “مهرجان البندقية” هذا العام، لكن فيه جرعة من العنف والدماء والقتل. وللقارئ أن يتخيل الذهاب لحفل عروض “إفطار الصباح”، ويبدأ يومه بمشاهدة هذا النوع، لكنها تجربة تستحق على كل حال.

على هامش المهرجان، وخلال الفعاليات الجانبية المقامة هذا العام، ستحضر الموسيقى العربية الحديثة بأنواعها، بين موسيقى العالم، خلال حفل “دي جي” ساهر، يقام في أكبر قاعات المدينة.

ملصق المهرجان.. الفريسة والضحية

تعد ملصقات المهرجان من أبرز عناصر هويته البصرية، وتعكس تطور الذائقة الفنية والتوجهات الثقافية عبر تاريخه، فمنذ تأسيسه عام 1960، حرص على تقديم تصاميم مبتكرة، تعبر عن روح السينما وتاريخها وتطوراتها وتوجهاتها، وأغلب هذه الملصقات موجودة على موقعه.

في السنوات الماضية، بدأ المهرجان يستخدم تقنيات فنية متنوعة في تصميم ملصقه السنوي، منها الرسوم التوضيحية الرقمية، والتصوير الفوتوغرافي المعاصر، فأضفى طابعا عصريا على هويته البصرية. وقد اعتمد ملصق هذا العام على الرسم اليدوي البسيط، والتنفيذ الرقمي، بحيث يعكس التصميم توازنا بين الأصالة والحداثة، لكن موضوعه يحمل إحالات كثيرة معاصرة وتراثية.

يظهر الملصق ثعلبا يتظاهر بالموت لجذب فريسته، في حين يتحين طائر ضخم الوقت المناسب للانقضاض على فريسته، فيعكس التلاعب بالأدوار بين الضحية والجاني. يستلهم الملصق رمزيا نسخة فرنسية من كتاب “فيزيولوغوس” (Physiologus) تعود للقرن الثالث عشر. ويُعد الثعلب رمزا للمكر والخداع في كثير من الثقافات، ويُبرز التوتر بين الخداع والبراءة، مما يثير تساؤلات حول النيات الحقيقية عند الأطراف المعنية.

ملصق الدورة يزين شوارع فيينا.

تاريخيا وثقافيا وتراثيا، يعد الثعلب على مدى قرون ماكرا ومتكبرا، وغير موثوق به، وضحية، كما يرمز للخداع والازدواجية، ومع ذلك، فليس واضحا تماما في الملصق من المُهاجم ومن الضحية. وفي هذا الغموض والتعقيد، تكمن جاذبية الملصق وذكاء الموضوع والاختيار، ويعد مثالا على كيفية استخدام الرمزية والتقنيات الحديثة في التصميم، لإيصال رسائل ثقافية وفنية معقدة، مما يُعزز هوية المهرجان ويبرز مكانته.

جدير بالذكر أن قسم العروض الاستعادية في المهرجان -وهو من أهم الأقسام- عادة ما يكون له ملصق خاص به، وبما أن الشخصية المحورية هذا العام هو المخرج الفرنسي الطليعي “جان إيبستين”، الذي ستعرض أفلامه بتقنية 16 ملم في تجربة فريدة ونادرة، فإن تصميم ملصق القسم هذا العام يحمل لقطة من فيلم “انهيار منزل آل آشر” (La chute de la maison Usher)، الذي أخرجه “إيبستين” (1928).

فيلم افتتاح من إخراج الرئيس الجديد

تولت المديرة الفنية المكسيكية “إيفا سانغيورجي” إدارة المهرجان منذ 2018 حتى الآن، وظل منصب رئيس المهرجان شاغرا منذ سنوات، بلا أسباب معلنة، حتى أعلنت الإدارة هذا العام اختيار المخرج الألماني المعروف “كريستيان بتزولد”، لتولي رئاسة المهرجان في السنوات القادمة.

ذيسبس
لقطة من فيلم الافتتاح “المرايا رقم 3” لكريستيان بتزولد.

وفي ضوء ما سبق، اختير فيلم “المرايا رقم 3” (Miroirs No. 3)، الذي أخرجه رئيس المهرجان “كريستيان بتزولد”، ليكون فيلم افتتاح “مهرجان فيينا” هذا العام، وسوف يعقد الرئيس الجديد لقاء مفتوحا مع الصحافة، حول تجربته السينمائية العريضة، وأسباب توليه رئاسة المهرجان، ورؤيته للدورات القادمة.

مشاركة عربية محدودة.. وهند رجب تطل بصوتها

تعد المشاركة العربية في المهرجان هذا العام محدودة بعض الشيء، فقد خلا برنامج قسم الأفلام القصيرة من مشاركة أي أفلام قصيرة فيه، لكن اختيرت بعض أفضل الأفلام العربية الروائية الطويلة والوثائقية.

فمن تلك الأفلام “حكايات الأرض الجريحة”، للمخرج العراقي عباس فاضل، وقد فاز عنه بجائزة “أحسن إخراج” في الدورة المنصرمة من مهرجان “لوكارنو السينمائي الدولي”. ومن نفس المهرجان، اختير أيضا فيلم “مع حسن في غزة”، للمخرج الفلسطيني الموهوب كمال الجعفري.

لقطة من فيلم “حكايات الأرض الجريحة” لعباس فاضل.

وقد اختير من الأفلام العربية المشاركة في الدورة المنصرمة من “مهرجان كان السينمائي الدولي” الفيلم التونسي “أرض بلا سماء” لأريج السحيري، الذي افتتح قسم “نظرة ما”.

كما سيعرض فيلم “الصغيرة الأخيرة” للتونسية الفرنسية حفصية حرزي، الذي شارك في “المسابقة الرئيسية” في مهرجان كان، وفازت بطلته نادية مليتي بجائزة “أحسن ممثلة” في المهرجان.

لقطة من فيلم “صوت هند رجب” لكوثر بن هنية.

ومن الأفلام العربية التي عرضت في “مهرجان البندقية السينمائي الدولي” في دورته المنصرمة، اختير الفيلم الفائز بجائز “الأسد الفضي” هذا العام، وهو “صوت هند رجب” للمخرجة التونسية كوثر بن هنية.