محمد هاشم عبد السلام
رغم أنها مخرجة ثلاثة أفلام روائية طويلة فقط، في سبع سنوات، يمكن بسهولة التنبّه إلى علامات كثيرة مميّزة في نتاجات المخرجة والسيناريست المغربية مريم التوزاني، ذات الرؤية الجمالية الفريدة، والعوالم الطازجة، والموضوعات الجريئة، مغربياً وعربياً.
من أبرز سمات سينماها، إن جازت التسمية، عشقها لتناول الشائك والمثير والجريء، من دون مبالغة أو استغلال أو ابتذال. فبحرفية سيناريست متمرّسة، نجحت أكثر من مرة في نسج حبكات غير بسيطة، عميقة وصادقة. بصفتها مخرجة، برهافة وإقناع وجدية، تتقن تقديم موضوعاتها وشخصياتها وتفاصيل عوالمها بتوازن بالغ الانضباط والصرامة والرقة، من دون اختلال أغلب العناصر، أو طغيان أحدها على الآخر. والأهمّ، من دون تعمّد لفت الانتباه إلى طبيعة ما تقدمه وجرأته، ومن دون التهديد بإفساد كل شيء، والوقوع في الكليشيهات الممجوجة، التي يمكن بسهولة أن تنزلق إليها أفلامها.
تجلّى هذا في تناولها، المرهف والدقيق، شخصيات غير معتادة، مؤثرة ومثيرة للجدل، في فيلميها السابقين: مع خبّازة، تجد نفسها بغتة إزاء مسؤولية شابّة حبلى غير متزوّجة، في “آدم” (2019)؛ وامرأة مُحبّة ومخلصة لزوجها، تكتشف أنها ضحية مرض ينهشها، وعلاقة عشق مثلية تسلبها زوجها أمام عينيها، في “أزرق القفطان” (2022). فيهما، يُلاحَظ أنّ اختيار التوزاني الممثلة لبنى أزابال للدور النسائي الأول، وتقديم عوالم امرأتين في مراحل عمرية مختلفة، وظروف حياتية واجتماعية متباينة، يؤكّد ذكاء مخرجة في تقديم عوالم وشخصيات نسائية فريدة بعمق وإتقان، اعتماداً على أداء مقنع جداً لبطلات تحسن اختيارهنّ.
في الخط نفسه تقريباً، تمضي التوزاني في “زنقة مالقة” الفائز بجائزة جمهور “تحت الأضواء”، في الدورة 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025) لمهرجان فينيسيا، والمعروض في مسابقة الدورة 46 (12 ـ 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2025) لمهرجان القاهرة. ورغم أنّ “زنقة مالقة” شديد الذاتية، يعتمد على وقائع من حياة جدّتها، إسبانية الأصل، لا تبتعد كثيراً عن عوالمها المعهودة، إذْ تمضي إلى الأبعد، إلى شخصية أنثوية جديدة، تقدّم عبرها مرحلة عمرية صعبة وشائكة وقليلة التناول، وقبل كل شيء محفوفة بمخاطر الفشل والاستهجان على الشاشة، عالمياً لا عربياً. لكن التوزاني ـ التي أدارت سابقاً، وبامتياز، أزابال، لتحمل عبء الفيلمين السابقين بمهارة وحرفية ـ لم تخفق في قيادتها الإسبانية المخضرمة كارمن ماورا (1945)، القادمة من عوالم ولغة ومرحلة عمرية بعيدة قليلاً عن عوالم التوزاني والمتفرّج العربي ولغتهما. رغم ذلك، وباقتدار ووعي، أجادت توظيف ماورا وإدارتها بدقة وسلاسة وصدق، لتحمل “زنقة مالقة” وتمضي بحبكته، البسيطة جداً، والحساسة للغاية، والمطروقة كثيراً، إلى توازن آمن، فنياً وجمالياً، والأهم نجاحها في إنجاز فيلم مؤثّر، من دون مبالغة عاطفية وابتزاز مشاعر.
ماريا أنخيليس (ماورا) أرملة إسبانية تعيش في طنجة منذ عقود. لم تفكر أبداً في مغادرة بيتها ومدينتها، رغم وفاة زوجها قبل سنوات، وانتقال ابنتها كلارا (مارتا إيتورا) إلى إسبانيا، للعيش فيها، وتكوين أسرة. ذات يوم، تعود كلارا، ممرضة وأمّاً أربعينية مطلقة، وتطالب والدتها بالعودة معها، لحاجتها الملحّة إلى بيع الشقة التي تملكها. خطر فقدان البيت والعادات والذكريات والجيران، واجتثاث جذورها إلى الأبد، يُخرج ماريا من حالة الاستسلام لروتينها اليومي، حتى آخر نفس، ويدفعها إلى التفكير في علاقتها الغريبة بابنتها وأحفادها، وإعادة اكتشاف نفسها، والحياة الحقيقية حولها، بما في ذلك ماهية الحب والجنس في عمر السبعين. هذا كلّه مُقدّم بحرفية وجاذبية وذكاء وصدق فني، بفضل أداء ماورا وعبد السلام (الممثل والمخرج الرائع أحمد بولان)، ونقطة التحوّل التي جعلت أحدهما يرى الآخر بعين مختلفة، متجاوزاً صدامية أول لقاء وشكوكه.
رغم أن خيوطاً فرعية قليلة تحتاج إلى تعميق أكثر، حاجة علاقة الأم بابنتها إلى مساحة أكبر ومشاعر أعمق وأكثف، ليس “زنقة مالقة” عن العلاقة الأسرية، أو بين جيلين مختلفين، أو جحود الأبناء وأنانيتهم مقابل تضحية الآباء وتفانيهم إلى النهاية، حتى على حساب أنفسهم. إنّه أساساً عن ماريا، وتقلّباتها وتطوّراتها وجموحها وجنونها ودفئها وواقعيتها، وأيضاً عن جمال روحها، وشخصيتها الطاغية على تجاعيد وجه عمر وشيخوخته.
خلافاً للنسج الناعم والجريء لعلاقة ماريا بعبد السلام، قدّمت التوزاني شخصيات ثانوية ضرورية جداً، مؤثرة بعض الشيء، وأولها علاقة ماريا بصديقة طفولتها، والمقرّبة الوحيدة لها، الأخت جوزيفا (ماريا ألفونسا روسو). هذه من الصداقات النادرة، المنسوجة بمهارة وطزاجة وصدق وأصالة في السينما العربية، على غرابتها، إذْ تشبه (علاقتهما) علاقة المُعالج النفسي بالمضطرب نفسياً. أو كأن التوزاني لا تجد طريقة أفضل لإسماع الصوت الداخلي لماريا إلا عبر بوحها لصديقتها في الكنيسة بأدقّ همومها وأسرارها، وحتى علاقتها بعبد السلام، من دون خجل أو أدنى حاجة إلى الاعتراف الديني. المثير للانتباه أنّ الأخت جوزيفا كانت تنصت إليها دائماً، من دون أن تنبس بما ينمّ عن فضول أو نصيحة أو وعظ. لذا، شعرت ماريا برحيلها، بمعنى الوحدة فعلاً، ربما لاستحالة البوح مُجدداً.
عبر ماريا وعوالمها، الآخذة في الاتساع خارج حيز شقتها وشارعها الضيقين، أظهرت التوزاني جوانب عدّة ساحرة لطنجة. ورغم غلبة التصوير الداخلي، تجلّى إبداع المُصوّرة البلجيكية الموهوبة فيرجيني سوردي (صوّرت “آدم” و”أزرق القفطان”)، في اللقطات الخارجية للمدينة، كما في التصوير الداخلي، حيث سَادَ اللونان البرتقالي والوردي. وللتوزاني دائماً ألوان خاصة في كل فيلم لها، توليها عناية شديدة، من دون مبالغة، بوصفها بصمة خاصة تدمغ مفردات الصورة بأكملها، بدءاً بالملابس، وانتهاء بالديكورات.