محمد هاشم عبد السلام
قبل انقضاء العام الجاري 2025، يمكن القول إن السينما العالمية، والمحلية أيضًا، شهدت التفاتة بارزة بتناولها الجاد والرصين والفني لأحد أهم وأعقد الموضوعات الإنسانية النادر تناولها في السينما المعاصرة، على الأقل. إذ جرى الالتفات أخيرًا إلى قضايا أصحاب الهمم والصعوبات والمشاكل الخاصة. وذلك إثر إنتاج وعرض ومشاركة ثلاثة أفلام روائية طويلة مهمة في أكثر من مهرجان دولي بارز، وحصدها لجوائز، وهي “كرافان” للتشيكية سوزانا كيرشينيروفا، و”البلشون الأزرق” للمجرية الكندية صوفي رومفاري، و”غرق” للأردنية زين دريعي.
أهمية الأفلام الثلاثة أنها تأتي في ظل ندرة سينمائية فاضحة لتناول عميق وجاد لحيوات المختلفين، أو أصحاب الهمم، أو الاحتياجات الخاصة. والمقصود هنا ليس أصحاب الاضطرابات النفسية، أو الإعاقات البدنية بمختلف أنواعها، بل الصعوبات الخاصة تحديدًا، المتراوحة بين صعوبات التعلم العادية البسيطة وغير المرضية أحيانًا، وصولًا إلى تلك الناجمة عن عيوب خلقية، ومن بينها مختلف أنواع المتلازمات العصبية، أو الوراثية.
المثير أكثر أن الأفلام الثلاثة بتوقيع مخرجات شابات. وتمثل التجارب الروائية الطويلة الأولى في مسيرتهن الإخراجية، بعد أفلام قصيرة عديدة. وبخلاف اشتراك الأفلام في تناول الموضوع نفسه، إلا إن القاسم المميز بينها، ومربط جماليتها الفنية، كونها ليست ميلودرامية، ولا مُستغلة للمشاعر، ولا تعزف على العواطف، ولا تقدم توجيهات، أو نصائح لكيفية التصرف مع المختلفين، ولا التعامل مع اللحظات العصيبة التي يمرون فيها وتؤثر على من حولهم. إذ ثمة إتاحة ملحوظة لمساحة عريضة لسرد قصصهم وحالاتهم بصدق، ورصد لانفعالاتهم وتصرفاتهم بواقعية، من دون البحث عن مبررات، أو إيجاد دوافع، أو إصدار أحكام، أو تشخيص علاجات،… إلخ. وقبل كل هذا، مع الابتعاد التام عن النمطية والمبالغة، ومحاولة تناول الموضوع بتوازن فني لافت.
نبذة تاريخية سريعة
على مدى تاريخها المتسم بندرة رصد وتناول هذه الحالات كما ذكرنا، مرت السينما بمراحل عدة قدمت فيها نماذج لأصحاب الإعاقات، أو العاهات الملموسة، أو الظاهرة. وفي هذا، مرت السينما تاريخيًا بمراحل عديدة. أولها، مرحلة التنميط، وقدمت فيها بضعة أفلام تركز على الإعاقة كـ”عاهة” درامية، أو كوميدية، أو على الإعاقة كأداة يتم توظيفها إما لجذب “الشفقة”، أو لبث الخوف والإحالة إلى “الشر”، مثل الشخصيات المشوهة في الأفلام الصامتة. وهذا في غياب شبه كامل لأي مصداقية واقعية حقيقية، أو حتى لتمثيل أدائي لممثلين من ذوي الإعاقة. وظل هذا حتى منتصف القرن الماضي تقريبًا.
بعدها، وصولًا إلى نهاية القرن الماضي تقريبًا، حاولت السينما الاقتراب من الموضوع بتقديمها لتنويعات على النماذج نفسها، مع التركيز على ثيمة البطل المتغلب على إعاقته. ومن ثم تسليط الضوء على إمكانية تحقيقهم للمستحيل، أو لإنجازات في ظل الإعاقة والتحديات المختلفة. ورغم نجاح هذه النوعية، لكنها استخدمت الإعاقة كمادة لإبهار الجمهور والتأثير فيه، وليس لتغيير نظرة المجتمع، أو لاستعراض واقعهم وتناوله بعمق. كما عانت كسابقاتها من استحواذ الممثلين المحترفين، أو الأصحاء، على تجسيد هذه الأدوار.
مع انعطافة القرن، تقريبًا، أنتجت بضعة أفلام تتناول الموضوع من زاويا رصدت أن ثمة زيادة في النضج الطبي، والتحول الاجتماعي، والتوعية في التعامل مع هذه الحالات. كما أسهمت، على قلتها، في تسليط الضوء على ذوي الهمم وحقوقهم ومشاكلهم عالميًا. واتسمت المعالجات السينمائية هذه بقربها من الواقع، وتقديم الشخصيات برصانة وصدق، وزوايا مغايرة، وكونها أقل ميلودرامية. وإن بقيت غالبًا من دون ممثلين حقيقيين من ذوي الهمم. صحيح أنه، بين حين وآخر، من الممكن أن تظهر شخصية على الشاشة في دور ثانوي من المصابين بمتلازمة داون مثلًا، لكن الأمر لم يتجاوز هذا الإطار. ولم يتخطاه لتقديم معالجات وزوايا تبرز مدى معاناة الأسر، والمشاكل المتعلقة أو المترتبة على تربيتهم وتعليمهم وعلاجهم.
الطبيعة المعقدة للموضوع
بخلاف كون الموضوع لا يزال من القضايا الشائكة جدًا في التعامل معها، أو حتى تناولها بالذكر في مجتمعات عديدة، ناهيك بالوعي والاهتمام المكثفين واللائقين به، فإنه لا يزال يعد أحيانًا من التابوهات، خاصة في منطقتنا العربية. في حين أنه، في ظل التطورات العالمية الجارية بات من الضروري إعادة تعريف مفهوم الشخص “الطبيعي” أصلًا. وإعادة النظر في مواقفنا الفكرية، وتغيير سلوكياتنا تجاه الصحة النفسية إجمالًا. وضرورة الوقوف بحزم إزاء ما يتفاقم في مجتمعاتنا الحديثة من سلوكيات نبذ وتنمر وعنف وعدوان، حتى تجاه الأصحاء.
هذه السلبيات، الناجمة عن انعدام وعي، أو جهل مطبق، محليًا وعالميًا، يبدو أن السينما خضعت لها، أو تأثرت بها. إذ لا تزال حتى اللحظة مثلًا لم تتجاوز الخلط بين تقديم وتشخيص الفرد الطبيعي و”المريض” النفسي العادي، أو الممكن علاجه، أو بين الممسوس، أو المجذوب، أو رجل الله، أو المبروك، وغيرها من المسميات والأوصاف الأدبية بالأساس، وبين المصاب بمتلازمة، أو علة عصبية، عارضة أو موروثة. وذلك في جهل وخلط واضحين بين تعريفنا وتشخيصنا لمن يعاني من مرض، أو أمراض، أو مجرد اختلالات نفسية وعصبية من ناحية، وبين صاحب الإعاقة النفسية، بدرجاتها المختلفة، وذلك بعيدًا عن الزج به بين أصحاب الإعاقات، أو العاهات الأخرى، مثلًا.
مع ذلك، خلال السنوات الثلاث الماضية تحديدًا، لوحظ بعض النضج والجرأة في الاقتراب من هذه الموضوع ببعض التنوع والجدية والعمق، لا سيما في أفلام مثل “صوت المعدن” (2020)، و”كودا” (2021)، و”الأبطال” (2023)، إذ اتسمت بالتعدد والتنوع، وليس الاعتماد على تقديم القصص المُلهمة، أو النماذج النمطية المُؤثرة، بغرض التأثير في الجمهور فحسب. كما يلاحظ ابتعادها كثيرًا عن الميلودرامية، وتقديم النقد للتعامل الطبي، وللسلوك الاجتماعي أيضًا. كذلك، الطرح المباشر لقضايا التمييز والنبذ والتنمر والعنف ضد أصحاب الهمم. وكان من أبرز ما في هذه الأفلام إشراك ممثلين من ذوي الهمم. وإن ظل المشترك الأكبر بين هذه الأعمال، وغيرها من الإنتاجات الحديثة السابقة، يتعلق بعدم الغوص كثيرًا في الموضوع، أو إحكام قبضتها على هذه التيمة، وتقديمها بالشكل الفني المضبوط، واقعيًا وسينمائيًا.
مؤخرًا، يمكن القول إن السينما بدأت تتجاوز حاجز الخوف، وتُقدِم على تناول الموضوع لدرجة المضي به لأشواط بعيدة مفاجئة، وذلك بشكل لافت للانتباه وجريء وعميق فعلًا. والأهم أن كل فيلم منها يتفوق بشكل ملحوظ في طرحه ومعالجته، ولا يشبه الآخر، رغم الاشتراك في الموضوع نفسه تقريبًا، أي في رصد تعامل الأهل والأقرباء والمحيط مع التجارب المؤلمة، والاضطرار في أحيان كثيرة إلى تحملها في صمت وعجز وحب.

“كرافان”
في “كرافان” لسوزانا كيرشينيروفا، نتعرف على إستر (أنا جيسلروفا)، أم في منتصف العمر، وابنها المراهق ديفيد (ديفيد فودسترسيل)، المصاب بالتوحد ومتلازمة داون، خلال قيامهما برحلة عبر إيطاليا. ما يبدو أنه عطلة كانا في حاجة ماسة إليها تنقلب بالنسبة لهما إلى فوضى واختبار لعلاقتهما معًا. تحاول إستر الهرب، أو أخذ إجازة من الحتمي، وطبيعة حياتها المغايرة كأم لصبي مختلف، وعلاقتها القائمة على الارتباط المشروط به. في حين يتوق الاثنان أصلًا إلى حياة مغايرة، وحرية واستقلال ورعاية مختلفة.
يزيد من إبراز وتضخيم الأمور بين إستر وديفيد تعرفهما على زوزا (جوليانا بروتوفسكا)، وهي شابة حرة الروح ومنطلقة تنضم إليهما. تغير زوزا ديناميكية حياتهما، لا سيما إستر، كأم عزباء منعزلة. بشكل حاسم، تبدأ إستر في إعادة الاتصال بأحاسيسها الأنثوية المنسية، أو المكبوتة منذ فترة طويلة، كرستها بالكامل فيما يبدو للأمومة والرعاية.
ومن ثم، نجدنا أيضًا في حضرة دراما شبه نفسية تستكشف الأمومة والأنوثة. ومع ذلك، تبين المخرجة من ناحية أخرى أن تفاني الأمهات ليس مثاليًا، ولا ملائكيًا دائمًا، ولا ينبغى أن يكون. من هنا، يتنقل الفيلم بعمق وحساسية بين التوترات التي تنشأ عن التنازع بين الذات والواجب، والحب والإرهاق، ودور الأم مقدمة الرعاية ومتحملة المسؤولية، والمرأة ذات الاحتياجات والرغبات، الناشدة لبعض الخصوصية والتنفس وعيش الحياة قبل فوات الأوان.
“البلشون الأزرق”
في “البلشون الأزرق”، ترصد المخرجة صوفي رومفاري الموضوع من خلال الذكريات والحنين إلى الماضي. إذ تدور الأحداث المرصودة بعيني الطفلة ساشا (إيلول حوفن) في تسعينيات القرن الماضي، ونعاين من خلالها أسرتها المجرية المكونة من ستة أفراد، وحياتهم الجديدة بعد الهجرة إلى فانكوفر.
تركز ساشا على شقيقها الأكبر جيريمي (إديك بيدوس)، المنعزل والصامت، والمريض بما لا يمكن تسميته، أو علاجه، بشكل مُرضٍ ونهائي. نلاحظ أن جيريمي نادرًا ما تلتقي نظراته بالآخرين من وراء عويناته الكبيرة الثقيلة، خاصة بعدما تحول سلوكه إلى الاضطراب، والعزوف الاجتماعي، وتقلب المزاج، والخطورة.

ترصد ساشا المحاولات اليائسة لوالدتها (إيرينجو ريتي)، و(زوج أمها آدم تومبا) للتواصل مع شقيقها وفهمه واستيعابه والسيطرة عليه من دون مضايقة كبيرة له، خاصة في ظل صعوبة تشخيص المعالجين، وتعامل المدارس الخاصة، والمحيط، مع حالته. اللافت محاولة والدتها حمايتها وبقية العائلة من الإحراج الاجتماعي، إلا أن ساشا الصغيرة لم تكن ترى أي خجل في غرابة شقيقها.
بمهارة وحذق، تنقل لنا المخرجة عبر مجموعة من المشاهد والحوارات المدروسة طبيعة وتطور جيريمي، وشخصيته الحنونة الهادئة والمحبة لأشقائه الأصغر سنًا. أيضًا، نوبات توتره وانفعاله وغضبه، وسلوكياته المفاجأة والخطرة. تحاول ساشا الآن، بعدما صارت مخرجة ناضجة، صناعة فيلم عن شقيقها، وفك رموز الماضي، وتفسير دوافع تصرف والديها، وقرارهما النهائي بشأنه، وهل كان صائبًا فعلًا، وهل كان سببًا في النهاية المأساوية لشقيقها؟ وغيرها من التأملات والتساؤلات والأفكار المثيرة والمؤثرة فعلًا.
“غرق“
برقة لافتة، تُسلّط زين دريعي الضوء على الموضوع من خلال علاقة أم بابنها الذي يتسم بطبيعة خاصة، رغم رؤيتنا لمدى لطافته، وحبه للغير، وتصرفاته السوية التي تنقلب للنقيض ذات يوم، وذلك بعد نهار دراسي عاصف، ومشكلة مع معلمه تسببت في فصله. “لم يكن خطأي”، يصرخ باسل (محمد نزار) ــ في أداء جيد للشخصية ـ البالغ من العمر17 عامًا، لوالدته نادية (كلارا خوري)، التي تألقت في هذا الدور، وغيره في أفلام أخرى مؤخرًا ــ دفاعًا عن نفسه. إذ لم يضرب باسل معلمه، بل اصطدم مرفقه بأنفه بالخطأ.

انطلاقًا من هذه الحادثة تحاول الكاتبة والمخرجة استكشاف العائلة، والتطورات الطارئة مع تبدل حالة باسل. لكن، مع التركيز أكثر على علاقة الأم بابنها، وتسليط الضوء على حجم العبء الناجم عن تطور حالة باسل، غير المُشخَّصة طبيًا، وفي ظل غياب أنظمة وقوانين طبية وتعليمية داعمة، ومجتمع يُكرس للنبذ والتنمر والوصم، عوضًا عن الفهم والاحتضان والرعاية.
بذكاء، تأخذ المخرجة العلاقة بين الأم والابن إلى مستويات أبعد وأعمق، تتدرج من مجرد اللعب والسباحة والمذاكرة والرقص معًا، وحتى التظاهر أحيانًا بأنهما حيوانان، إلى النقيض تقريبًا. وكيف أنه رغم الحب والمشاعر العميقة والصادقة فعلًا يمكن لأي تصرف، ولو كان بسيطًا، من أقرب الناس، أن يتسبب في توتر العلاقة، أو حتى إفسادها وتحويلها إلى النقيض تمامًا، لتتسم بالقسوة، وحتى العنف والخطر، وربما تقود في النهاية إلى فاجعة، أو مأساة.
وبعيدًا عن بعض مشاكل البدايات القليلة جدًا في “غرق”، إلا أن المخرجة تمكنت بحرفية من إنهاء الفيلم بخاتمة جديدة ومفاجأة. وابتعدت بالفيلم إجمالًا عن المطروق والميلودرامي، خاصة في الأعمال العربية التي اقتربت ولو من بعيد من هذا الموضوع.
أخيرًا، يلاحظ أن الأفلام الثلاثة، ومن خلال زوايا تناول متنوعة، أم وحيدة بمفردها، أو أخ وسط أسرة كاملة عاجزة عن التصرف، أو أسرة تاركة للأم فقط تولي المهمة الثقيلة، جعلتنا نلامس بصدق وعمق وفنية بعض ما تعانيه الأسر تجاه الأبناء المختلفين أصحاب الهمم، وكيف أنه رغم الحب والدعم والجهود المبذولة، والمتجاوزة للطاقة أحيانًا، قد تخرج الأمور عن السيطرة، وفي أوقات كثيرة قد تبدو مستحيلة تقريبًا، وأكبر وأصعب من أي قدرة للأهل على التحمّل.