محمد هاشم عبد السلام

 

14/4/2016

 

يعتبر المخرج “فيليب ألكسندر جيبني” أو الشهير بألكس جيبني من أهم وأفضل صناع الأفلام التسجيلية في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، والأكثر غزارة على نحو لافت. في رصيد جيبني السينمائي، البالغ من العمر أربعة وستين عامًا، ما يزيد عن ثلاثين فيلمًا تسجيليًا والكثير من المسلسلات، والعديد من الترشيحات والكثير من الجوائز، أهمها الأوسكار التي فاز بها عام 2008 عن فيلمه “تاكسي إلى الجانب المظلم”.

وكان آخر أفلامه التي قدمها العام الماضي: “ستيف جوبز: رجل في الماكينة”، و”سيناترا: كل شيء أو لا شيء على الإطلاق”. وفي أحدث أفلامه “أيام الصفر”، نجد أن جيبني يتخطّى هذين الفيلمين ويعيد إلى ذاكرتنا تناوله اللافت للعديد من القضايا المهمة مثل قصة ويكيليكس، وذلك في فيلمه الذي قدّمه عام 2013 بعنوان “نحن نسرق الأسرار: قصة ويكيليكس”.

ومع فيلمه الأخير هذا، “أيام الصفر”، الذي عُرض في مسابقة مهرجان برلين هذا العام، أصبح جيبني أول مخرج يتناول هذا الموضوع المهم والخطير، والمُتعلِّق بالحرب غير المادية أو التي يُستخدم فيها لأول مرة سلاح الإنترنت لأغراض هجومية على دولة من الدول. وما مدى حدود الحرب الإلكترونية المقبلة؟

على امتداد ما يقترب من ساعتين تقريبًا، يشرح لنا ألكس كيف حدث مثل هذا الهجوم عن طريق جرثومة إلكترونية أُطلق عليها “ستكسنت”، وهي دودة إلكترونية شديدة الإتقان والتعقيد ولم يسبق لها مثيل، ولم تُستخدم من قبل في أي هجمات إلكترونية على مستوى العالم. وقد استُخدمت هذه الدودة الإلكترونية بالفعل، والتي تم تطويرها على مدى عقد كامل، في مهاجمة المحطة النووية الإيرانية التي تحمل اسم “ناتانز”، وبالتحديد أجهزة الطرد المركزي الخاصة بها وأنابيب الغاز، وذلك في يونيو عام 2010.

وتلك الدودة الإلكترونية المصمّمة من جانب عدة أجهزة استخباراتية بأمريكا وإسرائيل تنسخ نفسها وتتكاثر بحيث تعمل على استهداف وتخريب وتدمير أهدافها داخليًا، وذلك من دون أن يستطيع أحد الشعور بوجودها أو يفلح في تتبُّع خط سيرها أو المسارات التي سلكتها. وقد كانت تلك الدودة مجرد جزء من مشروع كبير يهدف لشلّ البنية التحتية لدولة إيران بالكامل. وقد نجحت تلك الدودة بالفعل في مهمتها، وأخرجت الأجهزة عن نطاق السيطرة وأحدثت تفجيرات. وكان ذلك بالطبع من أجل إيقاف أو إعاقة البرنامج النووي الطموح لإيران آنذاك، والقضاء على تهديدات أحمدي نجاد بإبادة إسرائيل.

في ذلك الوقت، لم تعلن السلطات الإيرانية عن أي عمل تخريبي متعمَّد وراء الحادث، في حين لم يُصرّح العلماء وغيرهم من الفنيين بأي رأي قاطع فيما يتعلق بأي حادث متعمد وراء ما وقع بالمفاعل. في حين يشير الفيلم لإعدام عالمين من رواد البرنامج النووي الإيراني، أحدهما كان من الثقاة لدى نجاد. والمثير في الأمر بالفعل، أن أحدًا لم يدر بخلده مطلقًا أنه استهداف أو عدوان خارجي أو أنه حادث مُدبّر بفعل فاعل. والمثير أكثر أنه لسبب تكنولوجي مجهول، يُرجح الفيلم أن الإسرائيليين خلفه نتيجة عبثهم بشفرة تلك الدودة، انتشرت أو تفرّعت من تلقاء ذاتها وشقّت طريقها لعدد لا يحصى من أجهزة الكمبيوتر عبر العالم. وأنها موجودة كامنة بتلك الأجهزة، ولن تنشط إلا تحت ظروف بعينها، ووفقًا لمتطلبات محددة، وأن لها تاريخا تنتهي فيه صلاحيتها وقدرتها على الإتلاف أو التدمير.

الأكثر تشويقًا في الأمر أن تلك الدودة كان قد تم اكتشافها عن طريق الصدفة البحتة من جانب أحد المبرمجين العاملين في مجال مكافحة الفيروسات بإحدى شركات الفيروسات في روسيا البيضاء، وذلك على أحد أجهزة الكمبيوتر الإيرانية. وبعد هذا بوقت قليل انتشر الأمر وذاع بعدما وصل إلى الصحف التي راحت تنشر عنه، وكان أولها النيويورك تايمز. وفي تلك الأثناء، قامت إيران من جانبها، بواسطة فريق سري من المخترقين، بمهاجمة “بنك أوف أمريكا” وغيره من البنوك والمؤسسات الأخرى الحيوية بأمريكا وخارجها مثل شركة آرامكو البترولية. لكن ما قام به ذلك الفريق، مقارنة بالضرر الذي تعرضت له إيران، لم يكن في النهاية سوى مجرد اختراق أو نوع من القرصنة أو الشلل الممكن تدارك تبعاته.

وبالرغم من تواطؤ الجميع والصمت التام أو الإنكار الشديد من جانب الغالبية العظمى حتى اللحظة، لكن جيبني تمكن في النهاية وبعد جهد شاق من فضح ما حدث، بل وشرحه على نحو شديد الدقة والوضوح وبقدر كبير من التبسيط، قدر الاستطاعة، من أجل إيصال المعلومات المرادة إلى جميع مستويات التلقِّي. وقد استعان ألكس بالعديد من كبار العلماء العاملين في مختبرات البحوث بشركة “سيمانتك” وغيرها، الذين قاموا بشرح آلية تصميم تلك الدودة وبنيتها والكيفية التي تعمل وتتحرك بها.

أما معظم الضيوف الذين استضافهم جيبني في البداية، من وكالة الاستخبارات الأمريكية أو الإسرائيلية، فقد اتسم حديثهم بالتحفظ الشديد والدفاعية أو الصمت، والغالبية العظمى من ردودهم كانت “لا تعليق” “اطرح سؤالك التالي” أو “لست مخولا بالتحدث في هذا الأمر” أو “يمكنك أن تسألني ما تشاء ولن أجيب”. ولذا لم يستطع الفيلم التوصل إلى قول فصل فيمن هو صاحب تلك الحرب التي شنت، هل هو الجانب الأمريكي أم الإسرائيلي؟ فالكثير من الشهادات كانت تتنصل من ضلوع أمريكا في الأمر أو تفيد بأنه قرار اتخذ من الجانب الإسرائيلي على نحو فردي، بناء على خلفية العلاقات المتوترة بسبب البرنامج النووي الإيراني.

حتى هذه اللحظة لم يعترف أي مسئول أمريكي أو إسرائيلي، بالطبع، باستخدام أي شكل من أشكال الحروب الإلكترونية في أي مكان في العالم، ولا بدودة الستكسنت. إنه عمل “فائق السرية”، وقد لفت الفيلم النظر أيضًا إلى أنه ليس مسموحًا لأي فرد مجرد التعرض له، وأن أي شخص يتحدث عنه مباشرة لأي وسيلة من وسائل الإعلام يضع نفسه تحت طائلة القانون، وأن هذا يسري منذ عهد الرئيس بوش وحتى باراك أوباما. ويأتي جيبني في سياق الفيلم بأحد التصريحات لهيلاري كلينتون عن أن الولايات المتحدة لا دخل لها بالستكسنت، وهو ما يدحضه جيبني بالطبع على مدار الفيلم.

إن هذه الدودة التي شبّهها أحد الضيوف في بداية الفيلم بأنها كهيروشيما ونجازاكي في كونها مقدمة لنوعية أو فئة جديدة من الأسلحة التي تدشن عصرًا جديدًا من العلاقات الدولية المرتبطة بالحروب ومآسيها، فتحت الباب لطرح العديد من الأسئلة حول ما يطلق عليه الحروب الصامتة أو بالأحرى غير المعلنة، وهل مثل هذا الهجوم غير السلمي، غير المسلح، وغير المعلن يعتبر عملا من أعمال الحرب الصريحة؟ وإن كان الأمر كذلك فأي عدد من الحروب تشن أو في سبيلها إلى أن تندلع قريبًا إلكترونيًا بين الدول وبعضها؟ وإن كان أمر الهجوم على إيران في زمن سلم قد مرّ بصورة أو أخرى فهل سيمرّ غيره من الحروب التي لم تظهر للعلن بعد؟ وهل من حق الدول البادئة بالعدوان أن تردّ بنفس الطرق والأساليب عبر الجيوش الإلكترونية أم عسكريًا على الأرض؟ وبالطبع لم يتوان جيبني عن توجه اللوم لحكومة بلاده وإسرائيل وإدانة مثل هذا السلوك، الذي قد ينقلب عليهما مستقبلا.

ويُلمّح الفيلم بطبيعة الحال إلى معاهدات حظر الأسلحة الكيميائية وانتشار الأسلحة النووية وغيرها من الاتفاقيات والمعاهدات، ويطرح السؤال حول إمكانية إبرام مثل هذه المعاهدات على نطاق إلكتروني معلوماتي، ومدى حاجة المجتمعات الحديثة لمثل هذه الاتفاقيات، وأنه باتت هناك ضرورة مُلحّة لفتح النقاش وإثارة الجدال والوصول لاتفاقات أو معاهدات بشأن الحروب الإلكترونية، لا سيما وأن القاعدة الآن هي، وفقًا لما ذكره أحد الضيوف، “افعل ما يمكنك أن تفعله ما دمت ستنجو أو ستفلت من الأمر دون مساءلة”، وأنه، بناء على تلك القاعدة، بإمكان أية دولة أو حتى جماعة أو منظمة .. إلى آخره، القيام بمثل هذه العمل العدائي أو شن الحرب ضد أمريكا نفسها ما دامت ستفلت بفعلتها، وأن الأمر ربما يترتب عليه مستقبلا تدمير أنظمة مصرفية أو شبكات بنية تحتية أو إطلاق صواريخ أو تعطيل طائرات أو شلّ دول أو قارات بأكملها.

اجتهد “ألكس” في فيلمه من أجل الوصول للحقيقة التي لا يعرفها سوى قلة قليلة فحسب، وقد بذل الكثير من الجهد من أجل الخروج بأكبر قدر ممكن من المعلومات عن كيفية عمل هذه الدودة أو الجرثومة ونشأتها وتطورها إلى آخره من معلومات، وهذا سبق يحسب له بكل تأكيد. في سبيل هذا، لم يلتف ألكس أو يبدي أي اهتمام بجماليات السينما التسجيلية، فقط مجموعة من الضيوف الذين يتحدثون أو يشرحون أو يردون على الأسئلة.

وقد استعان المخرج ببعض الرسومات التوضيحية والخرائط والجرافيك واللقطات الأرشيفية، إضافة إلى اللجوء كثيرًا لتغيير نبرات أصوات الضيوف والاستعانة بالفلاتر الرقمية المشوهة للصوت وأيضًا الصورة، للحفاظ على هوية الضيوف، رغم أنه، في أغلب الأحيان لم يكن بحاجة لذلك، نظرًا لاستعانته بأقوال تجميعية وردت على ألسنة أكثر من فرد أو مستقاة من مصادر متنوعة، وجعلها تسرد صوتيًا عبر الممثلة “جوان تاكر”. إن قوة فيلم “أيام الصفر” تنبع بالأساس من قوة وخطورة مادته وفرادتها بصرف النظر عن أية جوانب أخرى فنية أو سينمائية.