محمد هاشم عبد السلام

 

24/6/2015

 

يقيم متحف السينما أو السينماتيك بالعاصمة الفرنسية معرضًا ضخمًا مكرّسًا للمخرج السينمائي الإيطالي الكبير، مايكل أنجلو أنطونيوني. ويقام المعرض الذي يحمل عنوان “تتبّع مسيرة أنطونيوني”، بالطابق الخامس من مبنى متحف السينما بباريس، وذلك في الفترة من التاسع من إبريل وحتى التاسع عشر من يوليو القادم.

والمعرض، الذي يلقي الضوء على حياة المخرج الكبير والسينما المتفردة الخاصة به، ومسيرته المهنية الممتدة لقرابة الخمسين عامًا، ينقسم إلى قسمين رئيسيين الأول يضم عروض الأفلام والمحاضرات واللقاءات التفاعلية مع الجمهور. والثاني يضم مجموعة من الصور والسيناريوهات والمخطوطات والاسكتشات التي تركّز على أهم الأفلام التي أخرجها أنطونيوني إلى جانب الكثير من رسوماته ومتعلقاته الخاصة.

في الفترة من التاسع من إبريل وحتى الحادي والثلاثين من مايو الماضي، قدّم المعرض جميع أفلام مايكل أنجلو أنطونيوني الروائية، والتي من بينها “المغامرة”، و”تكبير الصورة”، و”الصحراء الحمراء”، و”الخسوف”، و”الليل”، و”المهنة صحفي”، و”نقطة زبريسكي”، وذلك في إطار استعادي لجميع الأفلام التي قدمها المخرج القدير للسينما على امتداد مسيرته المهنية الطويلة الحافلة.

كما عُرضت أيضًا مجموعة الأفلام التسجيلية التي أخرجها أنطونيوني، ومن بينها “أهالي وادي نهر البو”، و”منزل الأشباح”، و”تحديقة أنطونيوني”. كذلك عُرضت الأفلام التي كتب لها أنطونيوني السيناريو الخاص بها ومن بينها، “المطاردة المأساوية” من إخراج جوزيبي دي سانتس، و”الفوسكاريان” من إخراج إينريكو فولتشينوني، و”الشيخ الأبيض” من إخراج فيدريكو فيلليني. كما عُرضت مجموعة أفلام تسجيلية عن أنطونيوني من إخراج كارلو دي كارلو، وأندريه إس. لابراتيه، وإنريكا فيتشيو أنطونيوني.

 

جانب من أعماله

وفي إطار اللقاءات والمقابلات، عُقدت عقب الفيلم التسجيلي “أنطونيوني بعيون كارلو دي كارلو” محاضرة ولقاء مع مخرج الفيلم، المؤرخ السينمائي والناقد وكاتب السيناريو الإيطالي كارلو دي كارلو، الصديق والرفيق الحميم لأنطونيوني. وقد تحدث فيها عن فترة تعاونه الطويل مع أنطونيوني في العديد من الأفلام مثل “تكبير الصورة” (1967)، و”نقطة زبريسكي” (1970)، و”المهنة صحفي” (1974)، و”فوق السحاب” (1995).

كما عقدت حلقة تفاعلية بعنوان “أنطونيوني اليوم”، أقيمت بدعوة من السينماتيك الفرنسي للطلاب الفرنسيين المهتمين بالسينما والفنون والعمارة للاشتراك في إبداع مجموعة من الأعمال الفنية المأخوذة والمستلهمة من رؤيتهم الاستكشافية الآنية لأعمال أنطونيوني السينمائية. وبإمكان زائر المعرض الاطلّاع على نتاج تلك الورشة من الصور الفوتوغرافية، واللوحات، وأعمال كولاج، والأفلام القصيرة بأحد أقسام المعرض.

وفي إطار المحاضرات، عقدت حتى الآن ثلاث محاضرات، وكانت الأولى بعنوان “تفريغ الأماكن” ألقاها الأستاذ “جوزيه موريه” أستاذ الدراسات السينمائية في جامعة باريس الأولى. وتناولت المحاضرة سينما أنطونيوني وكيف أنها تبدو مسكونة ببيئة وأجواء توحي بالفراغ والخواء في كل جزء منها. وقد اعتُبر هذا في حد ذاته نوعًا من الفن، فن جلب الفراغ أو الخواء ليكون في القلب من الأماكن والمناظر.

أما المحاضرة الثانية فكانت بعنوان “أنطونيوني حديث ومعاصر” ألقتها الأستاذة “دومينيك بايني” وهي صاحبة فكرة تنظيم معرض أنطونيوني والإشراف على إقامته ومتابعته. وقد تحدثت فيها دومينيك عن معاصرة أنطونيوني كمخرج سينمائي لا تزال سينماه تعيش معنا حتى اليوم، ومدى الرؤية الحداثية التي اتسمّت بها أفلامه، وذلك في سياق الفترة التي عاش فيها والسينما التي كانت سائدة آنذاك.

تناولت المحاضرة الثالثة التي حملت عنوان “أنطونيوني وأيروسية أيروس”، وألقتها المحاضرة السينمائية بقسم الدراسات السينمائية في جامعة باريس الأولى “سيلين سيماما”، تيمة الحب والأيروسية ومفهومهما في سينما أنطونيوني بداية من فيلمه “قصة علاقة غرامية” (1950)، مرورًا ببقية أعماله وحتى آخر فيلم من أفلامه، وكيفية وقوف الرجال وأبطاله بصفة خاصة عاجزين عن الفعل أو التصرف في كثير من الأحيان أمام المرأة.

 

المعرض

أول ما يطالع زائر معرض أنطونيوني هو ألبوم الصور القديمة والحديثة، الأبيض والأسود والملونة، الذي تتجسّد محتوياته على شاشة كبيرة تعرض تلك الصور، التي هي في معظمها لمختلف نجوم ونجمات السينما والإخراج في العالم، وتلك كلها وضعها أنطونيوني بعناية فائقة داخل ذلك الألبوم على امتداد سنوات حياته. واللافت في المعرض أن جدران قاعة العرض يغلب عليها جميعًا اللون الأبيض، وثمة فراغات على الجدران كُتبت عليها عبارات لأنطونيوني أو آراء النقاد في أعماله أو انطباعات المخرجين أو الفنانين عنه وعن العمل تحت قيادته.

بعد ذلك، يبدأ استعراض مسيرة أنطونيوني منذ ولادته في مسقط رأسه بقرية فيرارا في التاسع والعشرين من سبتمبر عام 1912، ثم اهتمامه بالسينما، خاصة سينما رينيه كلير وجان رينوار وروبير بريسون، وممارسته النقد السينمائي بإحدى الجرائد المحلية، وذلك قبل انتقاله إلى روما في عام 1939، ثم دراسته في “المعهد التجريبي للسينما”، ثم تخرجه وتصويره لأولى أفلامه التسجيلية عن أهالي قريته ومعاناة الفلاحين، أثناء فترة الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية.

ثم ننتقل لقسم آخر نتوقف من خلاله على مدى التأثير الذي مارسه المخرج الإيطالي الكبير لوتشيانو فيسكونتي وأعماله السينمائية على أنطونيوني في بدايات مسيرته المهنية. ثم ننتقل لاستعراض ما أطلق عليه:  “ثلاثية أنطونيوني عن الحداثة، وفترة مونيكا فيتي”، حيث التركيز على أفلام أنطونيوني التي أخرجها على امتداد ثلاث سنوات متتالية “المغامرة” (1960)، و”الليل” (1961)، و”الخسوف” (1962)، والتي أحدثت تغيرًا أو نقلة نوعية في السينما الحديثة سواء من ناحية الموضوع أو الناحية الجمالية. كذلك يسلط هذا الجزء الضوء على بدايات التعارف بين أنطونيوني والممثلة القديرة مونيكا فيتي، رفيقة درب المخرج الراحل وبطلة العديد من أفلامه، وبدايات تعاونهما معًا.

وداعًا إيطاليا” هو القسم التالي في الترتيب، والمكرس بالأساس لأحد أهم أفلام أنطونيوني والأول له بالألوان وهو “الصحراء الحمراء” (1964)، الذي تم تصويره في ميناء “رافينا”، والذي يعتبر بمثابة نقلة نوعية في مسيرة أنطونيوني المهنية خرج فيها من نطاق ما يطلق عليه “السينما المعمارية” والتي برزت في ثلاثيته، إلى أسلوب تصويري متحرِّر ومنطلق. وكان الفيلم بمثابة استعارة لإيطاليا والمجتمع والأيديولوجيا والبيئة، والحرب، والأزمة الاقتصادية، والتحول فيما يخص المجتمع والحياة في إيطاليا بصفة عامة آنذاك.

“اختبار الفراغ” هو عنوان القسم التالي مباشرة، ويتناول الصحراء بصفة عامة في أفلام أنطونيوني والشمس والضوء والسطوع في مقابل المطر والرطوبة والضباب. ثم ينتقل للتركيز على الصحراء تحديدًا في فيلم “نقطة زبريسكي”، وما تمثله بالنسبة لأنطونيوني وشخصيات الفيلم حيث فقدان البوصلة أو الاتجاه أخلاقيًا واجتماعيًا، والشيزوفرينيا وفقدان الذات على المستوى الشخصي، وكيف تجلّى هذا أيضًا على مستوى آخر في فيلم “المهنة صحفي”.

ثم يعرج بنا العرض على محطة جد هامة في مسيرة أنطونيوني حيث فيلمه الذائع الصيت “تكبير الصورة”، الذي يفرد له المعرض قسمًا يحمل عنوان “تكبير الصورة ولندن المتأرجحة”، حيث يتناول كيفية رصد أنطونيوني عبر عدستي مصور فوتوغرافي بالفيلم، أجواء الستينات في لندن وكيف كان المجتمع يموج بمختلف ضروب الحياة من موسيقا البوب وغيرها من الفنون القائمة على تعاطي المخدرات وغيرها، إلى جانب الموضة والتأثير العميق لموسيقا الروك سواء على المناطق النائية أو المدن الرئيسية والحياة اليومية.

“العودة إلى إيطاليا: سحاب ورخام”، يرصد هذا القسم الأخير بالمعرض، عودة أنطونيوني مجددًا في نهاية مسيرته المهنية إلى حيث مسقط رأسه مدينة فيرارا لتصوير فيلمه “وراء السحاب”. كذلك يبرز أثر الفن التشكيلي والرسم على شخصية أنطونيوني، وتأثيرهما عليه وإلهامهما له حتى أواخر أيامه، حيث توفي المخرج القدير في الثلاثين من يوليو عام 2007 عن أربعة وتسعين عامًا.

والجدير بالذكر أن المعرض يضم أيضًا مجموعة من أدوات الكتابة الخاصة به، ودفاتره الخاصة، والكثير من السيناريوهات والمسودات والاستكتشات والرسومات، وكاميرات التصوير الفوتوغرافي الخاصة، إلى جانب العديد من الصور الشخصية، وأخيرًا مجموعة من الجوائز التي حصل عليها أنطونيوني مثل الأوسكار الشرفي الذي حصل عليه عام 1995، والدب الذهبي ببرلين عام 1961عن فيلم “الليل”، والسعفة الذهبية عام 1967 عن فيلم “تكبير الصورة”، والأسد الذهبي عام 1964 عن فيلم “الصحراء الحمراء”، والأسد الذهبي لإنجاز الحياة عام 1983.