محمد هاشم عبد السلام
7/4/2015
Altman 2014 “ألتمان” هو آخر أفلام المخرج والمنتج التسجيلي الكندي رون مان، ويتناول فيه قصة حياة المخرج المتميز روبرت ألتمان، الذي حطّم الكثير من القواعد الراسخة في نظام العمل والاستوديو بهوليوود، وصار واحدًا من أعظم المخرجين الأمريكان.
يعتبر الفيلم نظرة عميقة لحياة الراحل روبرت ألتمان، المخرج والإنسان. وقد حاول فيه مان رصد رحلة حياة المخرج منذ أن كان طيارًا في الحرب العالمية الثانية، ومرورًا بتاريخه المهني في السينما، مستعينًا في ذلك بأرشيف من الصور وأفلام أسرته، إلى جانب بعض الأفلام القصيرة التي لم ترَ النور، والمقاطع المُصورة أثناء إخراجه لأفلامه. وهي في حدّ ذاتها مادة شديدة الغزارة واحتلّت ما يقترب من نصف زمن الفيلم، الذي يزيد عن ساعة ونصف الساعة تقريبًا.
نال ألتمان، “بوب” كما يطلقون عليه في الفيلم، الكثير من الإشادة والتقدير والجوائز في أنحاء العالم نظرًا لأسلوبه المتميز في الإخراج، الأمر الذي أكسبه صداقة العديدين، في حين كان لأسلوب ألتمان في تنفيذ أفلامه الكثير مما هو غير سائد ومتصادم مع العادي والشائع آنذاك وبالذات مع مدراء الاستوديوهات في هوليوود، الأمر الذي أكسبه أيضًا عداوة الكثيرين. غير أن ألتمان نجح في أن يُمهِّد لنفسه الطريق كي يكون واحدًا من الرواد والآباء المؤسسين بحق للسينما المستقلة في أمريكا، عندما أخرج أول أفلامه وكان بعنوان “المنحرفون” (1957).
ينطلق الفيلم من فكرة محورية تدور حول السؤال الذي طرحه مخرج الفيلم، “ما هي الألتمانية؟” (نسبة إلى ألتمان). هذا السؤال، وجهّه المخرج إلى العديد من المتعاونين مع ألتمان على مدار حياته المهنية في صناعة السينما أو خارجها حيث الأصدقاء وحتى أسرته. وبالطبع مع كل إجابة يتكشّف لنا شيئًا فشيئًا الكثير مما نجهله، سواء فيما يتعلق بأسلوب ألتمان وطريقته في العمل أو فيما يتعلق بحياته الخاصة وعائلته وأصدقائه، أو وجهة نظره هو تجاه الحياة بصفة عامة، والتي ننصت إليها بصوته في مراحل متعددة من حياته، وذلك عبر الاعتماد على عدد كبير من المواد الأرشيفية والمقابلات الصحفية والتليفزيونية واللقاءات المسجلة معه على مدى حياته، إضافة إلى أشرطة الفيديو والتسجيلات والصور الفوتوغرافية المملوكة لعائلة ألتمان، والتي عملت أرملته “كاترين ألتمان” على إمداد المخرج بها.
وقد لجأ مان أيضًا إلى ابنيّ ألتمان، روبرت وستيفن، كي يوضحان العديد من المواقف أو يستكملان الكثير من الفجوات التي لم تفلح الشرائط الفيلمية والمواد الأرشيفية في استكمالها أو توضيحها والإجابة عنها. أيضًا تطرّق مان لمناقشة علاقة ألتمان بابنيه وأمهما وغيرها من الأمور الأسرية، التي جاءت الإجابة عنها على نحو خجول وموارب كثيرًا، في حين صرّح ستيفن بجرأة شديدة أن والده كان كثير التغيُّب، وكيف أنهما لأغلب الوقت لم يكونا من ضمن أولوياته على الإطلاق. كذلك تظهر على نحو أساسي في الفيلم أرملته كاترين ريد ألتمان، التي رافقته في مسيرته المهنية منذ البداية وتعرف العديد من المعلومات والأسرار عن مهنة زوجها ومشاريعه والكثير مما كان يفكر فيه. وكاترين، كما ورد بالفيلم، في التسعينات من عمرها. وتقول إن زواجها بألتمان استمر لستة وأربعين عامًا تقريبًا، وقد وصفت حياتهما معًا بكونها صعبة، لكنها كانت رائعة في ذات الوقت.
تطرّق الفيلم إلى مهنة ألتمان ككاتب، حيث كانت أولى مساهماته في الحقل السينمائي ككاتب مشارك في قصة فيلم بعنوان “عشية عيد الميلاد” في عام 1947، وكيف واصل ألتمان الكتابة السينمائية حتى قبل وفاته بسنوات قليلة، وفي رصيده التأليفي ما يزيد عن خمسة وثلاثين عملا. وكيف أنه وقبل أن ينتقل إلى الإخراج السينمائي، مارس العمل كمخرج مُنفِّذ لعدة سنوات، ثم انتقل للإنتاج بعد ذلك، حتى شارك بأول فيلم روائي من إخراجه في عام 1957، وكان بعنوان “الجانحون”.
أطلق هذا الفيلم شهرة ألتمان، ودشنّه كمخرج سينمائي لافت ومتميز، وهو أيضًا الذي جعل المخرج الكبير ألفريد هيتشكوك يختاره كي يكلفه بإخراج مختارات من سلسلته التليفزيونية الشهيرة “ألفريد هيتشكوك يقدم”، والتي قدمها هيتشكوك في الفترة من عام 1955 وحتى عام 1962. وقد أنجز ألتمان المهمة باقتدار، وقدم تلك السلسلة في جزأين حملا عنوان “الشاب” و”معًا”. وقد أسهمت تلك النقلة في فتح المجال على اتساعه أمام ألتمان ليعمل أكثر بالتليفزيون بوتيرة سنوية استمرت حتى منتصف الستينات تقريبًا.
ومع انتصاف الستينات قرر ألتمان ترك التليفزيون والعمل بالمسلسلات رغم ما حققه من شهرة ونجاح لافت، وذلك للاشتباك الجدي مع المنتجين والاستوديوهات من أجل تقديم أفلامه. وقد تحقق له هذا بالفعل في مطلع السبعينات، وتحديدًا عام 1970 مع فيلمه الذي حقق نجاحًا تجاريًا وجماهيريًا، وكان بعنوان “ماش”، وهو فيلم حربي درامي وكوميدي، بطولة دونالد سازيرلاند وروبرت دوفال. وكان عن الحرب الكورية، وقد أخرجه ألتمان وهو في الرابعة والأربعين من عمره، وفاز عنه بالسعفة الذهبية في مهرجان “كان”.
وقد ركّز بعض النقاد والكثير ممن عملوا مع ألتمان، على عدد من التقنيات المغايرة التي كان يستخدمها في أفلامه مثل البطء أو اللقطات المقربة على نحو شديد من عدة كاميرات وبأكثر من زاوية، والكثير من المشاهد المرتجلة التي تحيد تمامًا عن النص الأصلي. كذلك لجوء ألتمان لبعض الحيل الجديد مثل الميكروفونات الصغيرة جدًا التي يسجل بها حوار كل ممثل، ثم يقوم بعد ذلك بدمجها معًا على نحو مكثف، بحيث تبدو كضوضاء متداخلة أو كأصوات متراكبة.
من الشخصيات المعروفة التي ظهرت بالفيلم، إضافة إلى زوجة ألتمان وابنيه، الممثل الراحل روبن وليامز، والممثلة جوليان مور، والممثل بروس ويلز، والممثل جيمس كان، والممثل كيث كاردين. وأيضًا المخرج بول توماس أندرسون، الذي أهدى فيلمه “سيكون هناك دم” لألتمان، والذي قال عنه “لقد سرقت من بوب بقدر ما أمكنني”.
يقول الراحل روبن وليامز عن الألتمانية، إنها “توقُّع ما هو غير متوقَّع”، في حين أجاب بروس ويلز على نفس السؤال قائلا، “ركل مؤخرة هوليوود”. وبعد الكثير من النقاش حول هذا السؤال المحوري المطروح من جانب مخرج الفيلم والحصول على العديد من الإجابات المتنوعة، نخرج في النهاية بإجابة مفادها أن الألتمانية ليست فقط مجرد أسلوب أو نهج إخراجي ما، بل هي قدر من الحساسية المضادة للمؤسسة، والمؤيدة للاستقلالية الفردية، وقد تتسّم بالخشونة والصخب، لكنها في النهاية غاية في الإنسانية والصدق.
ليس ثمة شك في أن الفيلم يعتبر من أقوى المداخل للتعرف على سينما وحياة المخرج الكبير روبرت ألتمان لمن لا يعرفه. وهذا ما يذكره مخرج الفيلم صراحة، ويعترف بأنه بإخراجه لهذا الفيلم يكون قد أدّى ما عليه تجاه الرجل والأجيال التي ترغب في التعرُّف على عمله.
لكن، وبالرغم من نبل المحاولة والكثير من الجهد المبذول من جانب مان، نجد أن الفيلم في النهاية، من الناحية الفنية والتقنية، لم يكن سوى مجرد تلخيص سردي عادي لحياة المخرج الراحل. وقد جاء هذا التخليص غير متوازن بعض الشيء، ويعتمد كثيرًا على العديد من المقاطع المأخوذة بكاميرا ألتمان المنزلية له ولأطفاله ونزهاتهم إلى آخره، من دون أي سبب واضح، سوى الإعجاب بتلك المادة، التي منحها له آل ألتمان.
وفي النهاية لم يفلح رون مان في الاقتراب كثيرًا من روح ألتمان الفنان والمخرج في أعماله كمبدع ومبتكر ومجدد في لغة السينما، وكذلك الاقتراب من الكيفية التي صنع بها العديد من الأفلام المهمة والناجحة أو التي لم تلقَ القبول والنجاح أيضًا. لكن رون مان أفلح، على أية حال، في تقريبنا من ألتمان الإنسان وأطلعنا على تجربته على نحو استعراضي شامل، يتسِّم بالصدق والإخلاص لموضوعه قدر الإمكان.
لقد صنع العديد من الأفلام التي كان يرغب في صناعتها وعلى النحو الذي يريد، دون أن يلجأ للحيل أو المساومات أو الحلول الوسط، إلا فيما ندر. يقول مان، وقد اعتاد قول هذا كثيرًا لطلابه ومريديه، “لو حاول أي مخلوق أن يعبث بفيلمك، احرق النيجاتيف”. ليس ثمة شك في أن ذلك الرجل، بتلك التركيبة الشديدة التعقيد والجنون والجموح، والتي شاهدنها في الفيلم، لم يكن ليتردد بالمرة في الإقدام على هذا الفعل.
ولد المخرج الكندي رون مان في تورنتو عام 1959، وهو أيضًا منتج سينمائي معروف في مجال السينما التسجيلية التي تركز على الفن والثقافة الشعبية المعاصرة. ومن أشهر أفلامه التي أخرجها “كتاب كوميدي سري” (1988)، و”العشب” (1999)، و”اذهب لأبعد من ذلك” (2003).