محمد هاشم عبد السلام

 

26/2/2019

 

كان حلم السفر ولا يزال يراود الكثير منا، خاصة وإن تمثل في رحلة طويلة عبر العالم أو بلدان عدة. قطعًا اختلفت سبل ووسائل وآليات وطقوس السفر قديمًا عنها قبل سنوات خلت، وحتى قبل شهور مضت أو منذ أيام قليلة، سواء من حيث سهولتها أو صعوبتها، ومن حيث الفترة المستغرقة أو طول الرحلة ومشاقها، وكذلك الكلفة بالطبع.

صحيح أن التجارب والخبرات تختلف من شخص إلى آخر، ومن مرحلة عمرية إلى أخرى، ومن بلد أو بلدان أو قارات إلى أخرى، لكن دون شك تظلّ المتعة والإثارة والمغامرات من بين أشياء عديدة هي ما يخرج بها المسافر في النهاية مع انتهاء رحلته.

فازت المخرجة البرتغالية اليابانية آيا كوريتزكي عن فيلمها التسجيلي الأول “حول العالم عندما كُنتَ أنت في مثل سني” بجائزة أفضل فيلم في مسابقة “المستقبل الواعد” بمهرجان روتردام السينمائي الدولي في دورته الـ48، التي انعقدت في الفترة من 23 يناير/كانون الثاني إلى 3 فبراير/شباط هذا العام في هولندا.

ربما يوحي عنوان الفيلم بالكثير مما يحتوي عليه، فالجزء الأول من العنوان يوحي برحلة أو سفر أو ترحال حول العالم، أما الجزء الثاني فيشير إلى بطل الفيلم جيرو كوريتزكي، وهو أيضًا والد مخرجة الفيلم الشابة آيا كوريتزكي (من مواليد اليابان عام 1983). وإلى جانب الإيحاء يختصر العنوان الكثير من مضمون الفيلم، فهو يتمحور حول الأسفار التي قام بها والد المخرجة عندما كان في مثل عمرها، أي في الثلاثينيات من عمره.

فيلم أبطاله الصور الفوتوغرافية

 

كيف يتأتى لمخرج إعادة تصوير مشاهد رحلة متعددة ومترامية البقاع تفصل بينه وبينها عدة عقود؟ الطريقة التي اتبعتها المخرجة آيا كوريتزكي في فيلمها “حول العالم عندما كنت أنت في مثل سني” تجيب عن هذا السؤال المعقد.

فمن ناحية ومنذ اللحظات الأولى بالفيلم وحتى الختام، نلاحظ الإطار أو الكادر الخاص الذي اختارته المخرجة للفيلم، فهو إطار يشبه بالضبط ذاك الذي للصور الفوتوغرافية، ومع الوقت نكتشف أن الفيلم يقوم بالأساس على توظيف الصور الفوتوغرافية، فهناك المئات منها بالأبيض والأسود أو الألوان.

الصور كلها تعود إلى أوائل السبعينيات من القرن الماضي، وذلك عندما قرر والد المخرجة جيرو الشروع في رحلته تلك بداية من الصور التي التقطها لليابان قبل مغادرته، ومرورًا بالبلدان التي زارها، وليس انتهاء ببعض الصور الشخصية له سواء في مراحل عمرية مختلفة أو أثناء رحلته. لذا يمكن القول إن الصور الفوتوغرافية هي البطل الأول والأساسي للفيلم، وأنه لولا كل تلك الصور التي التقطها جيرو أثناء رحلته لما أمكن صناعة هذا الفيلم.

المخرجة البرتغالية اليابانية آيا كوريتزكي تفوز بفيلمها  “حول العالم عندما كُنتَ أنت في مثل سني” بجائزة أفضل فيلم في مسابقة “المستقبل الواعد”

حيوية وتشويق أجهزتا على أي ملل

 

أما من ناحية أخرى فلم تشأ المخرجة أن يسير السرد أو الحكي بالفيلم على نحو خطي متصاعد من البداية إلى النهاية. صحيح أن سير الرحلة التي قام بها والدها سارت وفقًا لخط سير تاريخي تراتبي، لكن إلى جانب السرد الخاص بالرحلة وتواريخها ثمة سرد آخر متعلق بالحاضر، فحتى تكسر المخرجة الملل أو تخلق إيقاعا ما فإنها تحيد بنا عن إيقاع الرحلة بين الحين والآخر، وتخرج بنا من استعراض الصور الفوتوغرافية لتوجه أسئلة مباشرة إلى والدها من خلف الكاميرا، فنحن نسمع صوتها ولا نراها، تلك الأسئلة آنية ومعاصرة، مثلا عن صحة الأب وعن اعتلال بصره، وعما يزرعه في حديقته..

وبالإضافة إلى خطي السرد هذين ثمة خط ثالث، إننا نستمع إليه بين الحين والآخر، ذلك الصوت من المفترض أنه صوت جيرو، لكنه ليس كذلك، إذ يتبين أثناء الفيلم أنه بسبب ضعف الإبصار لم يعد بإمكان جيرو القراءة.

ذلك الصوت يقرأ أو يروي الكثير من اليوميات التي كان جيرو قد دونها أثناء رحلته حول العالم، ومن ثم فإننا تارة نعيش مع الصور الفوتوغرافية التي تبين لنا الأماكن التي قام جيرو بزيارتها، ثم نرتد بعد لحظات إلى الواقع المعاصر؛ نراه في حديقته يرسم أو يفلح أو يزين، أو في بيته يطهو.. وكذلك مع سماع ما دونه عن تلك الرحلات في مذكراته، يتداخل أحيانًا صوت قارئ المذكرات مع الصور الفوتوغرافية، أو تذكُّر جيرو نفسه للحظات بعينها في رحلة ما من رحلاته.. ذلك البناء الذكي قضى على الملل بالتأكيد، ومنح الفيلم الكثير من التشويق والحيوية.

تشويق من نوع آخر ضمن بنية فيلم “حول العالم عندما كنت أنت في مثل سني” متعلق بتلك الرحلة التي قام بها جيرو، وهو المهندس المتخصص في تصميم الحدائق والمناظر الطبيعية عندما كان في الثلاثين من عمره

الدول الإسكندنافية ليست هي أوروبا

 

تشويق من نوع آخر ضمن بنية فيلم “حول العالم عندما كنت أنت في مثل سني” متعلق بتلك الرحلة التي قام بها جيرو، وهو المهندس المتخصص في تصميم الحدائق والمناظر الطبيعية عندما كان في الثلاثين من عمره.

بدأت الرحلة في أغسطس/أيلول 1970 وانتهت في يوليو/تموز 1971، وخلالها حمل جيرو على ظهره حقيبة تزن 25 كيلوغراما، وهذا هو كل شيء. رحلة توجه فيها إلى أقرب الموانئ الروسية ثم سيبيريا، ومن هناك إلى موسكو، حيث مكث فترة وجيزة يحكي عن البشر والميادين والطقس والخوف والبرودة والعزلة.

من موسكو يأخذ القطار الدولي إلى هلسنكي عاصمة فنلندا، يروي عن الحياة في تلك المدينة، ثم غيرها من البلدان الإسكندنافية مثل الدانمارك والسويد، وكيف كانت الحياة باهظة جدًا في ذلك الوقت، لذا كان من الصعب عليه العيش أو الإقامة طويلا في تلك البلاد.

علمته إسكندنافيا أن يُقدِّر قيمة الأشياء بما في ذلك التافهة، “حتى وإن كان مجرد حبل” على حد قوله. كذلك، إلى أي مدى تعتبر اليابان برغم كل شيء من البلاد الرخيصة معيشيًا. صحيح -على حد قوله- ثمة الكثير من النظافة والترتيب والاهتمام والتنسيق والرعاية، لكن البرود والرتابة والملل موجودون أيضًا في تلك الدول، غير أن الدول الإسكندنافية ليست هي أوروبا.. هكذا قال لنفسه.

تركيبة الفيلم السردية جيدة جدًا فنيًا ومثيرة، ومع ذلك فهناك الكثير من علامات الاستفهام

أوكازاكي وجيرو.. رحلة مغايرة

 

ومع حلول الأول من أكتوبر/تشرين الأول حطّت به الرحال في ألمانيا؛ هامبورغ ثم فرانكفورت تحديدًا. وهناك في أحد نُزل الشباب التقى بياباني يدعى “أوكازاكي” وتصادق معه، ذلك الشاب كان مجنونًا، فقد ترك اليابان ومعه 50 دولارًا فقط، كان مثله يطوف أوروبا بعدما استقر به الحال في أمريكا منذ سنوات، حيث يعمل في تنظيف ورعاية وصيانة الحدائق.

من خلال سرد الأحداث وظهور شخصية “أوكازاكي”، نرى إلى أي مدى اتخذت رحلة جيرو منحى مغايرًا تمامًا، فقد اشتريا معًا سيارة مستعملة ليطوفا بها ألمانيا ومن بعدها النمسا. وكلفتهما أعطاب السيارة الكثير من المال، ومع ذلك لم يرغب أحد في شرائها.

بتلك السيارة قطع جيرو -على حد قوله- أكثر من 35 ألف كيلومتر، وبات فيها لما يقترب من عام. ومن ألمانيا توجه إلى إسبانيا فترة حكم فرانكو، وإيطاليا حيث يصف الجمال والبشر والروح الإيطالية ويقارنهم بما وجده في الدول الإسكندنافية، ومن إسبانيا ثانية يلتقي بأوكازاكي ويذهبان معًا عبر الريف الواقع بين إسبانيا ولشبونة إلى البرتغال، حيث يصف جمال البرتغال ونهر التاغو وحي ألفاما في قلب العاصمة لشبونة، ومن هناك ركب أوكازاكي الطائرة عائدًا إلى أمريكا بعدما ألحّ عليه كي يزوره هناك، حيث العمل والمستقبل.

عاد جيرو بالسيارة إلى إسبانيا، وطاف بها عددا من المدن حتى وصل إلى ملقا، ومن هناك عبَر إلى المغرب؛ الأراضي الحمراء كما يصفها، إنها قوس قزح يجلس على حافة العالم على حد قوله. يصف جمال الصحراء واختلاف الشعور بالزمان والمكان، ويحكي الكثير عن الأولاد الباعة هناك، ومحمد الذي التقاه وسكن عنده لأيام وتقاسم معه كل شيء، عن دفء القلب الذي وجده بالمغرب.

ثم يتحدث عن السفر إلى تونس وانطباعاته عن البلد هناك، ومن ثم استقلال العبارة إلى إيطاليا، ثم إلى يوغسلافيا، ثم اليونان فكريت ومالطا وتركيا، ثم الشرق الأوسط؛ لبنان وتحديدًا بيروت وطرابلس، وغيرها من المدن، ثم سوريا ودمشق وحلب واللاذقية وتدمر وحمص وغيرها، وعن رغبته التي لم تتحقق بزيارة الأردن بسبب القتال بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، وانعكاسات الوضع على الأردن آنذاك.

في فيلم “حول العالم عندما كنت أنت في مثل سني” الكثير من المواقف المُعَبِّرة والحِكم، وأوجه الاستفادة من تجربة وخبرة جيرو التي اكتسبها خلال رحلته الطويلة

حول العالم.. لهواة الأسفار والإثارة

 

بعد عودته من الشرق الأوسط وانطباعاته عن أهله ومُدُنِه التي يمُرُّ عليها بإصبعه فوق خريطة بالعربية، وحيث توقف وأمضى الكثير من الوقت والأيام، ولأن السيارة –على الأقل هيكلها الخارجي– كانت في حالة يُرثى لها ولا تصلح للبيع؛ قرر تركها بأحد الموانئ. “إنني جدا حزين لفراقك، فرغم شيخوختك وأعطابك وما أصابك فأنا مدين لك بالكثير”.. يقول عن سيارته “صحيح أنها كادت تفقدني حياتي أكثر من مرة، لكنني سعيد بما حققت، وأنا فرح وممتن لأنني على قيد الحياة بعدما حققتُ ما تمنيت”.

في فيلم “حول العالم عندما كنت أنت في مثل سني” الكثير من المواقف المُعَبِّرة والحِكم، وأوجه الاستفادة من تجربة وخبرة جيرو التي اكتسبها خلال رحلته الطويلة التي اقتربت من عام، حتى وإن كانت قبل عقود مضت، لذا فالفيلم مثير لهواة الأسفار والمحبين للإثارة والتشويق، والراغبين في التعرف على ثقافات وعادات وتقاليد وأهل بلدان أخرى.

تركيبة الفيلم السردية جيدة جدًا فنيًا ومثيرة، ومع ذلك فهناك الكثير من علامات الاستفهام، مثلا لم نعرف لماذا هجر جيرو اليابان ويعيش بالبرتغال منذ 25 سنة، هل هذا كان بناء على تجربته عندما زار البرتغال أم ماذا؟