محمد هاشم عبد السلام
أعتقد جازمًا أن الكثير من المخرجين والكتاب سيفكرون مليًا، بعد مشاهدتهم للتحفة السينمائية “ابن شاؤول” (Son of Saul) للمخرج المجري الشاب لازلو نيمِش، قبل إقدامهم على التصدي لإخراج أو كتابة ما هو أكثر بشاعة ورعبًا وصدقًا عن غرف الغاز، وما حدث في معسكر أوشفيتز بيركيناو، ودور “السوندركوماندورز” في ذلك المعسكر. لقد نجح لازلو بفيلمه البديع والصادم معًا في أن ينزع عن المحرقة دعائيتها، ويردها فقط إلى ما هو إنساني.
بالرغم من كثرة الأفلام والكتب التي صنعت وسُطِّرَت عن المحرقة النازية وأرقام الأرواح التي أزهقت بها، فقد سقط أغلبها بالفعل في فخ المبالغة والزيف، ناهيك عن تضخيم الفظائع وتهويلها بغية تحقيق أكبر قدر ممكن من التعاطف والإقناع، لدرجة يمكن وصفها في كثير من الأحياء بالابتزاز الصريح واللعب على وتر استنزاف المشاعر وإيلام العواطف وتضخيم عقدة الشعور بالذنب. لم يقع فيلم المخرج لازلو نيمِش في هذه الأفخاخ على الإطلاق، وتلك واحدة من مزايا فنية عدة تحسب لتلك التحفة الرائعة، التي فازت بالجائزة الكبرى في مهرجان “كان” السينمائي هذا العام، وأيضًا جائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما كأحسن أفلام المسابقة، وجائزة اللجنة العليا الفرنسية للتقنية السينمائية عن شريط الصوت الذي أعده “تاماش لازني”، إضافة إلى الترشح مؤخرًا لجوائز الجولدن جلوب والأوسكار أحسن فيلم أجنبي.
ليس ثمة مبالغة على الإطلاق في قولنا إن فيلم “ابن شاؤول” يعيد كتابة ما شاهدناه من قبل عن المحرقة على جميع المستويات، بداية من القصة ومرورًا بالتمثيل وليس انتهاء بجماليات وفنيات الإخراج. وذلك للبكارة الخالصة التي نلمسها دون شك في كل تلك الجوانب. فمن المثير في الأمر، على سبيل المثال، أن فيلمًا يتناول مثل هذا الموضوع، أفران الغاز وما دار فيها أو داخلها، لم تكن الأفران هي شغله الشاغل بالمرة، بل ولم تظهر بوضوح لدقائق إلا مع بداية افتتاحية الفيلم ليخبرنا أنها لن تكون المغزى وعلينا أن ننساها. وبالفعل، لم نرها ثانية إلا لمرة أو مرتين عرضًا، ومغايرة للبداية وذلك لضرورة فنية فحسب. ومن المثير أيضًا، أننا لم نر وجوه الضباط الألمان إلا لمامًا، ولا نعرف رتبهم أو أسمائهم، ولا حتى شاهدنا ولو لمرة لقطة عامة واحدة للمعسكر بالكامل. إن انحيازات لازلو الفنية والجمالية بداية من اختياره للموضوع، وطريقة التناول أو الطرح أو المعالجة، إضافة للجهد الواضح المبذول في كتابة السيناريو، وأسلوب التصوير وشريط الصوت واختيار العدسات والمونتاج، تخبرنا أننا أمام مولد مخرج عبقري، يقوم في فيلمه الأول، إن لم يكن بتسطير تاريخ السينما من جديد، فعلى الأقل بتخليد اسمه ضمن بانثيون آلهة السينما العظام.
القصة
إن قصة الفيلم، التي تختزل الكثير من الكتب والمجلدات التي سُطِّرَت على مدى عقود طويلة في مقدار زمني من المتعة الخالصة بلغ ساعتين تقريبًا، تتمحور فقط حول أحد أفراد المعسكر، وهو المجري “شاؤول أوسلاندر”، وشاؤول في العهد القديم هو أول ملوك بني إسرائيل وأوسلاندر بالألمانية تعني الأجنبي أو الغريب، الذي يقوم مع قلة من رفاقه بوظيفة “سوندركوماندو”، وهم مجموعة من السجناء اليهود الذين تم اختيارهم كيفما اتفق دونًا عن بقية المعسكر كي يعملوا، مضطرين، على مساعدة الألمان في التخلص من رفقائهم اليهود بالمعسكر، والإشراف على نزع ملابسهم وتفتيشها وتجريدهم من كل شيء، ثم دفعهم لغرف الغاز ثم سحب الجثث لحرقها وتنظيف الأرضيات، وذلك مقابل بعض الطعام الزائد وإبقائهم على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة حتى يحين دورهم.
وفي حين يخطط رفاق شاؤول من السوندركوماندو للقيام بما يشبه الإضراب أو الاحتجاج ومن ثم الهروب، وهذا مثبت تاريخيًا أنه حدث في أكتوبر عام 1944، نجد شاؤول قد انشغل كلية في أمر مغاير تمامًا. فقد وقعت عينيه ذات يوم، من بين مئات الجثث التي يراها يوميًا، على جثة صبي استوقفته طويلا، فيحملها على غير العادة ويخبأها كي لا تتعرض للتشريح والحرق كبقية الجثث. تلك الجثة، التي جعلته يغامر من أجلها تلك المغامرة التي سنلهث فيها خلفه طوال الفيلم، إذ يرغب على نحو مستحيل في أن يدفنها على نحو ملائم ووفقًا للطريقة اليهودية، ولذا يبحث على نحو محموم عن راهب يهودي وسط الجموع ليقوم بمهمة الصلاة قبل الدفن، يزعم أنها جثة ابنه. وطوال تلك المهمة نظل على تأرجحنا بين الشك واليقين من أن تلك الجثة لابنه فعلا، فهو من ناحية لن يخوض كل تلك المغامرة المُهلكة من أجل جثة مجهولة. فين حين أنه حتى عندما صارحه أحد رفاقه المدبرين للهروب بأنه لم ينجب من الأساس والتزم شاؤول الصمت التام، ظل الباب مفتوحًا لأن يكون الطفل ثمرة علاقة سابقة على الزواج أو من امرأة أخرى غير زوجته.
وبترك تلك النقطة الجوهرية المفتوحة على جميع الاحتمالات، تتبدى لنا إحدى جماليات لازلو الفنية في كتابة سيناريو وحوار الفيلم بالاشتراك مع كاتبة السيناريو “كلارا روير”، فقصة الابن، سواء إن كان بالتبني أو حقيقي أو مجرد رمز بالنسبة لشاؤول، ترمز لإحالات كثيرة، وتثير الكثير من التساؤلات، لماذا تلك الجثة على وجه التحديد؟ ولِمَ هذا الصبي؟ لماذا كل هذا الإصرار البالغ، والمناشدات والتهديدات والابتزاز والرشوة من جانب شاؤول كي يتم دفن الجثة، ووفقًا للمراسم اليهودية، في حين أن الموت المجاني يضرب المكان كله ولا منجاة منه؟ والمثير في الأمر أنه ليس متعلقًا بإنقاذ حياة، وإنما بدفن جسد فارقته الحياة، تلك الظاهرة الفريدة التي صاحبت الإنسان منذ أن وطأت قدميه الأرض، وإحدى أهم السمات أو الخصائص المميزة له. هل لأن الدفن هنا، بعكس الشائع والمعتاد، ليس تكريمًا للجسد المتوفى بقدر ما هو احتفاء رمزي بالحياة؟
جماليات إخراجية
يجيء لازلو بفيلمه وطريقته في التصوير والإخراج ليجعلنا نعيد اكتشاف السينما من جديد على نحو لم نألفه من قبل أبدًا. ويجلعنا نقف حائرين متأملين فيما سبق من تاريخ الصورة السينمائية والطريقة التي قدمت بها إلينا وتلقيناها بها، فإذا بنا أمام من يكشف لنا أننا لم نكن من قبل قط بحاجة للكثير مما هو خارج إطار الكاميرا، ولا اللقطات البانورامية الطموحة، ولا حتى حجم الكادر السينمائي العادي، بل إن حتى مجرد بؤرته المركزية فحسب كافية وأكثر من كافية لإيصال كل ما يطمح أي كادر بانورامي في أن ينقله.
إن الحديث عن تقنيات حركة الكاميرا في “ابن شاؤول” لا يستقيم من دون التحدث أيضًا عن شريط الصوت الخاص بالفيلم، الذي يتكامل مع الصورة ويشكل جناحها الثاني الذي يحلق به الفيلم. إن شريط الصوت المُرعب، الذي يجعلك بالكاد تنعم بقسط من الهدوء اللحظي من هول الإفراط في المصادر المتنوعة له، أصوات صراخ وفزع وبكاء وتوسل وأنين، ولغات ألمانية وبولندية ومجرية ويديشية، واحتكاك الفرش بالبلاط لتنظيف الأرضيات، وإطلاق رصاص، وحركات أقدام مُهتاجة، وغيرها من الأصوات التي لا نعرف كنهها على وجه التحديد، شكلت جميعها فسيسفاء صوتية لا مثيل لها. وهي، من ناحية أخرى، من الإلحاح والطبيعية لدرجة تعجز عن تناسيها كلية، ولو لدقائق قليلة. لكن لماذا أغلب هذه الأصوات نستطيع فقط التكهن بها وبمصدرها على نحو غير يقيني، ولِمَ ظلت حاضرة على هذا النحو؟ مرد ذلك لأنها قادمة بالأساس من خارج مجال الرؤية على الشاشة، فهي تحدُثُ في الخلفية وعلى نحو مُصاحب لذلك الوجه الأيقوني لبطل الفيلم، الذي لم تكد تفارقه الكاميرا منذ أول دقيقة بالفيلم إلا للحظات نادرة.
لكن لماذا اختار لازلو تلك الطريقة على وجه التحديد دون غيرها؟ ربما، وهذا جائز بطبيعة الحال لكنه يظل افتراضًا من جانبنا، أن لازلو قد وعى أحد أهم الدروس السينمائية التي ذكرها أحد عباقرة الفن السينمائي قبل عدة عقود، وهو الفرنسي القدير “روبير بريسون”، حيث أجاب في حوار له عن السبب الذي دفعه للاعتماد على الصوت فقط بأحد المشاهد في فيلمه المتميز “هروب رجل”، والمعروف أن بريسون، للمفارقة، كان سجين الألمان لبعض الوقت، “سمعت مرة عبر باب الزنزانة صراخ شخص ما يُساط، ثم سمعت جسدًا يسقط. كان هذا أسوأ عشر مرات مما لو كنت قد رأيت عملية الجلد. عندما ترى “فونتين” بوجهه الملطخ بالدماء وهو يعاد إلى زنزانته، تُجبر على تخيل فظاعة وهول الضرب، الذي يجعله هذا التخيل قوي جدًا”.
هذا الدرس المهم نُرجِّح استفادة لازلو منه، فتقنياته مُطبقة بحذافيرها في فيلمه، وعليه فقد تحقق له التأثير الهائل الناجم عن التخيل، إضافة إلى عدم تشتت الجمهور وصرف انتباهه فيما لا طائل تحته. وهذا قرار بالغ الصعوبة إلى حد هائل، لا سيما بالنسبة لمخرج لا يزال شابًا يافعًا يقدم أول أفلامه. لكن لأنه مخرج كبير بحق فقد آثر عدم الالتفات والتخلص من كل ما هو زائد عن الحاجة. وهذا بالطبع، ليس تمجيدًا ولا تفخيمًا من جانبًا في المخرج بقدر ما هو ثناء على روعة اختياره، وجسارة تنفيذ قراره، الذي ترتب عليه بطبيعة الحال، تكلفة ضخمة إلى حد كبير، تمثلت في صنع ديكورات وحشد مجاميع هائلة كانت كافية لخلق مشاهد ملحمية غاية في الروعة والإبداع فقط لو فُتِحَت عدسة الكاميرا أو تم التقاطتها من زوايا أكبر وأبعد، لكنه كما أسلفنا آثر التضحية بكل ذلك الجهد المبذول، مكتفيًا منه، على نحو شديد التقشف، بأقل القليل. وقد كانت النتيجة في صالح ذلك الاختيار الفني المُوظف على نحو رائع.
اختيار فني آخر آثره المخرج بجسارة، إلى جانب اللجوء طوال الفيلم للقطات المقربة والطويلة أو المفرطة الطول زمنيًا بغية تحقيق المزيد من الذعر والاضطراب المتواصلين، وهو تجنب عرض أي مشهد من مشاهد القتل والرعب وسفك الدماء والخنق والحرق، وذلك بجعلها بعيدة بعض الشيء عن الشاشة أو في الهامش منها، إضافة إلى استخدام أنواع معينة من العدسات تجعل جوانب الصورة وخلفيتها غارقة في الضبابية والغبش والتشويه، بحيث بالكاد نتبين كنهها، وبهذا أطلق لازلو خيال المُشاهد إلى الآفاق الرحبة ولم يقصره على الحدود المُقيدة للكادر السينمائي. إلى جانب كل هذا، انحاز المخرج لجماليات الألوان الأساسية في معظم الفيلم، ولذا جاءت أغلب الكادرات بألوان لافتة يغلب عليها الأزرق والأصفر والأخضر. وفوق استمتاع المُشاهد بتلك الوجبة الدسمة من التقنيات المحشودة عن قصد فني، فإنه يمسك أنفساسه أيضًا لفرط عظمة الأداء من جانب تلك الموهبة الخارقة التي قامت بدور شاؤول، وهو بطل الفيلم “جيزا روريج”.
لم يركن “جيزا روريج”، ربما لأنه ليس محترفًا بالأساس، إلى المعتاد من إظهار الخوف أو العذاب أو الألم أو التوتر وغيرها من المشاعر على وجهه، وإنما عَبَّرَ بجسده وحركاته المختلفة، عن كل هذا دون أدنى افتعال أو حتى مجهود تستشعره من جانبه، ناهيك عن تحكمه في الصوت بنبراته المختلفة وصرامة نظراته وجمود قسمات الوجه. إن جيزا بوجهه الصخري طوال الفيلم، نقل إلينا بدوره كمًا هائلا من الرعب فاق بنظرنا ما كان يطمح إليه المخرج وحتى هو نفسه كممثل، ناهيك عن كوننا في حالة رعب وترقب دائم لأننا غير مطلعين كفاية على عمق مجال رؤية، وليست هناك لقطات تأسيسية للأماكن، وبالتالي فلم نُلِمَ بأبعاد المكان المحيط بشاؤول أو المتواجد فيه طوال الفيلم، ومن ثم، لسنا على دراية كافية بأي خطر محدق قد يحفه في أية لحظة، وبهذا كان الخطر يتعاظم مع كل خطوة ودقيقة من الفيلم.
إن تعبيرات وجهه شاؤول الغريبة كل الغرابة تُعرِبُ، بمفردها، عن التركيز الشديد والعنفوان والحيوية والتفاعل مع كل ما يدور من حولها لأجل الهدف الذي تروم إنجازه. لكنها في سياق قراءة الوجه برمته فإنها تنم عن وجوم وشرود وموات، لكأنها نُحِتَت من زجاج، فلا ترى ولا تتأثر بأي شيء يدور حولها أو يقع تحتها. والغريب أن هذا الوجه اللا إنساني اكتسى، قرب النهاية، بقسمات مغايرة كلية لما كان عليه طوال الفيلم، لتدب فيه بعض الإنسانية. إن أداء “جيزا روريج”، والذي لم نره منذ فترة طويلة على ممثل يضطلع بدور رئيسي في فيلم لم تفارقه فيه الكاميرا، من دون أدنى مواربة أو مجاملة، أداء فذ حقًا لم تشبه شائبة ولم يفقد إيقاعه ولا قدرته على الإقناع طوال الفيلم، وهو ما ينسحب أيضًا على أداء مدير التصوير “ماتياس أردلي”، والمونتير “ماثيو تابونير”.