محمد هاشم عبد السلام

 

نادرًا ما تهرب الأفلام العربية عامة من الوقوع في فخ السيناريو غير المتقن، وهو العيب الأكبر والمُزمن، حتى الآن، الذي تعاني منه السينما العربية بالأساس، إلى جانب العديد من المشكلات الأخرى الثانوية التي تتفاوت عادة من فيلم إلى آخر. ومن بين أحدث الأفلام العربية التي عانت من تلك المشكلة أيضًا، الفيلم التونسي “نحبك هادي” للمخرج محمد بن عطية، وهو الفيلم الروائي الأول له، بعد عدة أفلام قصيرة أنجزها على فترات متباعدة منذ عام 2004. وقد عُرض فيلم “نحبك هادي” ضمن المسابقة الرسمية للدورة السادسة والستين من مهرجان برلين السينمائي الدولي هذا العام، وهو أول مشاركة عربية بالمسابقة منذ عشر سنوات تقريبًا، بعد فيلم “الجنة الآن” لهاني أبو أسعد في عام 2005، والمشاركة التونسية الأولى بعد فيلم “صيف حلق الوادي” لفريد بوغدير قبل عشرين عامًا. وقد فاز الفيلم بجائزة العمل الأول وأيضًا أحسن ممثل.

بالرغم من أن الفيلم لا يُعاني من التكرار وبطء الإيقاع والطول النسبي المعتاد في أفلامنا العربية، إذ لا يتجاوز زمن عرضه الساعة ونصف الساعة، لكنه يعاني من الكثير من الترهلات، والتي بدأت مع أولى مشاهده حيث استغرق الفيلم أكثر من عشر دقائق تقريبًا في التهيئة والتمهيد والتأسيس لخطبة بطل الفيلم “هادي براك” (مجد مستورة)، وذهابه ووالدته لخطبة الفتاة “خديجة” (أمنية بن غالي)، وتلك كان من الممكن تقديمها في بضعة دقائق لا أكثر. أيضًا عانى الفيلم من أمر آخر، ولم يستطع السيناريو إحكامه، وهو المُتعلق بخاتمة الفيلم، والتي كان من المُفترض، بغية تحقيق الفيلم لمراده وإحداث الأثر المرجو على نحو أعمق، أن يكون ختام الفيلم على الأقل قبل خمس دقائق من خاتمته الفعلية، وتحديدًا مع مشهد هادي وحيرته عند شاطئ البحر قبل العودة إلى بلدة “المهدية”، ومقابلة حبيبته “ريم” (ريم بن مسعود).

كذلك لم يكن السيناريو مُقنعًا بشدة في رسم شخصية الأم “بايا” (صباح بوزويتا)، وإبراز مدى بسطها لسلطتها وسلطانها وتسطلها على هادي بصفة خاصة، وشقيقه “أحمد” (حكيم بومسعودي) بصفة عامة. فلم نر أي أثر فيما يتعلق بتحكم الأم في حياة شقيقه، على سبيل المثال، الذي اختار لنفسه العيش في فرنسا والزواج من فرنسية، حتى أنه يتذرع لأمه، في أحد المشاهد، بنوم ابنته كي لا ترى الأم حفيدتها عبر الاسكايب عندما كان يُحدثها من فرنسا. من ناحية أخرى، لم نر من تسلط الأم، والذي هو من المفترض أنه وراء كل المشكلات التي يعاني منها هادي، سوى الترتيبات أو الإشراف الذي تقوم به من أجل التجهيز لعرسه، في حين أن هادي نفسه، لم يبد منذ البداية أية مُمانعة أو رفض تجاه الفتاة، بل استشعرنا لفترة أنه على علاقة حب وغرام بها، وأنها أيضًا بدورها تبادله نفس المشاعر.

من ناحية مُغايرة، وخارج نطاق العائلة والعرس، نجد أن هادي شخص مُهادن ومُمتثل ومُسالم بطبيعته، سواء في مجال العمل، تجاه الزملاء والزبائن ورب العمل، وأيضًا في حياته اليومية. إن ذلك الشخص الخفيض الصوت، الهادئ، غير الطموح ولا المتطلع لشيء سوى الأداء الروتيني غير المُكترث لعمله، وإرضاء صاحب العمل، وإتمام عُرسه، لم يبد حتى منتصف الفيلم وقبل مقابلته للفتاة “ريم” أي نوع ملحوظ من أنواع القنوط أو عدم الرضا أو التمرد أو رفض ما هو قائم أو الرغبة في تغيير معيشته أو حتى الفرار والهرب من حياته وبلده، مثلما حاول في الثلث الأخير من الفيلم. ولذا، فقد كانت تلك النقلة في حياة هادي مُفاجئة، ولم يتم التمهيد لها على نحو مقنع. أيضًا، من الأمور التي صارت بمثابة الكلاشيهات في السيناريوهات العربية، الإصرار دائمًا على تقديم الشخصيات المُماثلة لشخصية هادي، على أنها هادئة ومنطوية ولا تجيد التعبير أو الكلام وحياتها فارغة من أي شيء أو مُنكسرة ومُقادة، والأدهى أن لديها دائمًا هوايات سرية مكبوحة تمارسها على استحياء وخجل، مثل الرسم في حالة هادي، وأن الجميع غير مؤمن بموهبتها الفنية ويسخر منها، وحِلمُها الفني مُجهض دائمًا.

إن مشكلة هادي بالأساس هي مشكلته مع ذاته قبل أن تكون مع الواقع المحيط به والأفراد المتواجدين فيه، لخصتها له ريم في حوار بينهما، عندما حدثها عن الحلم بطبع رسوماته، بأنه مشروع ليُنجز وليس حلمًا مستحيلا. كما برز هذا على وجه التحديد عندما وجد نفسه أمام ذلك القرار المصيري الذي كان عليه أن يتخذه بسرعة وحسم؛ هل يُسافر مع ريم ويترك بلده وأهله وعرسه ومستقبله من أجل حبه لها وللحياة، وحبه للحرية والتغيير أم أنه لا يجرؤ على اتخاذ مثل هذه الخطوة؟ ولماذا، بما أن هذا هو ما يؤرقه ويبحث عنه، عندما كان قاب قوسين من تحقيقه، أحجم عنه؟ ألم تسأله ريم من قبل عما سيفعله في فرنسا، وعن مستقبله وكيف سيعيش؟ لكنه لم يعط الكثير من الاهتمام لمثل هذه الأسئلة، وكأنه صبي مراهق طائش لا يهتم سوى بتنفيذ نزوته الطارئة فحسب أو كانه مأخوذًا بنسيم الحرية غير المسبوق الذي ذاقه لأول مرة في حياته. لكن هل فكر هادي بالفعل في ثمن الحرية الذي يتعين عليه دفعه في المقابل، وكان هذا بالفعل هو سبب إحجامه في النهاية عن اتخاذ تلك الخطوة المصيرية بشأن حياته ومستقبله؟

وهذا يدفعنا إلى التساؤل أيضًا حول دور ريم القصير في حياة هادي، فالبرغم من أن ريم تمثل كل ما حُرم منه هادي، فهي الحب والحياة الصاخبة والجنس والانفتاح على العالم والسفر والحرية والمغامرة ودفء الأثنى إلى آخره، لكن هل أحبها هادي بالفعل؟ لِمَ لم يطرح هادي على نفسه هذا السؤال الجوهري الخطير ولماذا حتى لم تطرحه ريم عليه أو على نفسها؟ هل كان الأمر بينهما مجرد نزوة عابرة أم حب حقيقي صادق أم مجرد افتقاد أو تعويض لما ينقصه ويفتقده في حياته؟ وإن كان الأمر كذلك بالنسبة له فماذا عنها؟ كل تلك الأسئلة المحورية في الفيلم والمتعلقة بحياة هادي وشخصيته، والتي من المفترض أنها ترسم علاقته بمن حوله، لاسيما خطيبته التي هجرها، وحبيبته التي خذلها، لم يتم تعميقها ولا الإجابة عنها أو حتى توضيحها.

لقد استطاع محمد بن عطية أن يعمل على إبراز الكثير من التفاصيل الصغيرة، التي كان من المفترض أن تُسهِمَ في تعميق شخصية هادي وغيرها من شخصيات الفيلم، لكنها في النهاية لم تُسهِمَ سوى في إضافة القليل. والشخصية الوحيدة التي أحسسنا بالفعل أنها مرسومة بعمق وقوة، ومن لحم ودم، وليست خيالية بالمرة، هي شخصية الفتاة ريم، وقد أجادت بالفعل الممثلة ريم بن مسعود في تجسيد تلك الشخصية، وأكتسابها الكثير من المصداقية والحيوية، بعكس مجد مستورة الذي بذل بالفعل جل ما في وسعه كي تخرج شخصية هادي على نحو نموذجي من حيث الإقناع، وكي يُحدث النقلة المُقنِعة بين شخصية هادي قبل وبعد دخول ريم لحياته، لكن الأداء كان يخونه في غير موقف ومشهد بالفيلم.

بالفيلم بعض الإسقاطات التي تُحيل إلى واقع تونس الآن، مثل، بعض التلميح السياسي غير المباشر لنموذج والد خطيبة هادي، الذي ألقي القبض عليه لأسباب سياسية، وأيضًا، الأم كبديل للسلطة الأبوية أو الدولة الأم، وهناك أكثر من إشارة للجانب الاقتصادي، حيث ندرة مبيعات السيارات البيجو بالشركة التي يعمل بها هادي، وحسد الشباب له بالمقهى لأنه سيتزوج ولديه وظيفة وبيت. بالإضافة إلى المنتجعات والشواطئ شبه الخالية من الرواد والسياح، في إشارة إلى تدهور السياحة بعد الأحداث الإرهابية التي عانت منها تونس، وأيضًا بعض الدول العربية، خاصة بعد ثورات الربيع العربي. كل تلك الإسقاطات حاولت أن تلمس حالات الاضطراب والقلق والتمزق بين الماضي والمستقبل، وأيضًا فقدان البوصلة، وهو ما تعاني منه، منذ سنوات، أغلب بلدان المنطقة وشعوبها، لكن الأوضاع بتونس الآن، ومجتمعات المنطقة العربية بصفة عامة، بالقطع أكثر تركيبًا وتعقيدًا من هذا الطرح أو تناوله بتلك الكيفية.

بالطبع لم يسقط فيلم “نحبك هادي” في فخ الميلودراما السطحية والمباشرة والأداء السينمائي الفج. إنه فيلم درامي اجتماعي عادي شديد البساطة عن الأسر المُماثلة لأسرة هادي، بخلاف أن الأب عادة يكون هو المُتسلط ومن يُمارس سلطته على الأبناء، خاصة لو كانت ابنة. وتلك الأسر التي توجد بها شخصية مثل شخصية هادي كثيرة جدًا في عالمنا العربي، ولا تُشكل أي استثناء. بالفيلم أيضًا بعض المرح، والمشاهد الطريفة غير المفتعلة. لكن لو جردنا قصة الفيلم من كل تلك الجوانب أو المميزات، وركزنا على الدراما والشخصية، فسنجد أنها بالقطع تفتقر للكثير، فقصة هادي ليست اختيار بين الواجب والتقاليد وطاعة الأهل، وبين نزوة عابرة وانقياد تام للقلب والمشاعر والحرية، فمشكلة هادي الحقيقة مع ذاته بالأساس قبل المحيط من حوله. وقد كانت هناك احتمالية كبيرة لتعميق شخصية هادي وجعلها أيقونة سينمائية لو بدأ الفيلم من حيث انتهى، حيث نصحب هادي في الطريق الشاق الذي سيختاره، أيًا كان.

ليس ثمة شك في أن فيلم “نحبك هادي” يعتبر بداية قوية ومُشجعة للغاية لمخرجه من بن عطية، فالفيلم لا يُعاني الكثير من المُشكلات التقنية التي عادة ما تُصاحب الأفلام الروائية الأولى لمُخرجيها، فقط باستثناء أن محمد بن عطية بحاجة لاكتشاف صوته الخاص به وجمالياته الفنية وكادراته التي تميزه، وعدم التأثر لا على مستوى الكتابة أو التصوير أو التنفيذ بغيره من المخرجين، والاهتمام مُستقبلا بتلافي بعض مشكلات التصوير التي كانت بارزة ومُزعجة بعض الشيء في الفيلم، والتي بدت على سبيل المثال في التصوير الخلفي لرؤوس الممثلين ومنطقة القفا، خاصة هادي، وغيرها من اللقطات التي لم تكن مُريحة للعين أو غيرها من الكادرات القريبة والمتوسطة التي لم تتسم بأي قدر من الجمالية أو التجديد والابتكار.