محمد هاشم عبد السلام
في رصيد المخرج التشيكي “يان هيربيك” العديد من الأفلام الروائية والتسجيلية، وإن غلبت الأفلام التليفزيونية على إنتاجه الغزير الذي تجاوز الثلاثين عملا، رغم أنه من مواليد عام 1967. وقد حمل أحدث أفلام المخرج التشيكي عنوان “المُعَلِّمَة”، وهو من الإنتاج التشيكي السلوفاكي المشترك. وقد شارك الفيلم في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة الحادية والخمسين من مهرجان كارلوفي فاري، وفازت بطلته بجائزة التمثيل عن جدارة واستحقاق.
إن فيلم “المُعَلِّمَة“، ليس فيلمًا عمّا يطلق عليه الفقر الأخلاقي، لأن النموذج الذي يطرحه الفيلم لا يتسم بأي قدر من الأخلاق بالمرة، ناهيك عن الشعور بالندم أو حتى تأنيب الضمير. كما أنه ليس فيلمًا عن الماضي والممارسات التي كانت تحدث بإحدى البلدان في فترة الحكم الشيوعي أو عن فساد التعليم، والمتمثل في تلك المعلمة القادمة من قلب السلطة والمحتمية بها، فهو يتجاوز كل هذا الطرح المباشر، لآخر يتناول، من بين ما يتناوله، الخوف من بطش السلطة من ناحية وجهة أخرى التضامن في مواجهتها.
يقوم فيلم “المُعَلِّمَة”، المأخوذ عن قصة حقيقة قام بكتابة السيناريو لها “بيتر يارخوفسكي”، على كتفي الممثلة البارعة بالفعل “سوزانا موريري”، والتي تؤدي في الفيلم دور المُعلمة المُتجبرة والمُتسلطة “ماريا درازديشوفا”، التي تستمد قوتها وجرأتها تلك، من شبكة نفوذ واتصالات واسعة ومتشعبة تربطها بأصحاب أعلى الدرجات والمناصب بالحزب الشيوعي. وقد انتقلت ماريا حديثًا للعمل في إحدى المدارس النائية في ضواحي براتيسلافا، وذلك في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، وقبل سنوات قليلة من سقوط الشيوعية وانهيار الحزب سطوته.
كان أول شيء فعلته ماريا في أول حصة لها هو سؤال التلاميذ عن أسماء آبائهم، ثم المهن التي يمتهنها أولياء أمورهم أو الأعمال التي يقومون بها من أجل كسب عيشهم. ثم أخذت في تدوين المعلومات في دفترها الخاص. بعد ذلك، راحت تتخير من بين هؤلاء الأسماء أصحاب المهن والحرف والمناصب الأكثر أهمية ونفعًا بالنسبة لها، بحيث يمكنها في النهاية تحقيق أقصى قدر من الاستفادة المجانية منهم، حتى وإن كان الأمر لا يتجاوز مجرد قص شعرها أو تنظيف شقتها أو تصليح شيء خرب بها، أو استخدام التلاميذ في أغراض التسوق وغيرها من الأمور، التي قد تعتبر في النهاية، في نظر بعض الآباء، من قبيل المجاملة أو الخدمات المُتجاوِزة بعض الشيء.
ومع الوقت استطاعت ماريا أن تقوم بتكوين عدة علاقات واسعة ومتشعبة للغاية، تمتد من أعلى أصحاب المناصب في المدينة وحتى أصغر الحرفيين فيها، وفي المقابل، كانت ماريا بطبيعة الحال تمنح أبناء هؤلاء أعلى الدرجات في المواد الدراسية. بالطبع، لم يكن الأمر من وجهة نظر ماريا يتعدى كونه مجرد إسداء بعض الخدمات والمساعدات والرعاية والاهتمام، لمجرد امرأة بسيطة مسكينة أرملة ضابط عسكري رفيع المستوى، تعاني من الوحدة نظرًا لاغتراب شقيقتها خارج البلاد. وأن الأمر في النهاية لا يمت بصلة إلى أي نوع من أنواع الابتزاز أو الاستغلال أو الرشوة أو الفساد، والتي تصب كلها في خانة الانهيار الأخلاقي وخراب الذمم والضمائر.
وبالرغم من تزايد الإزعاجات التي تسببت فيها ماريا وذيوع سمعتها السيئة بين أولياء الأمور والتلاميذ، ومن ثم المدرسة والإدارة التعليمية، لكن لم يجسر الجميع على التحرك أو التصدي لها والوقوف في وجهها، وكأنها تمسك بسيوف تسلطها على رقابهم، حتى عندما حاولت التقرب عاطفيًا وإلقاء حبالها حول أحد أولياء الأمور الذي انفصل مؤخرًا عن زوجته، وظننا أن تلك هي النقطة الفاصلة التي ستقلب حياتها رأسًا على عقب وتهدد حياتها المهنية، وجدنا أن ولي الأمر لم يستطع في نهاية المطاف سوى صدها على نحو فيه الكثير من الخنوع والضعف وقلة الحيلة، المغلفين بغلاف من الذوق والكياسة واللطف.
الشخص الوحيد الذي حاول تحت ضغط شديد التصدي لماريا هو “مريك كوسيرا”، الذي كان قد حاول من قبل الرضوخ إليها ومجاراتها في طلباتها الشاذة التي كانت ستؤدي إلى خسارته لوظيفته. فبعدما علمت ماريا أنه يعمل محاسبًا بالمطار، ورغم يقينها بأنه ليس طيارًا أو مضيفًا بل مجرد موظف عادي، طلبت منه توصيل بعض الكيك والحلوى والمعجنات إلى شقيقتها خارج البلاد، وهو أمر ممنوع ومحرم. وبالفعل يعجز الأب عن هذا تمامًا بعدما حاول، تحت ضغط الابنة والأم، لكي لا تتعرض ابنته “دانكا” للبطش. هذا العجز يؤدي إلى ثوران المُعملة، وانفجارها في وجه الفتاة، التي حاولت الرد والدفاع عن نفسها ووالدها بكل شجاعة، لكنها لم تلق سوى التعنيف والتوبيخ والسباب وسط زملاء الفصل.
تلك الفتاة التي لم يتجاوز عمرها الثانية عشر، والمتفوقة في لبعة الجمباز، تُقدِم على محاولة الانتحار بالغاز أثناء تواجد والديها بالخارج. وهو الأمر الذي أشعل الأمور، ودعا الأب والأم إلى اتخاذ ذلك القرار الحازم، رغم عواقبه الوخيمة عليهما وعلى ابنتهما، بضرورة التصدي لتلك المعلمة حفاظًا على حياة ابنتهما وغيرها من التلاميذ، الذين يعانون منها ومن تصرفاتها وطلباتها، والذين قد يقعوا ضحايا لها في المستقبل في حال إقدامهم على أفعال تماثل ما فعلته ابنتهما. إن ذلك الحادث، برغم هوله، لم يبث الرعب في أنفس الآباء أو المعلمة أو المديرة. ولذا، نجد والدي الفتاة، في المشاهد الافتتاحية من الفيلم، يجلسان ومن حولهما مجموعة من الآباء بأحد الفصول ليلا، من أجل التباحث والتناقش في أمر المعلمة، وحث الجميع على الخروج بقرار نهائي ضدها، وذلك بعد سرد وكشف كافة الوقائع أمام مديرة المدرسة ونائبتها.
وبداية من هذه المشاهد وحتى قرب نهاية الفيلم، يبني المخرج فيلمه مستعينًا بخاصية الفلاش باك الذي يطلعنا على حالة أو قصة كل أب وأم ومعاناتهما ومعاناة ابنهما او ابنتهما مع المدرسة وأفعالها، ثم العودة مرة أخرى إلى حيث يتناقشون بجدية تارة، وحدة تارة أخرى، وإن غلب على النقاش والحوار طابع الخوف وعدم الرغبة في الإقدام على أي فعل عقابي تجاة المعلمة. وهو، أيضًا، ما تحثهم عليه المديرة بعدم إبداء رغبتها في جعل الموضوع يتحول إلى فعل عقابي تتحمل هي بعض تبعاته. والمثير في الأمر أنه من بين هؤلاء الآباء، الذين يجمعون على إدانة سلوكها، وإن تشاحنوا فيما بينهم على مدى فداحته، نرى أيضًا بعض الموالين لتلك المُعلمة والذين يقفون بالفعل في صفها عن صدق واقتناع.
وقد تمكن المخرج من تنفيذ مشاهد اجتماع مجلس الآباء بحرفية بالغة، نقلت لنا الحالة النفسية التي كانوا عليها من تشاحن ناجم عن الخوف والخشية من تبعات القرار، ومدى ترددهم في التوقيع على العريضة التي تدين المعلمة، إلى جانب خوف البعض الآخر من التحدث بصورة كاملة وشاملة، ثم ارتياح المديرة البالغ لانتهاء الاجتماع بذلك التنابذ والتشاحن فيما بينهم وعدم الوصول إلى قرار جماعي في النهاية، بعد توقيع القليل منهم على تلك العريضة، ضد المعلمة. ذلك الارتياح سرعان ما سينقلب بعد توجهها إلى مكتبها، مع قرب انتهاء الفيلم وسرد كافة القصص، إلى كابوس راح يزحف تجاه مكتبها ببطء حثيث، إذ نفاجأ بعودة أولياء الأمور خلسة وفرادى، إلى مكتبها من أجل التوقيع على العريضة.
إن فيلم “المعلمة” هو بالفعل من نوعية الأفلام الجديرة بالمشاهدة والاهتمام واستخلاص الدلالات منها على أكثر من مستوى، وهنا يتجلى على نحو خاص ما يتعلق بالمستويين السياسي والنفسي، حيث خشية الأفراد أو الجموع من بطش السلطة وتبعات أي ردود أفعال قد تشى بقدر من الحرية أو التمرد أو الثورة ضد ظلم السلطة وجورها، إضافة إلى كشفه لنفسيات الأفراد أو الجموع وكيفية تصرفها على نحو فردي أو جماعي في حال مواجهتها لخطر مُحدق قد يعصف بوجودها. والفيلم في الوقت نفسه لا يخلو من مسحة كوميدية، لكنها كوميديا سوداء، إن جاز التعبير، نابعة دون أي تزييف أو افتعال من صميم الدراما ذاتها، ومن المواقف المختلفة والمفارقات التي يؤديها جميع الممثلين بالفيلم، وهي التي أسهمت في النهاية في ارتقاء الفيلم، بعض الشيء، إلى مستوى يتجاوز الأفلام التليفزيونية، والفضل في هذا بالأساس يعزى للسيناريو المكتوب بدقة وإحكام وجاذبية.