برلين – محمد هاشم عبد السلام

 

في إطار المسابقة الرسمية للدورة الخامسة والستين من مهرجان برلين السينمائي الدولي، عرضت خلال اليوم في قصر المهرجان ومجمع السينمات ثلاثة أفلام، هي “تاكسي” للمخرج الإيراني جعفر باناهي، و”ملكة الصحراء” للمخرج الألماني فيرنر هيرتزوج، و”45 عامًا” للمخرج الإنجليزي أندرو هاي.

 

تاكسي

بتصفيق حار، لمرتين متتاليتين، استقبل جمهور البرينالة اليوم، أحدث أفلام أحد أشهر المخرجين الإيرانيين الكبار، جعفر باناهي، الذي حمل عنوان “تاكسي”، وهو الفيلم الخامس عشر في تاريخ باناهي الإخراجي. وبطل الفيلم هو المخرج نفسه، متقمصًا شخصية سائق سيارة أجرة، يضع نظارة شمسية وقبعة لإخفاء هويته.

عبر تلك الفكرة البسيطة في محتواها، والتي تشكل قوام الفيلم، الذي امتد لساعة وثلث الساعة تقريبًا، تحدى المخرج جعفر بناهي السلطات الإيرانية، والقضاء الذي حكم عليه حكمًا قاسيًا بعدم مزاولة مهنة الإخراج السينمائي أو كتابة السيناريوهات أو إجراء محادثات أو مغادرة البلاد لمدة عشرين عامًا.

وبالرغم من كل هذا، ها هو جعفر بناهي يتحدى بفنه كل القيود، ويعبر بفيلمه الحدود إلى حيث التنافس في المسابقة الرسمية بكبرى المهرجانات الدولية، دون أن يعبأ بعواقب هذا الأمر، الذي بدأت تبعاته باحتجاج قدمته الحكومة الإيرانية لإدراة المهرجان بشأن السماح بعرض الفيلم.

عبر كاميرا خفية موضوعة بجوار عجلة القيادة يوجهها جعفر عندم تقتضي الضرورة، يرصد لنا في فيلمه عبر شخصياته المتعددة التي تتناوب على ركوب السيارة، والتي تمثل شرائح متفاوتة من المجتمع الإيراني، الكثير من القضايا التي تعكس، دون شك، أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية والفنية أيضًا داخل المجتمع الإيراني، بقدر كبير من الجدية والطرافة أيضًا.

 

ملكة الصحراء

يطل علينا المخرج الألماني الكبير فيرنز هيرتزوج بعد غياب تام عن السينما لما يقترب من ستة أعوام متواصلة بفيلمه الروائي الطويل، أكثر من ساعتين تقريبًا، “ملكة الصحراء”، الذي كتب له السيناريو استنادًا إلى السيرة الذاتية التي كتبتها المستكشفة البريطانية “جيرترود بيل”، والتي جسدتها ببراعة النجمة نيكول كيدمان.

فيلم هيرتزوج فيلمًا سيريًا بامتياز، يكشف لنا نحن العرب عن شخصية محورية، غير معروفة للغالبية العظمى، لعبت دورًا لا يقل أهمية عن دور لورانس العرب، لكن على نحو إيجابي، إن جاز لنا التعبير. وقد ظهرت شخصية لورانس في عدة لقطات بالفيلم حيث التقت أكثر من مرة بجيرترود بيل. ويمكن لنا القول إن فيلم “ملكة الصحراء” هو نسخة مقابلة من فيلم “لورانس العرب” للمخرج القدير لديفيد لين، لكن على الطريقة الهيرتزوجية.

وجيرترود بيل مصورة فوتوغرافية، وباحثة أثرية وكاتبة، من بين أشياء أخرى عديدة، لكنها قبل كل شيء امرأة فريدة ومتميزة فضلت ترك الحياة الناعمة في بريطانيا والعيش في الصحراء واستكشافها ومخالطة أهلها وأناسها وتعلم لغتهم والتحدث بها، والبقاء بينهم في أمان وسلام نفسي وروحي بعيدًا عن الحياة المدنية والمجتمعية في بلدها.

لم يمض فيلم هيرتزوج، الملحمي، على نحو خطي منذ البداية إلى النهاية. فقد افتتحه في القاهرة عام 1914 ووينستون تشيرشل ومن معه من القيادات يقسمون المنطقة العربية بعد انهيار الامبراطورية العثمانية بعد بداية الحرب العالمية الأولى. ثم يعود بنا اثنتي عشر عامًا لتتبع حياة جيرترود، حتى ذيوع شهرتها في وتلقيبها بملكة الصحراء، ثم يختتمه مرة أخرى بتشيرشل يتلقط صورة تذكارية أمام أبي الهول والأهرامات.

وفيلم هيرتزوج لم يسقط إلى حد كبير في فخ السياسة المغري، ولا غرق كثيرًا في رصد التقاليد الفلكورية الصحرواية بغية تقديم فيلم استشراقي فلكلوري، وإنما فضل الغوص أكثر في شخصية جيرترود، التي لا تختلف دون أدنى شك عن الكثير من الشخصيات التي قدمها هيرتزوج من قبل في أفلامه.

والتي يشبه إلى حد كبير تلك الشخصيات الخالدة التي قدمها لنا الأديب الأمريكي الكبير “بول بولز” في أدبه، حيث الإلقاء بالنفس في غياهب المجهول، دون خشية الضياع أو الموت، بغية التواصل مع النفس والتعرف عليها عن كثب، وسط الصفاء النفسي والروحي للصحراء. وقد نجح هيرتزوج القدير في أن يتحدى تلك المشاهد الجميلة التي سبق أن قدمها لنا المخرج الكبير بيرناردو بيرتولوتشي في فيلم الرائع “السماء الواقعية”، عن رواية بول بولز.

 

45  عامًا

على امتداد خمسة أيام تسبق احتفالهما بمناسبة عيد زواجها الخامس والأربعين، يرصد لنا المخرج البريطاني أندرو هاي، في فيلمه الروائي الثالث، “45 عامًا”، على نحو مكثف حياة الزوجين “كيت ميرسر” الممثلة القديرة شارلوت رامبلينج و”جيف ميرسر” الممثل المتميز “توم كورتيناي”، والتي تنقلب رأسًا على عقب بعد وصول رسالة إلى توم.

تلك الرسالة، التي كان من الممكن أن تمر مرور الكرام، يتخذها المخرج تكأة ليبني عليها تداعيات سبقت لقاء وزواج جيف وتوم، بأكثر من خمسين عامًا. في أول الأمر، تتعامل معها جيف على أنها ماضي مات ودفن مع تلك المرأة وسط الجليد قبل خمسة عقود. لكن الأمور سرعان ما تتطور وتتخذ منحًا خطيرًا تتزايد وتيرته تدريجيًا مع توالي الأيام التي تسبق الاحتفال.

ثمة أسئلة كثيرة وعميقة بطبيعة الحال يطرحها الفيلم، مثل التعايش والصدق في العلاقة والماضي إطلالته مجددًا وأيضًا تبعاته، والحب الأول في حياة الإنسان، ومن أهمها بالطبع قدرة المرء على الاستمرار في الحياة ومواصلة العلاقة بعد سنوات جد طويلة، كذلك واتخاذ قرارت مصيرية حاسمة، في تلك السن المتأخرة.