محمد هاشم عبد السلام
يعتبر كتاب “سينما ألكسندر سوكوروف: شخصياته المتناقضة”، للباحث والناقد السينمائي جيرمي شانيفسكي، أول كتاب يكتب باللغة الإنجليزية عن المخرج الكبير ألكسندر سوكوروف. ويتناول مؤلف الكتاب بالنقد والتحليل الأفلام الروائية الطويلة لأحد أهم وأروع، إن لم يكن أصعب، صناع السينما الروس الكبار في زماننا.
وقد انقسم الكتاب، بعد المقدمة، إلى خمسة عشر فصلا متفاوتة الصفحات، أعقبتها خلاصة، وأخيرًا حاشية كبيرة بعض الشيء، انقسمت لقسمين عبارة عن حوارين أجراهما المؤلف مع المخرج على سنوات متباعدة من تأليفه للكتاب.
وقد حملت فصول الكتاب والمقدمة العناوين التالية: “الجزء واللانهائي أو فرضية المصطلح الثالث في سينما ألكسندر سوكوروف”. الفصل الأول “صوت إنسان وحيد: دندنة مفردة، أصداء متعددة”. الفصل الثاني “البرود الحزين: نهاية العصر الحديث”. الفصل الثالث “أيام الكسوف: وداعًا، بابل، وداعًا، تاركوفسكي”. الفصل الرابع “الحفظ والحماية: عن الملائكة والذباب”. الفصل الخامس “الدائرة الثانية: الشتاء، والضوء، والتسامي الحميم”. الفضل السادس “الحجر: لا عودة للبيت”. الفصل السابع “صفحات هامسة: الموت، العدم، الذاكرة”.
الفصل الثامن “أم وابن: إلغاء الزمن، تجلي الزمن”. الفصل التاسع “مولوخ: آدي (وحواء): الخوف يأكل الروح”. الفصل العاشر “الثور: الأب، أين أنت يا فن؟”. الفصل الحادي عشر “الفُلك الروسي: مرثية إمبراطورية”. الفصل الثاني عشر “أب وابن: وراء الألفة المطلقة”. الفصل الثالث عشر “الابن: الإنسانية الأيقونية”. الفصل الرابع عشر “ألكسندرا: العودة إلى ما لم يكن وغموض الرومانسية”. الفصل الخامس عشر “فاوست: فالس سوكوروف”.
وقد حملت الحاشية العنوان التالي: “عن شاعرية المكان في ثلاثية سوكوروف (مولوخ / الثور / الشمس / فاوست). ثم خلاصة. وأخيرًا حاشية إضافية (أ): مقابلة مع ألكسندر سوكوروف أجرت عام 2005، وحاشية إضافية (ب): مقابلة مع ألكسندر سوكوروف أجريت عام 2013. وختامًا، قائمة بأفلام المخرج حتى وقت صدور الكتاب.
إن الكتابة عن المخرج الروسي الكبير ألكسندر سوكوروف، أحد أكثر المخرجين المعاصرين غزارة، ليست هينة بالمرة، هكذا يكتب مؤلف الكتاب في مقدمته. وهو محق بالفعل، لأن التصدي بالنقد والتحليل لأفلام سوكوروف أمر جد صعب، لكن تلك الصعوبات تتلاقى كلها وتصب في النهاية في ميزة واحدة: سوكوروف فنان بحق، عميق الثقافة وغزير الاطلاع، من القلائل الذين يغوصون عميقًا فيما وراء التجارب الإنسانية والشخصية لسبر أغوارها، إلى جانب أننا كثيرًا ما نجد أعماله تردد صدى القضايا السياسية والاجتماعية التي تنتمي إما لزماننا أو الحقبة السوفيتية على أبعد تقدير.
وبالرغم من الصورة أو الرؤية البصرية والفكرية الكامنة في أفلام سوكوروف، إلا إنها بالفعل لا تنفصل عن القضايا السياسية والاجتماعية. وذلك ما بينه لنا مؤلف الكتاب في العديد من فصوله. كذلك أورده على لسان المخرج الشهير، الذي، وعلى النقيض من الكثير من الفنانين الحقيقيين، يعلن اهتمامه البالغ بالسياسة التي تشغل مكانًا مركزيًا في سينماه. وكيف أن العديد من أفلامه يمكن، بل وينبغي، قراءتها أيضًا كرموز سياسية، لكن من دون تعمد. فيلم “فاوست” (2011)، على سبيل المثال، تعرض لتبعات العلاقات المعقدة بين روسيا وألمانيا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وهو تقريبًا نفس ما يعكسه فيلمه “البرود الحزين” (1983)، حيث رصده المماثل لانهيار الاتحاد السوفيتي.
إن الإخفاق في الاقتراب من عالم سوكوروف، وتناوله على النحو الملائم، ووفقًا لشروطه، كان من الممكن جدًا أن يفضي بالمؤلف إلى أن يخفق بسهولة في الوصول إلى هدفه، ومن ثم نضل الطريق لفهمه. لكن المؤلف جيرمي شانيفسكي نجح في كتابه الرائع حقًا، في تجنب هذه المشكلة، على امتداد الكتاب الذي يتجاوز حجم صفحاته المئتين وخمسين صفحة، وذلك عبر رصده لتيمة واحدة رئيسية في أفلام سوكوروف، ومحاولته استجلائها، إلى جانب العديد من التيمات الأخرى الفرعية بالطبع، وتلك التيمة اختار لها المؤلف أن تحمل العنوان الفرعي للكتاب، “شخصيات متناقضة”.
وتلك، تتبدى لنا جلية في الفصل المخصص لفيلم “ألكسندرا”، على سبيل المثال، حيث القصة الغريبة لتلك الروسية المُسنة التي تزور معسكرًا للجيش في الشيشان. وفيه يرفض المؤلف فكرة أن ألكسندرا فيلم لا يتحرج من الدعاية الداعمة والمبررة لعمليات وتصرفات الجيش الروسي هناك، لأنه في الوقت نفسه يُفسد ويُخرب ذلك الموقف الإيدولوجي بتبنيه مثلا إنسانية تدعم وفي الوقت نفسه تواجه الأجندة السياسية الروسية.
الفصل الذي يتناول بالنقد والتحليل فيلم “أب وابن” (2003)، يعتبر من أهم وأقوى فصول الكتاب. وينطلق فيه من اللقطة الافتتاحية التي يحضتن فيها الاب ابنه طويلا، ويأخذ في تحليلها على جميع المستويات، النفسية والاجتماعية والجنسية وحتى العسكرية، حيث التأييد الجارف للنزعة الوطنية والقومية للبلاد، وسياسة رئيسها بوتين، لكنه ينتهي إلى رصد التناقضات التي تنتهي باتساع الفجوة بين ما هو أبوي وما هو سلطوي بطبيعته.
ونفس هذا التحليل العميق والمتشعب، نقرأه في الفصل الذي يحلل فيه فيلم “الفُلك الروسي” (2002)، وقد حمل الفصل عنوان “الفُلك الروسي: مرثية إمبراطورية”. في هذا الفيلم، الذي يبلغ زمنه مئة دقيقة مُصورة في لقطة واحدة ممتدة، تتجول بنا عبر الحقب الزمنية المختلفة تاريخيًا ومكانيًا، حيث صالات وقاعات وطرقات وأروقة متحف الأرميتاج، يلاحظة المؤلف ابتعاد المخرج عن كل ما يتعلق تقريبًا بالفترة السوفيتية. بينما يحتفي، بقدر من الحنين الواضح، بكل تلك العظمة التي للماضي الروسي، فيما يبدو أنه الوداع الأخير لفترة مضت إلى غير رجعة، ومن ثم رصد الفجوة الواسعة والتناقض الجلي بين الماضي والحاضر.
ثم فيلم “أم وابن” (1997)، الذي يمثل نقطة تحول حقيقية في الكتاب، وكذلك في مسيرة سوكوروف المهنية، والذي كان سببًا رئيسيًا في ذيوع اسمه أكثر على المستوى العالمي وانتشار أفلامه على نحو واسع في مختلف القارات، وفي الآن نفسه دخوله في علاقة غريبة ومعقدة مع السلطة. حيث تحوّل من مخرج، وحيد، منعزل منشق، مغضوب عليه، تضيّق عليه الرقابة وتخنقه السلطة خلال السنوات الأخيرة للنظام السوفيتي، بينما شرع في تنفيذ رباعيته، “مولوخ” (1999) عن هتلر، و”الثور” (2001) عن لينين، و”الشمس” (2005) عن هيروهيتو، وفاوست (2011)، وكيف أصبح تدريجيًا نوعًا من الفنانين الرسميين الممثلين لروسيا الجديدة البوتينية، وذلك في مقابل الاحتفاء والدعم المتزايدين له من جانب الدولة. باختصار، من مهمش يعيش على الهامش، لمخرج وجد نفسه فجأة في القلب. ومن هنا ينبع ذلك التناقض الذي راح يبرز بوضوح أكثر في بعض أفلامه الأخيرة.
إلى جانب الازدواجية أو التناقض للشخصيات، يرصد الكتاب أيضًا التناقض بين السمات الرئيسية لسينما سوكوروف. وبرغم هذا النهج الجديد المغاير للاقتراب من أفلامه وتناقضاتها، لكن المؤلف أسهب إلى حد كبير في رصد وتضخيم تلك التناقضات وعقد المقارنات أيضًا التي كان موفقًا في بعضها وغير موفق في البعض الآخر. فقد جانبه الصواب بعض الشيء فيما يتعلق بالمقارنة بين سوكوروف وفاسبيندر وبريسون وبرجمان، لا سيما وأنها لم تضف الكثير أو تعمق شيئًا بخصوص سوكوروف وسينماه.
في حين كان موفقًا فيما يتصل بتاركوفسكي، الذي كرّس فصلا من الكتاب للمقارنة بينه وبين تاركوفسكي بعنوان “أيام الكسوف: وداعًا، بابل، وداعًا، تاركوفسكي”. وقد اختتم المؤلف ذلك الفصل بعدما اقنعنا بانتفاء تلك الأكاذيب أو الأقوال غير الدقيقة التي ترددت كثيرًا عن أن سوكوروف ما هو إلا مجرد وريث لتاركوفسكي وسينماه، بينما هو محض تلميذ مخلص سار بعض الوقت على درب خير سلف له.
وقد فعل المؤلف الشيء نفسه تقريبًا في الفصل الرابع “الحفظ والحماية: عن الملائكة والذباب”، الذي عقد فيه مقارنة بين العملية الإبداعية عند المخرج سوكوروف، وعند الأديب جوستاف فلوبير مؤلف رواية “مدام بوفاري”، التي أخرجها سوكوروف تحت عنوان “الحفظ والحماية” عام 1989، وأخذ يُبرز أوجه التشابه والتناقض فيما بين المبدعين وأسلوبهما.
يعتبر الحواران المنشوران بنهاية الكتاب مع المخرج ألكسندر سوكوروف، واللذين تجاوزا خمسة وعشرين صفحة، من أهم فصول الكتاب، حيث يتحدث المخرج إلى المؤلف عن العديد من النقاط التي أثارها الكتاب في فصوله المتعددة، وفي الآن نفسه ناقش معه القضايا التي تطرحها سينماه وأفلامه على وجه الخصوص ورؤيته الحياتية والفنية.
وفي أحد الحوارين كشف سوكوروف عن أن السينما، الآن، بالنسبة له، مجرد وظيفة، في حين أن ميوله الحقيقية في مكان آخر، على وجه التحديد، في الرسم والأدب والموسيقا، وبشكل أعم “الفن الجاد”، وأنه يُفضل أن يكون ذلك الفن سابقًا على تاريخ حدده بعام 1900.
حصل الناقد والباحث جيرمي شانيفسكي على درجة الدكتوراة من جامعة ييل في السينما والدراسات السلافية. وهو مخرج سينمائي مُستقل يعيش ويعمل في لوس أنجيليس، بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد اشترك في تحرير كتاب “معجم السينما العالمية: بلجيكا”، الذي صدر في عام 2013.