محمد هاشم عبد السلام

 

30/1/2015 

 

على امتداد عرض فيلم “القيادة في القاهرة” للمخرج شريف القطشة، تجد نفسك مدفوعًا للتساؤل الدائم عن الكيفية التي سينهي بها المخرج فيلمه هذا، الذي يبدو لنا من خلال مادته الثرية أنها لن تنتهي أبدًا. ومع اقتراب الفيلم من نهايته تتأكد من أن ثمة نهاية حتمية لا بدو وأن ينتهي بها الفيلم، تلك النهاية الحتمية من المؤكد أن تكون، كي تكتمل الصورة التي يطرحها الفيلم، نهاية كارثية، وقد كان.

يفتتح شريف القطشة فيلمه بمجموعة لقطات علوية مأخوذة من فوق أحد الكباري، يرصد من خلالها الحركة المرورية بأهم ميادين مصر، ثم يأخذ في الإسراع من وتيرة اللقطات كي يكثف لنا بالصورة ما يرغب الفيلم في تصديره لنا، وذلك بعدما وضع عدة عناوين افتتاحية تفيد بأن القاهرة مدينة يعيش فيها عشرين مليون مواطن وتسير بها أربعة عشر مليون مركبة متنوعة.

يتناول فيلم “القيادة في القاهرة” قضية بالغة الأهمية والحيوية تمس المجتمع المصري، وبالتحديد القاهري، وهي القيادة والطرق والمواصلات في العاصمة المصرية، تلك المشكلة المستعصية على جميع المستويات، والتي تعتبر من أهم العناصر المشتركة بين القاهريين، وتمثل قاسمًا أعظم يومي لا يثفرِّق بين الكبير والصغير أو الغني والفقير المُتَرَجِّلُ أو الراكب.

وقد أراد المخرج من خلال هذا الموضوع وعلى امتداد ساعة وثلث الساعة هي زمن الفيلم، التطرق لمناقشة العديد من القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المهمة التي تمس حياة المواطن القاهري مع مطلع كل شمس. وذلك عبر تتبعه لعدة خيوط سردية أساسية تتبع مسارها حتى النهاية، إلى جانب بعض الخطوط الفرعية التي فرضتها ظروف السرد أو التقطتها الكاميرا مصادفة وشكلت جانبًا مهمًا لما أراد الفيلم أن يرصده.

وعبر الخطوط الرئيسية للفيلم عرض لنا المخرج مجموعة من المشكلات التي يعانيها أفراد تصادف امتلاكهم أو رغبتهم في امتلاك أو تعلم القيادة والحصول على الرخصة اللازمة لذلك، ومبرارات كل شخصية من الشخصيات التي نجد أنها في النهاية تصب مرة ثانية في المشكلة الرئيسية. فتلك السيدة التي ترغب في تعلم القيادة تريد بذلك تحاشي الازدحام المروري والتعطل عن العمل أو تلك التي ترغب في توصيل الأبناء إلى المدارس في مواعيدهم دون خوف عليهم أو تلك الراغبة في تحاشي مشاكل المواصلات العامة ومضايقاتها فتلجأ لتعلم القيادة وشراء السيارة، ليكتشف هؤلاء بعد مرور الوقت أن المشكلة الأساسية لم تحل.

ومن أجل الانتقال بين الخطوط الرئيسية والفرعية بالفيلم وتعميق إحساسنا بالمشكلة، لجأ المخرج للكثير من اللقطات المصورة لأغلب طرق وميادين القاهرة سواء من لقطات علوية من أماكن مرتفعة أغلبها من فوق الكباري أو من داخل السيارات أو من فوق الدراجات البخارية أو حتى اللقطات الأرضية التي كادت الكاميرا فيها أن تلامس الأسفلت، وأغلب تلك اللقطات في حد ذاتها تشكل تهديدًا كبيرًا حتى وأنت تراها على الشاشة لفداحة ما تراه من سلوكيات واستهانة بأبسط قواعد السير والقيادة الآمنة في شوارع المفترض أن آدميين يسيرون بها، ولتعميق ذلك الأثر المفجع وحتى المثير للضيق والاختناق كأنك تسير بتلك الشوارع لجأ المخرج لتكثيف تلك اللقطات إما بعرضها بوتيرة زمينة بطيئة أو بالغة السرعة، تشبه إلى حد كبير في تركيبها وتكوينها عشوائية ما هو بالشارع بالضبط.

امتد زمن تصوير فيلم “القيادة في القاهرة” لأكثر من أربع سنوات منذ عام 2009 وحتى نهاية عام 2012 تقريبًا، من قبل الثورة وانتهاء بالانتخابات الرئاسية في مصر وفوز الرئيس محمد مرسي بها آنذاك. وقد أتاحت تلك الفترة الزمنية الطويلة للمخرج أن يرصد مراحل التدهور المروري والسلوكي، وذلك الانفجار الوشيك الذي استشعره المرء على لسان السائقين وغيرهم من تعسف وتعنت رجال المرور والقوانين والأحوال المعيشية بصفة عامة، وضرورة تمخض كل هذا عن شيء ما يلوح في الأفق لا يعرف المرء ما هو، وقد رصد الفيلم هذا التوتر المتصاعد، وقد بدى مكثفًا وسريعًا.

بالتأكيد لم يكن في تخطيط المخرج شريف القطشة منذ البداية أن يكون فيلمه راصدًا للثورة في مصر أو حتى أن يضفي لاحقًا بعض العمق على فيلمه بالدخول على خط الثورة، ولا المراحل التي تلتها حتى الانتخابات المصرية، لكن مرد ذلك بالطبع لطول الفترة التي تم تصوير الفيلم خلالها، والتي جعلته يقف على الكثير من الأمور اللافتة بالشارع المصري قبل الثورة، ومنها على سبيل المثال مقابلته لأحد القيادات الأمنية المرورية التي وصفت ما يحدث بشوارع القاهرة بأنه: “فوضى.. فوضى مرورية… لكنها فوضى مرورية منظمة”. أو رصده لزيارة أوباما وكيف تبدلت أحوال الشوارع لتصير نظيفة ومطلية بل وفارغة على غير العادة أثناء الزيارة والخطاب لتعود ثانية كما كانت.

وبعد الثورة رصد أيضًا أي تغير ربما يكون قد طرأ على أحوال المرور وسلوكيات القاهريين بالشوارع، وكيف أن الأمر تبدل كلية مع اندلاع الثورة وأيامها الأولى لدرجة تصدي المواطنين بأنفسهم لتنظيم الشوارع مروريًا، “عندما يكون عندي ما يكفي من الوقت ولا أجد ما أفعله، أنزل من تلقاء نفسي لتنظيم المرور”، يقول أحد الذين رصدتهم كاميرا القطشة في الشوارع أيام الثورة. اللافت أيضًا عدم خشية الناس وقتها من التصوير والتحدث إلى الكاميرا على نحو جريء يصل حد التبجح، بينما كان العكس تمامًا هو ما حدث قبل الثورة. ومن المفارقات الجميلة التي توقف عندها الفيلم طويلا، رصد أتوبيس المرشح الرئاسي عمرو موسى وكيف خالف قائد أتوبيس المرشح المحتمل كل القوانين وتسبب في ازدحام بالغ وحادثة واختناق مروري ضخم امتد طويلا بأحد الشوارع الرئيسية أثناء توصيله للناس لحضور المؤتمر الرئاسي الذي بدأ وانتهى ولم تحل المشكلة التي تسبب بها الأتوبيس.

وبمرور الوقت وازدياد العشوائية أكثر وأكثر في كل شيء دون أن تجد لها أي رادع من أي نوع، تبدت ملامح الكآبة والوجوم على وجوه كل من يقود بشوارع القاهرة أو سجلت معه الكاميرا، وقد رصدت الكاميرا أيضًا من بين ما رصدته تخلي الجميع عما كانوا عليه من روح أيام الثورة، والعودة لأسوأ ما كانوا عليه من سلوكيات، وفقدان الأمل في أي تحسن ملحوظ قد يطرأ على أحوالهم في المدى القريب. فلا القوانين ردعت كما هو مفترض، ولا من تدرب من أجل استخراج الرخصة تدرّب بالفعل، ولا من رغب في الحصول على الرخصة بطرق مشروعة حصل عليها فعلا بالطرق المشروعة. ومن ثم نجد أننا مع انتهاء الفيلم ومرور كل تلك الفترة الزمنية، لم تتغير كثيرًا أحوال الشخصيات التي تتبعها الفيلم منذ بدايته. ولذلك أيضًا نجد أن الفيلم ينضح بالمرارة والكآبة والسخرية اللاذعة والضحك الفاتر تمامًا كأحوال البشر اليوم في تلك المدينة القاهرة.

إن البطل الرئيسي بالفيلم هو المونتاج من دون شك، الذي لعب دورًا كبيرًا في الحفاظ على ذلك البناء الهيكلي للفيلم من اللقطات غير المتجانسة، التي التقطت على مدى تلك سنوات، كما ساعد المخرج في تحقيق رغبة المخرج بعدم التركيز مع شخصية بعينها من الشخصيات دون الأخرى، مع الرغبة في إكمال كل قصة أو خيط سار وراءه حتى ولو لم يكن له علاقة بموضوع الفيلم.

ويعيب الفيلم إقحامه لعدة لقطات غير ذات أهمية بالسياق مثل لقطات الراقصة غير المفهوم المراد منها، وكذلك مشكلة سائق سيارة الإسعاف الاجتماعية، بينما كان المهم أكثر التركيز على مشاكله بالقيادة، والتطرق لشريحة أخرى مماثلة هي سائقي سيارات الإطفاء، على سبيل المثال. كذلك يعيب الفيلم، ما ينتاب المتفرج بأنه يخاطب شريحة معينة من الناس مصنوع أجلهم، وهي الطبقة فوق المتوسط التي لا تتحدث سوى الإنجليزية طوال الفيلم ولا تسكن سوى في المعادي وغيرها من الأماكن الراقية. وحتى عندما تناول المخرج حادثة واحدة يتمية لشابة يافعة راحت ضحية حادث أليم، كانت لابنة مهندس أمريكي وزوجته يعيشون منذ فترة طويلة بالقاهرة.

ولد شريف القطشة في الولايات المتحدة الأمريكية ونشأ في القاهرة ويعيش في بروكلين. أخرج عدة أفلام قصيرة قبل أن يصور أول أفلامه القصيرة “غرفة التحكم” عن مجموعة النشطاء وحركة “شايفنكم” الذي عُرِض في أكثر من 40 مهرجانًا حول العالم. وكان فيلمه الثاني بعنوان “قمامة القاهرة” صوره عام 2009. و”القيادة في القاهرة” هو فيلمه الوثائقي الطويل الأول، وقد عرض الفيلم بالعديد من المهرجان الدولية وحاز عدة جوائز مهمة. وكان أول عرض عالمي له بمهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي عام 2013، وفاز في مسابقة الأفلام الوثائقية بجائزة “أفضل فيلم من العالم العربي”.