برلين – محمد هاشم عبد السلام
في نفس الفترة من كل عام، وتحديدًا في شهر فبراير، يكون عشاق السينما في أنحاء العالم على موعد سنوي يتجدد مع “البرينالة”، أو مهرجان برلين السينمائي الدولي، الذي أقيمت دورته السادسة والستين في الفترة من 11 إلى 21. وقد عرض مهرجان هذا العام قرابة 400 فيلم روائي طويل وقصير وتسجيلي وتحريك من جميع أنحاء العالم، وذلك في مختلف فعالياته، ومن بينها المسابقة الرسمية التي تنافس على جوائزها هذا العام 18 فيلمًا، من بينهما فيلمين تسجيليين. وقد احتوى البرنامج الرئيسي للمهرجان على خمسة أفلام أخرى عرضت على هامش المسابقة الرسمية، ليصل إجمالي أفلام البرنامج الرئيسي 23 فيلمًا طويلا من إحدى وعشرين دولة. وقد افتتح المهرجان هذا العام بفيلم “تحية للقيصر”، للمخرجين المعروفين جويل وإيثان كوين، وبطولة جورج كلوني وسكارليت جوهانسون، ورالف فينيس.
أفلام المسابقة الرسمية
لم تكن المسابقة هذا العام مسابقة للمخرجين الكبار، فباستثناء المخرج البوسني “دينيس تانوفيتش” والدانمركي “توماس فتنبرغ” والإيطالي “جيانفرانكو روزي”، خلت المسابقة من الأسماء المعروفة التي ميزت على الأقل مسابقة العام الماضي. بالأحرى، يمكن أن نعتبر مسابقة هذا العام بمثابة تعريف بالمخرجين المجهولين أو الشباب الذين يقدمون أولى أعمالهم. كذلك لوحظ غياب الأفلام الألمانية الإنتاج، باستثناء فيلم وحيد، والثلاثة الأخرى إنتاج مشترك، في حين كانت المشاركة الفرنسية هي الأكبر، حيث اشتركت ثمانية أفلام من الإنتاج المشترك وفيلم وحيد إنتاج فرنسي خالص.
وقد اشتركت في مسابقة هذا العام الأفلام التالية: فيلم “عبقري” للمخرج مايكل جرانداج، وهو إنتاج بريطانيا وأمريكا، والفيلم البرتغالي “رسائل من الحرب” للمخرج إيفو إم. فيريرا، والفيلم الإيراني “وصول التنين” للمخرج ماني حقيقي، والفيلم التسجيلي الإيطالي الفرنسي “نار في البحر”، للمخرج جيانفرانكو روزي، ومن إنتاج الدنمارك والسويد وهولندا عاد المخرج توماس فينتربيرج بفيلم “الكوميونة”، والفيلم الفرنسي الألماني “أشياء قادمة” للمخرجة ميا هانسن لاف، ومن فرنسا فيلم “في سن 17″، للمخرج أندريه تشينيه، ومن الفليبين وسينغافورة فيلم “أنشودة للغز الحزين” للمخرج الفلبيني لاف دياز، وهو أطول فيلم بتاريخ جميع المسابقات الدولية بالمهرجانات الكبرى، حيث بلغ زمن عرضه 8 ساعات و5 دقائق.
ومن إنتاج بوسني فرنسي، قدم دينيس تانوفيتش أحدث أفلامه “الموت في سراييفو”، ومن إنتاج بولندي سويدي فيلم “الولايات المتحدة للحب” للمخرج توماس فاسيلفسكي، والفيلم الكندى “بوريس دون بياتريس” إخراج دينيس كوتيه، وفيلم “وحيدًا فى برلين” إنتاج ألمانى بريطاني فرنسى إخراج فينسينت بيريز، و الفيلم الأمريكى “خاص في منتصف الليل” إخراج جيف نيكولز، والفيلم التسجيلي “الأيام صفر” للمخرج الأمريكى أليكس جيبنى، ومن ألمانيا “24 أسبوعًا” للمخرجة آن زهرة براشيد، ومن الصين “عكس التيار” لينانج شاو، ومن إنتاج ألماني فرنسي مكسيكي فيلم “أنا نيرو” لرافي بيتس، وأخيرًا المشاركة العربية الأولى بالمسابقة الرسمية منذ سنوات، وكانت للفيلم التونسي “نحبك هادي” للمخرج محمد بن عطية.
كما عرض على هامش المسابقة الأفلام التالية: “قديس الحب” إخراج بينوا ديلبين وجوستاف كيرفير، وهو إلى جانب فيلم “أخبار من كوكب المريخ” للمخرج دومينيك مول من إنتاج فرنسي بلجيكي، والفيلم الأمريكي “تشي – راك” للمخرج المعروف سبايك لي، والفيلم النيوزيلاندي الاسترالي الإنتاج “البطريرك” للمخرج لي تماهوري، إضافة بالطبع لفيلم الافتتاح “يحيا القيصر” وهو إنتاج بريطاني وأمريكي.
وفى قسم العروض الخاصة عرض المهرجان 8 أفلام، التسجيلي الأمريكي “غرباء الموسيقا: يويو ما وفرقة طريق الحرير”، للمخرج مورجان نيفيل، والتسجيلي الإنجليزى “الفصول في كوينسي: أربع بورتريهات لجون بيرجر”، إخراج هم كولين ماكاب، وكريسوفر روث، ووبارتيك زيدوز، والممثلة تيلد سونتون. كما عرض الفيلم التسجيلي الجديد للمخرج الأمريكي الكبير المثير للجدل مايكل مور، والذي حمل عنوان “أين سنغزو المرة المقبلة”، وذلك في أول عرض له على مستوى القارة الأوروبية، بعد عرضه لأول مرة في مهرجان تورنتو الأخير. ومن أمريكا أيضًا التسجيلي “الطائر الوطني” لسونيا كينبيك، والروائي “أمامنا مسافة أميال” لدون شيدل. ومن اليابان فيلم “خبيث” لكيوشي كيروساوا، ومن السويد “لعبة خطرة” لبرنيلا أوغست، وأخيرًا من بريطانيا جديد المخرج المعروف تيرانس ديفيذ “عاطفة هادئة”.
مشاركة عربية لافتة
شهدت الأقسام الأخرى الموازية بالمهرجان، “البانوراما” و”المنتدى” و”امتداد المنتدى”، أكبر مشاركة عربية بالمهرجان منذ عام 2012، حيث عرض بتلك الأقسام 20 فيلمًا، منها 6 أفلام روائية طويلة، و3 تسجيلية، و11 فيلمًا قصيرًا. بالمسابقة الطويلة الفيلم التونسي “نحبك يا هادي”، لمحمد بن عطية وهو أول فيلم عربي بالمسابقة منذ عشر سنوات بعد فيلم “الجنة الآن” لهاني أبو أسعد، وفي مسابقة الأفلام القصيرة “عودة إنسان” إخراج الفلسطيني مهدي فليفل، وفي مسابقة أفلام الفتية الطويلة (أكثر من ١٤ سنة) فيلم “ثورتي” للتونسى رمزي بن سليمان. وفي “البانوراما” الفيلم الجزائري “الطريق إلى اسطنبول” للمخرج المعروف رشيد بوشارب، والفيلم المغربي “جوع كلبك” لهشام لعسري.
وفي “المنتدى” الفيلم الروائي المصري “آخر أيام المدينة” لتامر السعيد، والسعودي “بركة يقابل بركة” لمحمود صباغ، وهو أول فيلم سعودي طويل يُعرض بالمهرجان. وثلاثة أفلام تسجيلية: السوري “منازل بلا أبواب” لآفو كابرليان، واللبناني “مخدومين” لماهر أبى سمرة، والفلسطيني “مادة سحرية تسري في داخلي” لجومانة مناع. وفي “امتداد المنتدى” عرضت عشرة أفلام قصيرة، خمسة منها من لبنان، وهي “الآن: نهاية موسم” لأيمن نهلي، و”وضعية تسلل” لمروان حمدان، و”المرحلة الرابعة” لأحمد غصين، و”أحجار. آلهة. بشر” لجو نامي، و”أبوعمار قادم” لنعيم مهيمن. وأربعة أفلام من مصر، وهي “منتهي الصلاحية” لإسلام كمال، و”كما تحلق الطيور” لهبة أمين، و”ذاكرة عباد الشمس” لمي زايد، و”فتحي لا يعيش هنا بعد الآن” لماجد نادر. والفيلم العاشر “في المستقبل، أكلوا من أفخر أنواع البورسلين” للفلسطينية لاريسا صنصور وصورين ليند.
الجوائز ولجنة التحكيم
جاءت جوائز دورة هذا العام كالتالي:
جائزة المهرجان الكبرى “الدب الذهبي” للفيلم التسجيلي الإيطالي “نار في البحر” للمخرج المتميز جيانفرانكو روزي، وجائزة لجنة التحكيم الكبرى “الدب الفضي” للمخرج البوسني “دينيس تانوفيتش” عن فيلمه “الموت في سراييفو”، وجائزة “الدب الفضي” لأحسن إخراج لفيلم “أشياء قادمة” للمخرجة ميا هانسن لاف. أما جائزة أحسن ممثلة فذهبت للممثلة الدانمركية “ترين ديرهولم” عن دورها في فيلم “الكوميونة” لتوماس فينتربيرج، نال جائزة أحسن ممثل التونسي “مجد مستورة” عن دوره في فيلم “نحبك هادي” للمخرج محمد بن عطية، كما فاز الفيلم بجائزة أفضل أول فيلم روائي. وقد ذهبت جائزة أحسن سيناريو لفيلم “الولايات المتحدة للحب” للمخرج توماس فاسيلفسكي، وجائزة أحسن تصوير لفيلم “عكس التيار” للمخرج ينانج شاو. أما الجائزة الخاصة التي تحمل اسم جائزة “ألفريد باور”، مؤسس المهرجان، فذهبت لفيلم “أنشودة للغز الحزين” للمخرج لاف دياز. كما فاز فيلم “عودة إنسان” لمهدي فليفل بالجائزة الفضية لأفضل فيلم قصير.
وقد ترأست لجنة تحكيم المهرجان هذا العام الممثلة الأمريكية القديرة “ميريل ستريب”، في السادسة والستين من عمرها، وهي المرة الأولى التي ترأس فيها “ستريب” لجنة تحكيم مهرجان سينمائي، ومعها لارس إدينجر من ألمانيا، ومن بريطانيا نيك جيمس وكليف أوين، وبرجيتا لاكومب من فرنسا، ومن إيطاليا ألبا رورفاشر، ومن بولندا موجوجاتا شموفسكا.
الدب الذهبي التكريمي
كعادته كل عام، يمنح المهرجان جائزة الدب الذهبي الفخرية لإحدى الشخصيات البارزة في تاريخ السينما تقديرًا لعطائها وجهودها في هذا المجال، وقد نال الجائزة هذا العام المصور السينمائي الألماني “مايكل بولهاوس”، وهو أحد أهم المصورين المؤثرين وأصحاب الموهبة الكبيرة والفريدة في تاريخ السينما. قدّم “بولهاوس” نحو 130 فيلمًا وعملا مسرحيًا وتليفزيونيًا، وذلك مع مخرجين عمالقة في تاريخ الإخراجي سواء في تاريخ السينما الألمانية أو العالمية، فعلى سبيل المثال أنجز “بولهاوس” 15 فيلمًا مع فاسبيندر، وسبعة مع سكورسيزى، إضافة إلى أعماله مع ولفجانج بيترسن، وفولكر شلوندورف، وروبرت ريدفورد، وفرانسيس فورد كوبولا.
الفيلم الفائز بالدب الذهبي
عن جدارة واستحقاق فاز المخرج الإيطالي الكبير جيانفرانكو روزي، الحائز من قبل على جائزة “الأسد الذهبي” عام 2013 في مهرجان فينسيا عن فيلمه التسجيلي “روما الأخرى أو الطريق الدائري” في سابقة كانت الأولى من نوعها بالمهرجان آنذاك، على جائزة “الدب الذهبي” في مسابقة هذا العام في مهرجان برلين، وذلك عن فيلمه السادس في تاريخه المهني الذي يحمل عنوان “نار في البحر”. يتناول الفيلم، الذي كتب له روزي السيناريو بالاشتراك مع الكاتبة كارلا كاتاني، وقام أيضًا بتصويره وتسجيل الصوت له، ويمتد زمن عرضه لقرابة الساعتين، واحدة من أهم القضايا الساخنة التي باتت منذ سنوات تفرض نفسها علينا بشكل شبه يومي، ألا وهي قضية الهجرة غير الشرعية، التي تتم عبر المراكب انطلاقًا من الدول المطلة على البحر المتوسط، وبخاصة ليبيا، بغية الوصول إلى أقرب نقطة على أرض أوروبا، تلك الجنة المزعومة التي يحلم بها الكثيرون، ويخوضون شتى المخاطر من أجلها الوصول إليها، برغم قلة الناجين وكثرة الهالكين.
منذ فترة طويلة بعض الشيء، التفتت السينما العالمية بشقيها الروائي والتسجيلي، إلى تلك الظاهرة الخطيرة التي باتت تقض مضجع أوروبا بصفة عامة والدول المطلة على البحر المتوسط بصفة خاصة. وقد تزايدت في السنوات القليلة الماضية وتيرة تلك الأفلام، حتى لم يعد يمر العام دون أن ينتاولها على الأقل فيلمين أو ثلاثة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد رصدت هذه الأفلام تلك الظاهرة بعيون متباينة، في محاولة منها لسبر أسبابها وتبين تبعاتها وعواقبها ومن ثم إيجاد طريق أو حتى طرق للقضاء عليها مع مرور الوقت.
ومن بين أحدث الأفلام التسجيلية التي تتناول تلك القضية، التي باتت صور ضحاياها، وهم بالآلاف أحيانًا، تمزق قلوب وتثقل ضمائر كل من يقدرون آدمية البشر في هذا العالم، اختار المخرج جيانفرانكو روزي أن يركز في فيلمه “نار في البحر” على جزيرة لامبيدوزا الإيطالية على وجه التحديد. يتميز الفيلم بجدة التناول، نظرًا لأنه، من ناحية، يتكئ في بنائه السردي على مشاهد تسجيلية حديثة لم يتم تصويرها من قبل قط لقوارب اللاجئين، وجثث الغارقين والموتى من الاختناق في المراكب، ويركز من ناحية ثانية على بعض الشخصيات التي اختارها المخرج بعناية من عامة سكان الجزيرة، ليعرض لنا حياتهم اليومية البسيطة.
وبالطبع لا تنبع أهمية الفيلم من كونه يتناول واحدة من أكبر المآسي التي نعيشها في عصرنا الحديث، وإنما من طريقة تناول المخرج لها عبر أسلوبه الذي يتسم بالجدة والاختلاف والتميز، فليس ثمة نقاش سياسي أو فتح لأية قضايا شائكة أو متعلقة بمصير هؤلاء اللاجئين والظروف التي دعتهم لهذا أو حتى الخلفيات العرقية القادمين منها، فقط يرصد الفيلم يمنتهى الصراحة والحيادية مآسي هؤلاء البشر من ناحية، ومن ناحية أخرى حياة الصيادين البسطاء في جزيرة لامبيدوزا، والذين لا يتجاوز عددهم ستة آلاف فرد أغلبهم من العجائز، يكابدون شظف العيش، ويحيون حياة تتسم بالتقشف والوحدة والانعزال.