محمد هاشم عبد السلام
دائمًا ما يقدم المخرج الإيطالي المتميز “جيانفرانكو روزي” كل جديد ولافت في مجال السينما التسجيلية، وذلك منذ أن بدأ مسيرته المهنية عام 1993. وقد فاز آخر أفلام روزي، السادس له، ويحمل عنوان “نار في البحر”، بجائزة مهرجان برلين في دورته الأخيرة السادس والستين. وهذه هي المرة الثانية التي يفوز فيها على التوالي بالجائزة الكبرى بأهم المهرجانات الدولية، فبعد “أسد” فينسيا عام 2013 عن فيلمه “الطريق الدائري حول روما”، نال “دب” برلين الذهبي، وبذلك لم يتبق له سوى الفوز بسعفة “كان” ليحقق تفردًا يصعب ويندر الوصول إليه.
يتناول “نار في البحر”، الذي كتب له روزي السيناريو بالاشتراك مع “كارلا كاتاني”، وقام أيضًا بتصويره وتسجيل الصوت له، ويمتد زمن عرضه لقرابة الساعتين، واحدة من أهم القضايا الساخنة التي باتت منذ سنوات تفرض نفسها على العالم بشكل شبه يومي، ألا وهي قضية الهجرة غير الشرعية. وفي جديده الذي يجمع بين التسجيلي والروائي، اختار جيانفرانكو أن يركز على جزيرة لامبيدوزا تحديدًا. تلك الجزيرة التي لا تتعدى مساحتها ثمانية أميال مربعة، وتقع بأقصى جنوب إيطاليا وتنتمي لصقلية، برغم أنها أكثر قربًا لأفريقيا حيث تبعد 70 ميلا عن ليبيا، وتبعد 109 ميلا عن مالطا، في حين أن أقرب قرية إيطالية لها، “أجريجنتو”، تبعد عنها 127 ميلا. يبلغ عدد سكان لامبيدوزا 6000 نسمة، يعيشون على الصيد، والزراعة، والسياحة الموسمية. والمصدر الوحيد للماء بها هو مياه الأمطار التي نادرًا ما تسقط ودون غزارة. وقد استقبلت لامبيدوزا خلال العقدين الأخيرين ما يقرب من 400 ألف مهاجر غير شرعي، وهلك قرب سواحلها وفقًا للإحصاءات الرسمية 15 ألف، وهو عدد تقريبي بالطبع، ومر بأرضها العام الماضي فحسب، 102 ألف مهاجر.
نظرًا لتلك الطبيعة الفريدة للجزيرة، والتي أوضحتها الأرقام بأعلى، آثر روزي ألا يقتصر فيلمه فحسب على بضع لقطات لعمليات وصول وإنقاذ المهاجرين. وبعد وصوله إلى هناك وتبينه لطبيعتها، قرر البقاء بها لمدة عام يرصد ويُعايش ويُصوِّرُ حياة أهلها، وكذلك المهاجرين ومعاناتهم. ولهذا لم تأت أهمية الفيلم من تناوله فقط لواحدة من كبرى المآسي التي نعايشها في عصرنا الحديث، وإنما من طريقة تناوله لها عبر أسلوبه الذي يتسم الاختلاف والتميز. فليس ثمة نقاش سياسي أو فتح لأية قضايا شائكة أو متعلقة بمصير هؤلاء اللاجئين والظروف التي دعتهم لهذا أو حتى الخلفيات العرقية القادمين منها، فقط تسجيل بصري بمنتهى الصراحة والحيادية لمآسي هؤلاء البشر من ناحية، ومن ناحية أخرى رصد لحياة الصيادين البسطاء، وأغلبهم من العجائز، الذين يكابدون شظف العيش، ويحيون حياة تتسم بالتقشف والوحدة والانعزال.
كما يتميز الفيلم بجدة البناء، نظرًا لأنه أيضًا، من ناحية، يتكئ في هيكله السردي على مشاهد تسجيلية حديثة لم تُعرض من قبل قط لقوارب اللاجئين، وجثث الغارقين والموتى من الاختناق في المراكب. ويركز، من ناحية ثانية، على بعض الشخصيات التي اختارها المخرج بعناية من عامة سكان الجزيرة، ليعرض لنا حياتهم اليومية البسيطة، وعلى رأسهم الصبي صامويل، ابن أحد الصيادين، وهو في الثانية عشر من عمره ويعتبر بطل الفيلم، ووالده وجدته، وأحد الغواصين، وصاحب محطة راديو يلبي أغنيات المستمعين، وأخيرًا طبيب الجزيرة المقيم. ومن خلال تلك البنية ينتقل روزي مونتاجيًا طوال الفيلم بين العالمين عن طريق لقطات جمالية تعرض وتربط إلى حد ما بين بعض ما هو مشترك في كلا العالمين.
إن ما يحدث على الجزيرة مُركب بالفعل، ولذا كان حتميًا التعامل معه بمنطق فني مُركب بدوره، يعطي لكل عنصر حقه في الوجود على نحو مستقل، وفي الإفصاح عن عالمه الخاص بعمق وتفرد. فعلى الرغم من كل تلك الأعداد الهائلة التي تمر سنويًا بالجزيرة، والتي كان من المفترض أن تترك ولو أدنى أثر على سلوك أهلها أو طبيعة الحياة اليومية أو حتى تركيبتها الديموغرافية، نجد أن العكس تمامًا هو ما حدث، لم يهتم المهاجرون بالجزيرة أو مجتمعها أو حتى البقاء فيها ولا بصقلية عامة، فهي ليست سوى مجرد معبر لقلب إيطاليا، حيث الاستقرار النهائي أو الشروع في رحلة أخرى برية حيث الاستقرار ببلد أوروبي مغاير، ولا اهتم السكان بدورهم أو تأثروا بما يحدث من حولهم، وعلى مرمى حجر من شواطئهم، بما في ذلك الصبي صامويل الذي لا يكل ولا يمل، والذي يذرع الجزيرة جيئة وذهابًا نهارًا وليلا. ولذا، كان روزي موفقًا في إضافته المُتعَمَّدة لتفصيلة العين الكسولة لصامويل، التي هي بحاجة لعلاج، في استعارة لأهل الجزيرة وأوروبا عامة.
ولهذا، كان من الطبيعي ألا يرصد روزي المهاجرين وتدفقاتهم عبر أعين سكان الجزيرة أو احتكاكهم بهم، واختار أن يعرض لنا العالمين كأنما لا قاسم مشترك بينهما على الإطلاق. وفي الواقع، ثمة انفصام حقيقي بالفعل بين الحياة اليومية لسكان الجزيرة، التي تتسم بالكثير من الروتين والرتابة والملل، والعالم الذي يحياه المهاجرين في معسكرات الترحيل. إن النقطة الوحيدة البارزة التي تربط بين هذين العالمين هي “بيترو بارتولو”، الطبيب الوحيد بالجزيرة، والمقيم بها منذ أكثر من 25 عامًا، وهو يروي الكثير من المآساي والأهوال التي رآها بعينيه منذ أن بدأت أولى القوارب في الوفود بانتظام عام 1991.
وبينما يجهش بالبكاء، يروي كيف أن الكثير من تلك المشاهد المروعة، لنساء مغتصبات وأطفال ونسوة ورجال موتى أو بهم حروق بدرجاة متفاوتة، تطارده في نومه منذ سنوات على هيئة كوابيس مريعة، وكيف أنه تحدث تقريبًا لأغلب أجهزة التلفاز والصحف حول العالم، وأنه بات عازفًا عن التحدث لفرط ما وصفه من أهوال، لكنه لا يجد أمامه سوى التحدث لعل الرسالة تصل. ولم ينس أن يوجه اللوم للدول الأوروبية التي لا تراعي سوى مصالحها الخاصة، وترفض مد يد العون بل وفوق ذلك تبني أسيجة، وتعاملهم المهاجرين بطريقة لا تليق حتى بالحيوانات، وأنه لحل تلك المشكلة من جذورها يجب خلق أوضاع إيجايبة في تلك البلدان، لأنه لا شخص في العالم يريد أن يترك وطنه، وأنهم جميعًا مجبرين.
كما عرض روزي بعض الصور الفوتوغرافية التي احتفظ بها الطبيب لحالات مروعة، منها واحدة لإحدى المراكب المكتظة عن آخرها بالركاب، والتي ظلت بعرض البحر لمدة أسبوع تقريبًا، وكان على متنها 890 مهاجرًا، وعلاوة على ذلك يشرح له كيف أن المركب ذاته مقسم إلى ثلاثة أقسام، كل قسم منها له سعر خاص حسب مقدرة المهاجر، فمستوى القاع حيث لهيب الحرارة الناجمة عن المحركات ونقص الهواء والاختناق التام يصل لأقل من ألف دولار، والمستوى الثاني يصل إلى ألف دولار، وأخيرًا المستوى العلوي حيث الجزء الظاهر من المركب، يصل إلى ألف وخمسمائة دولار.
وبخلاف الطبيب، الذي يقوم بالكشف على اللاجئين القادمين إلى الجزيرة وأيضًا أهل لامبيدوزا، ثمة حلقة وصل أخرى بسيطة، وهي الإذاعة المحلية، إذ نستمع عرضًا عبرها لأصوات عملية إغاثة أو أخبار غرق مراكب أو أرقام ناجين أو وفيات، قبل أن تعاود المحطة بث أغنياتها المحلية القديمة، التي يطلبها المُستمعين ومنها أغنية “نار في البحر”.
من بين الأمور اللافتة بصريًا على امتداد الفيلم، وهي كثيرة، أننا لم نشاهد أي شمس ساطعة، فقط غيوم طوال الأيام، وسماء يغلب عليها اللون الرمادي بدرجاته، وبخلاف ذلك إما تصوير ليلي خارجي على أضواء شاحبة أو باستخدام إضاءة اصطناعية عندما يكون داخليًا. وباستثناء عدة مشاهد عانت من بعض الإطالة والاستطراد، وكانت بحاجة لمعالجة مونتاجية أكثر قسوة، نجح جيانفرانكو روزي بمهارة في إيصال رسالته دون مباشرة، وبإبداع جمالي متوزان شديد الفنية، واستطاع فوق ذلك أن يتجاوز فيلمه السابق.