إعداد: تشارلز توماس صمويل
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
أغفلت الصورة السابق تقديمها، عندما لعب فرانسوا تروفو الدور الرئيسي في “الطفل المتوحش” كشاب قصير مكتنز الجسم لا يتمتع باللباقة أو حسن التعبير، فكان يبدو شابًا عاديًا في أواخر الثلاثينات من عمره، أغفلت ملامحه الأكثر إدهاشًا: الابتسامة التي لا تقل جاذبية وسحرًا عن أفلامه الفائقة الإشراق والوميض المستمر من الاهتمام أو الحضور الضحوك في عينيه. حتى عندما كان عليه أن يقطع إجابته انتظارًا للترجمة (فهو لا يتحدث الإنجليزية)، لم يكن يفقد الخيط أبدًا. ولم يتردد في الإجابة أبدًا ولم يبد أنه كان يجد أي سؤال من الأسئلة غير متوقع.
عقت المقابلة في جلستين في”لا فيلم دي كاروس”، وهي شركة الإنتاج التي أنشأها ويديرها. في مكتبه الخاص وعبر جناح صغير في نفس المبني حيث تم تصوير فيلم “نوم وطعام”، الجو العام في المكان كان حرفيًا “أناقة في هدوء”. الشركة مشغولة بشكل واضح، لكن الموظفين يبدو أنهم يديرون اتحادًا للأطباء وليس شركة أفلام. أثناء الفترة التي قابلت فيها تروفو، كان منتبهًا إلى كل ما ورد في الصحافة من التفصيلات الخاصة بالعرض الأول لـ “نوم وطعام”، وذلك قبيل حضور افتتاح مركز لينكولن لـ “الطفل المتوحش”. دعاني للعرض، حيث قام بتحية كل ضيف بشكل شخصي. وعندما، في اليوم التالي، وصلت لعقد المقابلة، كان تروفو كريمًا مضيافًا وقد رحب بي وبصديقتي على حد سواء، وبصفة خاصة صديقتي، مدام “فرانسوا لونجهرست”، التي عملت كمترجمة لنا. أثناء المحادثة، جعل الوئام المتنامي الترجمة غير ضرورية تدريجيًا. في النهاية، رحنا نرد على أحدنا الآخر بشكل مباشر، ونمزح على حادث عرضي أثناء اشتراكنا المتبادل في التفاهم بالأخذ والعطاء.
تشارلز: بدأت مهنتك كناقد. ما الأثر الذي تركه هذا فيك كمخرج؟
تروفو: إنه من الصعب القول، لأن المرء ينظر إلى الأفلام بشكل مختلف عندما يكون مخرجًا وعندما يكون ناقدًا. على سبيل المثال، رغم أنني دائمًا ما أحببت “المواطن كين”، أحببته بطرق مختلفة في مراحل مختلفة في مهنتي، عندما شاهدته كناقد، أعجبت على وجه الخصوص بالطريقة التي رويت بها القصة: حقيقة أن المرء نادرًا ما يسمح له برؤية الشخص الذي يقابل جميع الشخصيات، وحقيقية إمكان عدم احترام التسلسل الزمني للأحداث (الكرونولوجي) مسائل من هذا النوع، أشياء مثل هذه. بينما اهتممت أكثر كمخرج بما يتعلق بالتقنية: كل المشاهد تم تصويرها بلقطة مفردة مع عدم استخدام القطع العكسي، تسمع في معظم المشاهد شريط الصوت المسجل قبل أن ترى الصورة المتطابقة معه – يعكس ذلك تدريب “أورسون ويلز” في الإذاعة – إلخ. مثل المشاهد العادي، يستقبل الواحد الفيلم كما لو كان مخدرًا، يعتريه الدوار دون أن يحاول القيام بالتحليل. الناقد، من ناحية أخرى، (خصوصًا الذي يعمل في مجلة أسبوعية، كما فعلت أنا)، يكون مجبرًا على كتابة ملخصات الأفلام في خمسة عشر سطرًا. ذلك يجبر المرء على أن يفهم بنية الفيلم ويفسر أو يبرر حبه له.
تشارلز: هل هناك نقاد أحببتهم بصفة شخصية، أو كمخرج، وجدت أنهم مفيدون على وجه الخصوص؟
تروفو: ليس هناك مخرج يحب النقاد، بغض النظر عن كم هم رائعين بالنسبة له. إنه يشعر دائمًا أنهم لم يكتبوا عنه بدرجة كافية، أو أنهم لم يقولوا الأشياء اللطيفة بطريقة ممتعة، أو أنهم قالوا الكثير من أشيائهم اللطيفة عن مخرجين آخرين. نظرًا لأنني كنت ناقدًا، فأنا أقل معاداة للنقاد عن غيري من المخرجين. مع ذلك، أنا دائمًا ما أرى أن الناقد ليس أكثر من عنصر واحد في تلقي أفلامي. هناك أيضًا موقف الجمهور، والمادة الدعائية، وإعلانات ما بعد العرض الأول: كل هذه الأشياء مهمة تمامًا كأهمية النقاد.
تشارلز: ثمة تقليدان في السينما: الأول مستمد أساسًا من الفيلم الصامت، وهو يؤكد على المونتاج وحركة الكاميرا. والثاني: الذي يبدو أن “أندريه بازين” كان يفضله (والذي ضرب عليه مثالاً بفيلم مثل “الثعالب الصغيرة” للمخرج “لوليام وايلر”) أكثر مسرحة، يعتمد على الإخراج. معروف الآن قربك الشديد من “بازين”. لكن، أعتقد أنك لست فقط أقل مسرحة من المخرجين الذين اعترف بإعجابه بهم، بل أيضًا في الواقع، شغل الكاميرا والمونتاج الخاصين بك أكثر ثراء وتنوعًا مما لدى أي مخرج في نفس منزلتك. إذا كان الأمر كذلك، هل كان لـ “بازين” إذن تأثير عليك حيث أنه من الشائع بشكل كبير أن له تأثيرًا عليك؟
تروفو: أنا لا أتفق مع التقسيم الذي طرحته أنت الآن. بالإضافة إلى ذلك، فقد غالى “بازين” في تقدير “الثعالب الصغيرة”، الذي كان مجرد عمل مسرحي تم تصويره – رغم أن هذا الفيلم أعطاه حجة أو مبررًا لبعض الملاحظات الممتعة عن السينما. أحب أن أرى بالأحرى اختلافًا موجودًا بين المخرجين الذين يحاولون إبقاء الكاميرا غير مرئية – كما فعل “جون فورد” – وهؤلاء الذين يجعلونها واضحة للمشاهد.
تشارلز: جيد. لكن كانت كاميرتك مرئية جدًا إلى أبعد حد فيما مضى والآن أصبحت أقل جدًا عما سبق. لماذا؟
تروفو: لأنها أصبحت مرئية أكثر لدى الآخرين جميعًا. لا، لديّ سبب أفضل: لقد أصبحت أنا أكثر اهتمامًا بشخصياتي، بأوضاعها، وبما تقوله.
تشارلز: كناقد، هاجمت بضراوة الأفلام التي قدمها المخرجون الفرنسيون أثناء الفترة التي سبقت ما يطلق عليه “الموجة الجديدة”. ما الذي جعلها كريهة جدًا بالنسبة لك؟
تروفو: هاجمتهم لأنه لم يكن لديهم رؤية شخصية خاصة لا عن الحياة ولا عن السينما.
تشارلز: لكن بعضهم أبدع أفلامًا عظيمة. أليس هذا جديرًا بالإعجاب؟ أم أنك تنفي الأهمية عن فيلم مثل “أطفال الجنة” للمخرج “كارنيه” أو فيلم “ألعاب محرمة” للمخرج “كليمنت”؟
تروفو: أول اهتمامي بالأفلام كان أثناء الحرب العالمية الأولى، ولذلك كانت الأفلام الأولى التي رأيتها أفلامًا محلية. أحببت “أطفال الجنة”، كل أفلام “كارنيه” – بريفير، حتى أنني أحببت “زوار الليل”. ومع ذلك فلم أعد أحبها على الإطلاق. أحببت أفلام “بيكر”، و”الغراب” لـ “كلوزو”، وبالطبع، وقبل كل شيء، أفلام “رينوار”. ثم كانت هناك صدمة الأفلام الأمريكية بعد التحرير. رأيتها عندما كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، وبترتيب عشوائي، بدون أن أعرف أيها تم عمله أثناء الحرب، وأيها بعد الحرب. وجدتها جميعًا أكثر ثراء من الأفلام الفرنسية – باستثناء أفضل أفلامنا، مثل أطفال الجنة وأفلام “رينوار”.
تشارلز: أشاركك حماسك لستة أو سبعة من أفلام “رينوار”، لكنني كنت مندهشًا دائمًا من مدى إعجابك به لأنه رغم أن “رينوار” بالتأكيد صنع أفلامًا من الدرجة الأولى، فقد بدا لي أن بعضًا من أفلامه أكثر إخفاقًا من أفلام “كارنيه”. بل إنها أكثر مسرحة – أفكر في فيلم مثل “شوتار وشركاؤه”. ثم هناك تلك العاطفية الفظيعة نحو الفلاحين الفرنسيين، كما في “توني”.
تروفو: كلا، أنا أعشق “توني”، إنه فيلم مهم جدًا بالنسبة لي.
تشارلز: لماذا؟
تروفو: لأن مخرجي الأفلام يعتقدون دائمًا أن أفلامهم ليست قريبة بالقدر الكافي من الحياة الواقعية، ويجسد “توني” كيف يتحقق ذلك القرب. إنه مثل أحد الأخبار، جوه حقيقي جدًا، ثمة نوع من الجنون أو الحماقة في أحداثه، وذلك النوع غير موجود في الروايات أو القصص القصيرة بل يوجد فقط في شيء ما من الواقع الفعلي. لأنك، كما تعرف، حتى لو بدأت بشيء ما من الواقع الفعلي، فسوف يصبح مسرحيًا عندما تترجمه إلى سيناريو، وعندئذ تنتفي عنه واقعيته.
تشارلز: بالتحديد. الواقعية هي ما وجدته منتفيًا عن “توني”. دعني أضرب لك مثلاً: لكي تقوم بإغواء “توني”، تتظاهر البطلة بأن نحلة قد لسعتها وتطلب منه أن يمتص حمة النحلة إلى الخارج، وطبعًا، أثناء عمل ذلك، تتأجج عاطفته. يبدو لي ذلك مثل كليشيه مسرحي – ربما ليس في كل تفاصيله، لكن في عناصره الأساسية.
تروفو: إنه كليشيه عن الحب، وليس كليشيهًا دراميًا. ربما ستجد هذا عاميًا مبتذلاً إذا قرأت السيناريو فقط. لكن الطريقة التي تم بها، طريقة أداء الممثلين، تجعله حقيقيًا.
تشارلز: أنت توافق على أن المشهد مبتذل في المفهوم، لكنك ترى أنه متوازن بفضل التمثيل. ذلك يعلي من المتعة الموازية المماثلة في أفلامك أنت، فعلى سبيل المثال، في فيلم “عروس المسيسبي”، عندما يغادر “دينيوف” و”بيلموندو” دار السينما حيث كانا قد شاهدا للتو “جوني جيتار”، يتفقان على أن واقعية الأداء حولت أوبرا الحصان تلك إلى قصة عن أناس حقيقيين. ألم تكن هذه نيتك في “عروس الميسيسبي” والعديد من أفلامك الأخرى: أخذ فكرة عامية مطروقة ودفع الممثلين لإعطائها حياة واقعية؟
تروفو: نعم، نعم. بالتأكيد.
تشارلز: هل تعتقد أن “دينيوف” و”بيلموندو” أنقذا القصة؟
تروفو: نعم. أي شيء خطأ في ذلك الفيلم هو خطئي وليس خطأ نجومي.
تشارلز: مثل الكثير من النقاد الأمريكيين، أنا مندهش من إعجابك بـ “هاورد هوكس” و”جون فورد”. هلا شرحت لي سبب حبك لهما؟
تروفو: أصلاً، أنا لم أحب “فورد” – بسبب مادته: على سبيل المثال، الشخصيات الكوميدية الثانوية، العنف والوحشية، العلاقات الذكرية الأنثوية المتمثلة في خبط الرجل للمرأة على المؤخرة. لكن في النهاية استطعت فهم أنه قد حقق تماثلاً مطلقًا للخبرة التقنية. وتقنيته هي الأكثر جدارة بالإعجاب لكونها غير ملاحظة: كاميراه غير مرئية، إخراجه ممتاز، يحافظ على نعومة أو انتظام السطح والتي لا تسمح لمشهد واحد أن يصبح أهم من المشاهد الأخرى. مثل هذه البراعة الفائقة ممكنة فقط بعد أن يكون المرء قد أنجز عددًا كبيرًا من الأفلام. وإذا صرفنا النظر عن مسائل الجودة لنضعها جانبًا، سيكون “جون فورد” هو “سيمنون” المخرجين. “هوكس”، من ناحية أخرى، هو أكبر عبقرية سينمائية بين المخرجين الأمريكيين. إنه ليس مدمنًا للسينما، ولا هو متألم أو قلق. بالأحرى، إنه يحب الحياة في كل مظاهرها، وبسبب هذا التآلف مع الحياة بصفة عامة، كان قادرًا على أن يعمل المثالين العظيمين، أو الأمثلة الثلاث العظيمة في كل نوع من أنواع الفيلم (ربما باستثناء الكوميديا، التي لديكم فيها لوبيتش إلخ). لأكون محددًا: عمل “هوكس” أفضل ثلاث أفلام “ويسترن”، وهي: “النهر الأحمر، السماء الكبيرة، وريوبرافو”، وأفضل فيلمين من أفلام الطيران: (للملائكة فقط أجنحة، والقوات الجوية)، وأفضل ثلاث مسلسلات: (النوم الأكبر، أن تملك أو لا تملك، وسكارفيس).
تشارلز: سيد “تروفو”، “هوكس” متعدد المواهب جدًا، هذا التعدد الشديد، من الممكن أن نعتبره مؤشرًا إلى أنه يفتقر إلى رؤية حياتية أو سينمائية. ومع ذلك، فهذا الافتقار أو النقص تحديدًا هو ما تتهم به أنت أسلافك الفرنسيين.
تروفو: لكن “هوكس” يمتلك فعلاً رؤية حياتية وسينمائية! على سبيل المثال، إنه أول مخرج أمريكي يظهر النساء كمساويات للرجال (أنظر كيف يتناول “لورين باكال” مقارنة بـ “هامفري بوجارت” في “النوم الأكبر”). إنه يعرف دائمًا ما يفعله. عندما قرر عمل “سكارفيس”، أدرك خطر فيلم عن أفراد العصابات القذرين، طلب من السيناريست الخاص به، “بن هيشت”، بإشراكه بتفكير مستمر في تاريخ “بورجياس” لكي يعطي الفيلم بعض المكانة المأساوية. إنه من ندين له تقريبًا بحب المحارم بين “جورج رافت” وأخته في الفيلم.
تشارلز: باستثناء “جول وجيم” اعتدت إعداد روايات رثة إلى الشاشة. لماذا؟
تروفو: كثيرًا ما طلب مني إخراج الروايات العظيمة، مثل “الغريب” لـ”كامو”، و”لو موند ميولن” لـ”فورنيه”، و”رحلة منتصف الليل” لـ”سيلين”، وغيرها، وفي كل حالة كان يمنعني إعجابي بالكتاب من تحويله إلى فيلم. كانت “جول وجيم” استثناء لأنها كانت معروفة على نطاق ضيق جدًا، وأردت زيادة شعبيتها عن طريق جذب انتباه الجمهور الكبير إليها. لكن، بالرغم مما تقوله، لم أستخدم أبدًا رواية تافهة أو كتاب لم أعجب به. كُتّاب مثل “ديفيد جوديس” (مؤلف “هناك في الأسفل”، والتي هي أساس فيلم “اطلق النار على عازف البيانو”) و”وليام إيريش” (مصدر “العروس ترتدي الأسود” و”عروس المسيسبي”) لمثل هؤلاء الكتاب قيمتهم المتميزة، وليس لهم نظير في فرنسا. كتّاب القصة البوليسية هنا مقززون، بينما في أمريكا هناك كتّاب عظام مثل “هيمنجواي” في ذلك المجال. لكن لأن الكثير جدًا من الكتب تظهر كل سنة في الولايات المتحدة، فإن كتاب القصة البوليسية مجهولون عادة. من سخرية القدر، أن هذا يجعلهم أحرارًا. إهمالهم يجعلهم متواضعين، إنهم أحرار في أن يجربوا لأنهم يعتقدون أنه لن يعيرهم أحد انتباهًا مهما حدث. لا يتوقعون أن يقوم أحد بالتحليل، إنهم يضعون في كتبهم أي شيء يروق لهم.
تشارلز: لم أفكر في ذلك. من هنا، يعكسون الحياة كفوضى، كتشكيلة غير مفهومة. أنت ترى الحياة بهذه الطريقة، أليس كذلك؟
تروفو: نعم. لكن دعني أقول لك شيئًا. بعد مشاهدة “اطلق النار على عازف البيانو” والإعجاب به، طُلب من “هنري ميللر” أن يكتب تقديمًا للطبعة الجديدة من “هناك في الأسفل”، ولذلك كان يجب عليه أن يقرأ الكتاب. بعد ذلك اتصل بي ليقول لي إنه أدرك فجأة أنه في حين أن فيلمي كان جيدًا، فإن الكتاب كان أفضل. وعليه ها أنت ترى، أنا لا أصور تفاهات.
تشارلز: في المقابلة التي استضافك فيها “لويس ماركوريليز”، قلت إنه لا ينبغي على الناس أن يميزوا الأفلام الفنية عن الأفلام الأكثر تجارية، لأن الاختلاف الحقيقي الوحيد هو بين الأفلام الجيدة والسيئة. هل هذا اقتباس صحيح؟
تروفو: نعم.
تشارلز: لكن ألا يجبر بعض المخرجين المرء على عقد المقارنة التي تستنكرها؟ في فرنسا، الواحد يفكر في “بريسون”، الذي هو فنان عظيم لكن أفلامه تفشل في شباك التذاكر.
تروفو: النجاح التجاري هو نتيجة وليس هدفًا، فمثلاً “أورسون ويلز” لم ينجح هو الآخر، نصف أفلامه فقط يحقق أرباحًا كبيرة، وهكذا.
تشارلز: حسنًا، ثم…
تروفو: حسنًا، أعتقد أنك مازلت تهوّن وتبسّط من شأن هذه القضية في أمريكا. قلت إن أفلام “هوليوود” تجارية وأن أفلام “نيويورك” فنية. ذلك خطأ.
تشارلز: بلا شك! هناك توتر مدهش في أفلامك. في معظمها، يشتاق البطل ويبحث عن الأمن بينما تواصل تقنيتك التأكيد على أنه لا شيء في العالم آمن أو دائم.
تروفو: بالضبط. في الحقيقة، قلت كثيرًا في “لوفيجارو”، الشيء نفسه فيما يتعلق بفيلمي الأخير “النوم والطعام”.
تشارلز: لندع ما يتعلق بـ “النوم والطعام” لبرهة. يبدو لي أيضًا أن تقنيتك لم تكن متشبعة جدًا بالقلق مؤخرًا.
تروفو: ربما. لكن بالنسبة لي لم تكن الحياة مؤخرًا قاسية جدًا!
تشارلز: أحد الثوابت في أفلامك كان موضوع الحب. لا أطلب منك أن تكون فيلسوفًا، لكن هل أنت مدرك لبعض المفهوم المستقر عن الحب الذي يتكرر في تفكيرك أو شعورك والذي تعكسه في عملك؟
تروفو: ليست لديّ أفكار عن هذا الموضوع، فقط أحاسيس، لا شيء أكثر مما أضعه في أفلامي.
تشارلز: حيثما تعاملت مع العاطفة الجنسية، كنت تبقيها بعيدة، لم تسمح لنا أن نراها عن قرب. لماذا؟
تروفو: أنا لا أعرف.
تشارلز: الموسيقا مهمة للغاية في أفلامك. كيف تختار المؤلف الموسيقي؟ وبعد اختيارك له، ما مدى السيطرة التي تمارسها على عمله؟
تروفو: في الواقع، أنا أتحاشى الموسيقا في أفلامي، مثل المخرجين الآخرين (لنأخذ بعين الاعتبار بونويل وبرجمان)، الذين لا يلجؤون إلى ستخدامها على الإطلاق. ورغم ذلك، فليس من الممكن دائمًا أن تعمل بشكل كلي بدون استخدام الموسيقا، وأنا لم أحب أبدًا الموسيقا التي استخدمتها. أحب الموسيقا الموجودة في فيلم “400 ضربة” و”اطلق النار على عازف البيانو” لكنني لست شديد الحماس للموسيقا الموجودة في “جول وجيم”. الموسيقا في “الجلد الناعم” و”451 فهرنهايت” ممتازة، وبدرجة أقل في” العروس ترتدي الأسود”. حظي “قبلات مسروقة” بنوتة رائعة، ومثله “الطفل المتوحش”. لكن النوتة الخاصة بـ “عروس المسيسبي” ليست جيدة جدًا، وتلك التي في “النوم والطعام” فظيعة، بلا جدال.
تشارلز: بعد أن قمت بعمل هذا التلخيص، هل بوسعك أن تعمِّم فيما يتعلق بالمواصفات التي تحتكم أو تلجأ إليها في الموسيقا المصاحبة للفيلم؟
تروفو: إنه من الصعب جدًا أن تقول. أحب أن تنساب الموسيقا بشكل متواصل لا انقطاع فيه كالصور تمامًا. كلا، إنه من الصعب جدًا أن تعبر. حسنًا، أظن أنني يمكنني أن أقول أنه لا ينبغي للموسيقا أن توقف الفيلم، وهو ما يحدث عندما تكون النوتة الموسيقية غير متناغمة. على سبيل المثال، إذا استخدمت موسيقا الجاز أو البوب، فإن التأثير يكون مضادًا للسرد.
تشارلز: كنت قد قلت إنك لا تخطط أبدًا بشكل كلي لفيلم مقدمًا ولذلك ترتجل الكثير. ما الذي تعتمد عليه فعلاً لضبط وتنظيم ارتجالك؟
تروفو: الحوار والممثلين. أحاول خلق وحدات من الانفعال. لذلك، على سبيل المثال، قمت بتصوير كل مشهد من “النوم والطعام” في لقطة منفردة.
تشارلز: ألا تحاول أيضًا تصوير كل وحدة عاطفة أو انفعال ضد الوحدة التالية لها؟
تروفو: بالضبط. نعم، هذا صحيح تمامًا. على سبيل المثال، واحدة من لحظاتي المفضلة في “النوم والطعام” عندما يدخل “أنطوان” الشقة بعد زيارة صديقته اليابانية وتقطع الكاميرا على وجهه المذهول وهو ينظر إلى زوجته التي ألبِسَت على الطريقة اليابانية التقليدية. يضحك الجمهور, ولكن عندما تقترب الكاميرا من وجهها، نرى دموعها، وهذا يصدم المشاهد. إنه بالتحديد هذا التباين العاطفي هو الذي أحبه.
تشارلز: التمثيل في أفلامك طبيعي جدًا عادة، لكن الأوضاع التي يجد الناس أنفسهم فيها مكررة جدًا. هل هذا هدف متعمد؟
تروفو: نعم… كيف يمكنني الإجابة عن هذا؟ يستمر المرء دائمًا عن طريق التناقضات. إذا كان الوضع غير عادي، يجب على المخرج أن يجبر الممثلين على أن يكونوا واقعيين، والعكس بالعكس. لكن هذا شيء لا يمكن نفكر فيه مليًا، إنه تمامًا مثل اجتماع الخبز والنبيذ في قداس الكنيسة.
تشارلز: كثيرًا ما يقارن فيلمك “400 ضربة” بفيلم”صفر في السلوك”. هل تعتقد أن هذا الفيلم أو مخرجه، “جان فيجو”، أثرا عليك؟
تروفو: ذهب “جان فيجو” إلى أبعد مما ذهب أي شخص آخر – أبعد حتى من “رينوار” – في تحقيق صورة حقيقية وغير متكلفة وطبيعية. لذلك السبب، نتحدث نحن المخرجون الفرنسيون عن السر الذي امتلكه “فيجو”، وأننا نتوق إلى فهمه وسبر غوره بشكل جيد. أعتقد أن، الشخص الوحيد الذي سبر غوره بدرجة كبيرة تمامًا هو “جودار”، وفيلمه “على آخر نفس” هو الأقرب في الروح إلى “فيجو” عن أي فيلم فرنسي حديث. كان السبب الوحيد للاستشهاد بـ “فيجو” كثيرًا بمناسبة “400 ضربة” هو أن هناك أفلامًا فرنسية قليلة جدًا تتناول الأطفال، لدرجة أنه عندما يظهر أحد الأفلام التي تتناول الأطفال يتذكر الناس على الفور “صفر في السلوك”. وأنا بدوري تأثرت بنفس القدر، في الواقع، بأفلام “روسيلليني”، وقبل كل شيء بـ “ألمانيا عام الصفر”، أكن له إعجابًا كبيرًا.
تشارلز: “400 ضربة” فيلم عرضي جدًا. هل قدمت أيًا من الأحداث العرضية أثناء التصوير؟
تروفو: لا. التزمنا بالنص دون تحريفات.
– لماذا وضعت في “400 ضربة” ذلك المشهد القصير “الضيف” بين “جين كلود بريالي” و”جان مورو”؟
– كان “بريالي” صديقًا لي وعرض أن يظهر سريعًا في الفيلم، وتحضر “مورو” معه. ونظرًا لأنني كنت على دراية بعملها كممثلة مسرح، فقد كنت سعيدًا جدًا بالموافقة.
تشارلز: يحدث هذا النوع من الأشياء كثيرًا جدًا في أفلامك. على سبيل المثال، ظهر أحد زملائك في شركة الأفلام في كل من “عروس المسيسبي” (حيث لعب دور شريك “بيلموندو” في التجارة) وفي “النوم والطعام”. في الفيلم الأخير ظهرت “هيلين سكوت”، التي كانت مترجمتك في حوارك مع “هيتشكوك”، ظهرت لفترة قصيرة. ويمكنني الاستمرار في سرد المزيد. لماذا تفعل هذا؟
تروفو: ولِمَ لا؟
تشارلز: هذا غريب جدًا! ماذا عن إعطائي إجابة أكثر جدية. هل تدرك أنك قد تم انتقادك بصورة كبيرة من جراء هذا. قال النقاد أنك تمارس لعبة طفولية، تضايق مشاهدوك بحك أنوفهم نتيجة جهلهم بحياتك، وذوقك.. إلخ. هل تقول أن هذه الانتقادات هي هراء لا قيمة له، أم لديك بعض الدفاع عن هذه الممارسة؟
تروفو: إنه سخيف أن ينتقد هذا. الجمهور العام غير مدرك أنني أضع أصدقائي في أفلامي. قليل من الناس فقط الذين يدركون طبيعة ما أفعله. علاوة على ذلك، لم أكن لأفعل هذا أبدًا إذا اعتقدت أنه قد يضر قصتي بأية حال. على العكس، أحيانًا ما أفكر أثناء الكتابة، “هذه الشخصية بالضبط مثل (س) من معارفي. لماذا لا ندع (س) يلعب الدور؟”
تشارلز: لكنه ليس وضع أصدقائك في أفلامك فحسب، إنها الدلالات كلها التي تشير من طرف خفي إلى الأفلام الأخرى – مثل جعلك “بيلموندو” في “عروس المسيسبي” يتعافى في عيادة تدعى “هيرتيبايز”، والتي تلمح إلى “أورفيوس” لـ”كوكتو”.
تروفو: وما الفارق الذي تشكله للجمهور إذا كانت العيادة تدعى “هيرتيبايز” أو غيره. إنها لا تنتقص من قدر أي شخص يجهلها أو لا يلمحها، كما أنها تضيف للشخص الذي يتعرف عليها. لكن هؤلاء، الذين يعرفون كيف أعمل ويفهمون عشرة من التلميحات الموجودة في واحد من أفلامي يصيبهم ذعر شديد من أنهم فقدوا عشرة آخرى، ولذلك بدافع من غرورهم الخاص يدينون هذه اللعبة بالكامل – التي هي بالمناسبة، ليست قاصرة على إعمالي وحدها.
تشارلز: في “400 ضربة” كيف تريدنا أن نستجيب ونتفاعل مع المشهد الذي يدور فيه “أنطوان” في آلة الطرد المركزي؟ ذلك المشهد تعرض للتأويل المتباين تباينًا شديدًا.
تروفو: لم أفكر أبدًا فيما سيكون عليه رد فعل الجمهور. أردت ببساطة إظهار طفل في وضع جديد عليه، كما أنني أردت تجنب الكلشيهات المعهودة – فيقال مثلاً، أظهره فوق قطار الملاهي – اخترت آلة الطرد المركزي.
تشارلز: في “400 ضربة”، أثناء تلك المقابلة الرائعة مع “أنطوان” والعالم النفسي، لماذا لم تظهر العالم النفسي؟
تروفو: كان على المشهد أن يُرتجل. بدأت بتصوير نسخة 16مم والذي باستخدامه سألت “ليود” (الذي لعب دور “أنطوني”) أسئلة، وأجاب بعفوية. عندما وصلنا إلى هذا المشهد في التصوير الفعلي، قررت أن ما كنا قد حصلنا عليه كان أقل من أية محاولة على 16مم، والذي كان وليدًا حيًا جدًا. ولاستعادة تلك الحيوية والبكارة والجدة، تبنيت طريقة عمل غريبة. قلت للجميع أن يغادروا مكان التصوير باستثناء ليود والمصور. ثم قرأت بصوت عالي أسئلة العالم النفسي المكتوبة مسبقًا، طالبًا من “ليود” أن يرد على الفور بما يخطر في باله. أثناء ما بعد التواقت أو التزامن جعلت أسئلتي تقرأ بواسطة الممثلة التي لعبت دور العالم النفسي. لكن، نظرًا لأنني أردت امرأة ذات صوت ناعم رقيق، والتي كانت في ذاك الوقت حامل بدرجة كبيرة ولذلك كانت كارهة أن تظهر في اللقطات، كان لدي صوتها فقط وليس شخصها، لذلك تسمعها ولا تراها.
تشارلز: هل لهذا السبب نجد أن المشهد ممتلئ بالتلاشي (الديسولف) الداخلي المتعدد والمتكرر.
تروفو: بالضبط لأنني عندما صورت المشهد أصلاً، تخلصت من فتاة السيناريو والولد الخاص بالكلاكيت من مكان التصوير، ولم أجعل أحدًا على الإطلاق يراقب اللحظات الدقيقة الخاصة بالقطع وهكذا كنت أستخدم التلاشي الغامض نسبيًا ليغلف كل العلاقات والروابط بين الأجزاء أو القطع الخاصة برد “ليود” الذي قررت الاحتفاظ به.
تشارلز: ينتهي “400 ضربة” بلقطة التجمد الشهيرة لـ “أنطوان”، لكن ذلك التجمد كان متوقعًا بشكل مستمر في الفيلم. على سبيل المثال، هناك تجمد “أنطوان”، عندما تأتي الأم إلى المدرسة وتسمع أنه قد قال إنها كانت ميتة، وعندما يتم تصوير “أنطوان” بواسطة الشرطة، وعندما يعتني بالصديق الانسحابي المنعزل في سلسلة اللقطات الخاصة بالإصلاحية، إلخ. هل هذه الموتيفة مقصودة؟ إذا كان الأمر كذلك، فإنها توحي، إن جاز التعبير، إلى أن نهاية “أنطوان” كانت محتومة.
تروفو: لم تكن لدي مثل هذه الخطة. علاوة على ذلك، تجمد كالذي حدث في قسم الشرطة ببساطة كان نتيجة عرض صورة فوتوغرافية ثابتة. وكان التجمد النهائي نتيجة حادث. أخبرت “ليود” أن ينظر إلى الكاميرا. وقد فعل، لكنه حوّّل عينيه سريعًا إلى البعيد. نظرًا لأنني أردت تلك النظرة القصيرة فقد أعطاني إياها لحظة استدارته، لم يكن لديّ أي خيار سوى التقاطها: لذا حدث التجمد.
تشارلز: يخبرنا المشهد الافتتاحي في “اطلق النار على عازف البيانو” أن الفيلم يتراوح أو يتنقل ذهابًا وإيابًا بين العواطف الزاهية والقاتمة. أليس هذا أيضًا مدخل إلى موضوعك؟
تروفو: أنا لا أعرف. كلا، إنه نابع من “جوديس”. عندما أقوم بعمل فيلم عن عمل لكاتب، أحب قراءة كل كتبه. ذلك المشهد الذي تشير إليه يوجد في رواية أخرى لـ”جوديس”. فقط ظننت أنا أنه ملائم هنا.
تشارلز: لماذا؟
تروفو: إنه ينبض بالحياة ومدهش. يوطد ويرسخ نبرة الفيلم.
تشارلز: كما توقعت أنا. لكن الشخصيتين تناقشان فيه تعريف الحب، الذي يشير إلى موضوعك. بدون ذلك المشهد يمكن أن يشعر المشاهدون بأنهم كانوا يرون مجرد قصة عن رجل عصابات.
تروفو: افترض هذا. هل تعرف أنني عندما أقوم بتصوير قصة رجل عصابة، أشعر بالأمان: أعرف أن الصور ستخلق الحبكة لذلك يكون بوسع الحوار التركيز على الحب. من ناحية أخرى، عندما أتناول قصة يكون موضوعها الحب، يجب عليّ أن أقحمها في قالب قصة بوليسية. هذا هو ما دفعته إلى منتهاه في “العروس ترتدي الأسود”. نحن نعرف أنه يجب على البطلة أن تقتل خمسة رجال، لذلك ليست هناك حبكة إثارة. بدلاً من ذلك، أخلق جو التشويق حول الشخصية بألا أجعل البطلة تتحدث عن بواعثها أو دوافعها أبدًا. إنها تذهب إلى كل مكان، لا تقول شيئًا، والرجل يغازلها.
تشارلز: أنا سعيد بسماعي لما تقول. لم أعتقد أبدًا أن هذا الفيلم قد فهم بشكل مناسب. اعتقدت دائمًا أنه كان عن معنى الحب.
تروفو: إنه الفيلم الذي يوضح خمس طرق مختلفة للتعامل مع المرأة.
تشارلز: كل الطرق سيئة، الأمر الذي جعلها تصبح نوعًا من الملاك المنتقم، تصرع الرجال بالنيابة عن جنسها.
تروفو: بالضبط.
تشارلز: من هنا كان كل قتل يعكس طبيعة الضحية. على سبيل المثال، الضحية رقم واحد لم تتمتع بأية قدرة على الوفاء والإخلاص. في يوم عرسه، استطاع أن ينسل ويخرج إلى البلكونة، حيث لا توجد مسألة تستدعي ذلك، سوى أنه أراد مغازلة “مورو”، التي كانت واقفة هناك. سمح لها هذا بالتخلص منه. الضحية الثالثة، الذي كانت زوجته غائبة، أراد أن يختلي بها، حتى يمكنهما ممارسة الحب، لكن كان ينبغي عليه أولاً التخلص من ابنه، لذلك، تتمكن هي من إقناعه بممارسة لعبة الاختباء وأثناء اللعب، تتمكن من حبسه في خزانة غرفة صغيرة.
تروفو: نعم لكن تلك التفاصيل كلها موجودة في الرواية. فقط ينشأ تصوير أو خلق الشخصيات معي.
تشارلز: في هذه الجريمة الأولى، عندما نرى اللقطة الخاصة بوشاحها وهو يسقط إلى أسفل، هل قصدت بتلك الوسيلة أن تعترض سبيل استنكارنا واستهجاننا لها، لأن اللقطة معبِّرة جدًا وتشعر المتفرج بالرضا والسرور؟
تروفو: لا. كانت مجرد مصادفة بشكل كامل. كنت أعتقد أن الوشاح سيسقط بسرعة شديدة. بالصدفة البحتة تسبب تيار الهواء في سقوطه ببطء شديد وبحركات رقيقة. أحببت ذلك، ولذلك تتبعت مساره كله حتى النهاية.
تشارلز: هل قصدت أن تكون الشخصية التي أداها “تشارلز دنير” تعاني من جنسية مثلية كامنة؟
تروفو: لا أعرف.
تشارلز: في “اطلق النار على عازف البيانو” عندما كان “شارلي” و”لينا” يسيران معًا للمرة الأولى وكان يحاول أن يقرر هل يقدم على مغازلتها وإغوائها، نراك قد جعلت ضميره يتحدث بصوت مختلف عن صوته هو. لماذا؟
تروفو: لأن صوت “شارل أزنافور” متمكن ويناسب تلك اللحظة.
تشارلز: مؤثر آخر غريب: عندما يبلغ مالك البار عن “شارلي”، يظهر في ثلاث إطارات بيضاوية، ينتقل عبرها جميعًا. لماذا أظهرته كذلك عن طريق الكاميرا؟
تروفو: لا أعتقد أن هذا قد نجح. ربما كان من الممكن حذفه.
تشارلز: أنا لا أفهم المونتاج في مشهد الحب بين “لينا” و”شارلي”. تصميم شكل اللقطات والتلاشي (الديسولف) غامض بالنسبة لي.
تروفو: أردت إعطاء انطباع اللحظة العابرة، وانقضاء الوقت ومرة أخرى، لأن صوت “أزنافور” رصين وموضع ثقة إلى حد كبير، لذلك قطعت قليلاً من كلام “لينا” واستخدمت النقلات التي ذكرتها لتوحيد اللقطات.
تشارلز: نعم، لكن هناك حذف في التسلسل الزمني، الذي هو أيضًا إن لم أكن مخطئًا، يسير أو يزحف ببطء أحيانًا.
تروفو: تذكرت الآن. أردت إعطاء انطباعًا بأنهما ينامان، يتحدثان، يعودان إلى النوم، يستيقظان، إلخ إلخ. لذلك بدت المسألة كما تقول.
تشارلز: إذا كان عليك أن تعطي تفسيرًا لمعنى هذا الفيلم، ما الذي ستقوله؟
تروفو: قمت بإخراج “اطلق النار على عازف البيانو” بدون تأملات أو أفكار أو خواطر. عندما شاهده الناس لأول مرة، قالوا، “لماذا قمت بعمل فيلم عن مثل هذا الانحطاط المقزز؟” لكنني لم أطرح هذا على نفسي. أنت ترى، أنا أحب جدًا الهبوط إلى أسفل. دائمًا ما يجذبني ويستهويني الجو المميز للقصة الخيالية الخاصة بالرواية البوليسية الأمريكية – كما كان الأمر في “العروس ترتدي الأسود”. كلا الفيلمين على غرار أفلام “كوكتو”، يمزجان العناصر النموذجية الأمريكية والعناصر النموذجية الفرنسية ولذا تحقق الأثر الدائم، بدون البلد، أي حدث تجاوز للزمان والمكان.
تشارلز: ليس من هذا العالم.
تروفو: بالضبط. وصف جيد. لا ينتمي إلى هذا العالم. هذا ما أريده. عندما شاهد “جودار” اطلق النار على عازف البيانو” قال: “هذا هو الفيلم الأول الذي تدور أحداثه في بلد خيالي”. لا أعتقد أن أحدًا سوف يقول في بداية الفيلم، “إن هذه الأحداث تدور في عالم خيالي محض”، لأنه عندئذ بالتأكيد سيشعر الجمهور بخيبة الأمل نظرًا لأنهم ينتظرون الكثير جدًا. لكن يجب جعل الجمهور يشعر تدريجيًا، أثناء مشاهدته للفيلم، أنه ليس في مكان بعينه.
تشارلز: في “جول وجيم”، ما هو رأيك في “كاترين”؟
تروفو: إنها رائعة تمامًا. إذا قابلت امرأة كهذه في الواقع الفعلي، لن ترى فيها سوى أخطاء فقط – وتلك الأخطاء هي ما تجاهله الفيلم.
تشارلز: ليس بشكل كلي. في الحقيقة نقاد كثيرون – على الأقل في أمريكا – جزموا بأن “كريستين” كانت ساحرة، عصابية، آكلة للحوم البشر.
تروفو: تعرف ما الذي قاله طبيب نفساني فرنسي: “إن (جول وجيم) يدور حول طفلين يحبان أمهما”.
تشارلز: فيما يتعلق بك وبتقديرك، لماذا تقوم “كاترين” بقتل “جيم”؟
تروفو: لأن هذا يحدث في الصفحات الأخيرة من الرواية. حتى الصندوق الصغير الذي كان يحترق هو مستمد من الرواية. كل شيء قمت بإبرازه وتصويره هو من الرواية، ولا يمكنني أن أقول لماذا قامت هي بقتله لأن الكتاب لم يقل هذا. إنها ليست رواية نفسية. إنها ببساطة قصة حب بدأت ثم انتهت. إذا كان هناك اختلاف واحد بين الفيلم والكتاب، فهو أن الفيلم أكثر مثالية وبيوريتانية. أنت ترى أنني كنت دون الثلاثين عندما قمت بعمله، بينما كان مؤلف الرواية رجلاً في الثالثة والسبعين.
تشارلز: لماذا ضمنّته المشهد التسلسلي الخاص بإحراق الكتب؟
تروفو: لأن “جيم” ألماني، وتلك هي نيران حريق “الرايخستاغ”. بقدر ما كنت مهتمًا، حيث يشير ذلك إلى نهاية تلك الفترة أو ذلك العهد – فترة المخادعين والمدعين. علاوة على ذلك، يعدنا أو يهيئنا المشهد لاحتراق “جيم” و”كاترين” الذي ينهي الفيلم.
تشارلز: نعم. هذا البعد التاريخي مهم جدًا في الفيلم. ألهذا السبب يحتوي كل مشهد لاحق على “بيكاسو” من مرحلة لاحقة؟ أليست هذه هي الطريقة التي أشرت بها إلى مرور الزمن؟
تروفو: نعم.
تشارلز: هذا الفيلم مليء بالصور، وهذه القصة ممتلئة بالقصص. لماذا؟
تروفو: إن “جول وجيم” رواية خاصة بالسيرة الذاتية، كتبت بعد خمسين عامًا من الأحداث المدونة فيها. ما أعجبني في الكتاب لم يكن فقط القصة، بل المدى الزمني للحدث، الذي كان عليّ ترجمته وتصويره بطريقة ما في الفيلم. لذلك نادرًا ما قمت بتصوير الشخصيات عن قرب، وعندما فعلت، حاولت إعطاء رؤى كلية أو مناظر ذات أطوال كاملة. أردت أن يبدو الفيلم كألبوم لصور فوتوغرافية قديمة.
تشارلز: غالبًا ما تجيب عن أسئلتي حول نواياك بقولك إنك فعلت ما فعلته لتكون مخلصًا للرواية التي تعدها. ماذا عن “451 فهرنهايت”، الذي هو غير موافق إلى حد بعيد مع الروح التي عليها مصدره؟ إن رواية “براد بري” هي قصة رمزية عن الفترة المكارثية، حيث تطغى السياسة على موضوعها بدرجة كبيرة. هل كنت مدركًا لهذا؟ على أية حال، لماذا لا يظهر البعد السياسي في فيلمك؟
تروفو: إنه ليس من ذلك النوع الذي يستهويني. عادة ما أعمل الأفلام عن الكتب التي أعجبت بها، كما قلت لك. كان “451 فهرنهايت” مختلفًا؛ كنت أتحدث يومًا مع صديق عن الخيال العلمي، حيث أخبرته أنني لا أحبه لأنه بعيد جدًا عن الواقع، تحكمي جدًا في أحداثه، غير قادر على بعث أية عواطف داخلي. ذكر لي صديقي، أثناء عملية المناظرة والتفنيد بيننا، شيئًا عن حبكة كتاب “براد بري”، واصفًا مجتمعًا تم تحريم الكتب فيه، ولم يكن لرجال الإطفاء فيه من دور سوى إضرام النيران لإحراق الكتب بدلاً من إخمادها، والناس الذين كانوا يرغبون في القراءة كانوا يضطرون إلى حفظ النص عن ظهر قلب. عندما سمعت كل هذا، قررت على الفور أن أعمل الفيلم، لكنني في الواقع لم أكن قد قرأت الرواية.
تشارلز: هل لديك شعور خاص تجاه الكتب؟
تروفو: كلا. أحبها والأفلام على حد سواء، لكن بأية طريقة أحبها! عندما شاهدت “المواطن كين” للمرة الأولى، كنت متأكدًا أنني لم أحب شخصًا في حياتي أبدًا بالطريقة التي أحببت بها ذلك الفيلم. عبّرت عن شعوري هذا في ذلك المشهد في “400 ضربة” عندما أشعل “أنطوان” شمعة أمام صورة “بلزاك”.
تشارلز: تقول إن السياسة لم تكن تهمك كموضوع في “451 فهرنهايت”. لكن رغم الإشارة المرجعية لدى “براد بري”، إلا أن فيلمك به تلميح طفيف للاستعارة السياسية. يرتدي رجال الإطفاء زي شبه نازي، ولدى “أوسكار ويرنر” لكنة ألمانية غليظة، وأي شخص يرى الفيلم بعد مشاهدة “جول وجيم” يرى في تسلسل الفيلم الإخباري الذي ظهر في بداية الفيلم عن حريق “الرايخستاغ” نوعًا من نموذج “451 فهرنهايت”.
تروفو: في الأصل، “451 فهرنهايت” كان المفروض إخراجه في فرنسا مع “جان بول بيلموندو”. ولم أتمكن من العثور على تمويل هنا ولذا كان يجب عليّ أن أصوِّر الفيلم في إنجلترا مع “أوسكار ويرنر”، الذي لم يكن اختياري الأول لدور البطولة. لم أرد ممثلاً من نوعيته – شخص آخر شاعري أكثر منه سيكولوجي – لكنني لم أرد ممثلاً بلكنة ألمانية، داومت أثناء التصوير على إرشادي له أن يؤدي دور “منتاج” برقة، لكنه قرر أداء الشخصية كرجل نازي.
تشارلز: بدءًا بـ “فهرنهايت”، يبدو تأثير “هيتشكوك” محسوسًا. هل لهذا السبب جعلت التصوير يتم في الاستديو واستخدمت مناظر الخلفية على طريقة “هيتشكوك”؟
تروفو: هذا لا يمت بصلة لـ “هيتشكوك”. كنا في إنجلترا، فوق ذلك أردت إظهار الريف الفرنسي. وبناء على ذلك، كان يجب عليّ أن أصور في استديو وأن أسقط صور ومناظر الريف الفرنسي على شاشة خلف الحدث.
تشارلز: لديّ انطباع أن هذا الفيلم أصابك بالسأم بينما كنت تعمله. أول خمس عشرة دقيقة ناجحة تمامًا: توتر وحركة. بعد ذلك بددت التوتر بحفنة من النكات بدت هادمة لجدية الفيلم. على سبيل المثال، عندما يقود الرئيس “سيريل كوزاك” رجال الإطفاء في بحث عن كتاب في حديقة عامة، يجد كتابًا صغيرًا جدًا في عربة طفل ويهز إصبعه مهددًا ومتوعدًا الطفل. بعد ذلك، عندما كان “منتاج” قد بدأ القراءة ثم يزيحه عامود الإطفاء (حيث يصعد الرجال إلى أعلى بدلاً من أن يهبطوا إلى أسفل)، تحول إليه “كوزاك” وهو يقول، “ما هذا يا (منتاج)، يوجد شيء ما ممنوع بينك وبين العمود؟” في نهاية الفيلم، عندما نقابل ناس الكتب الذين أصبحوا “كتبًا”، تظهر مجموعة من التوائم، الأول اسمه “الكبرياء”، والآخر اسمه ” العاطفة”. وهكذا.
تروفو: ها – ها. تعرف أنه من المجحف لي عمل فيلم عن “موضوع كبير”. وجدت هذا الفيلم مفتقرًا للدعابة ولذلك وضعت فيه تلك النكات التي ذكرتها أنت. لكن ربما كان بعضها خطأ. أنت ترى لو كنت عملت هذا الفيلم بالفرنسية، كان من الممكن أن تكون سيطرتي على اللغة كاملة، في الإنجليزية، لم أعرف أبدًا بالضبط إذا كان هذا السطر أو ذاك صحيحًا. تعلمت بعملي لـ “فهرنهايت” أن للحوار أهمية في الفيلم أكثر مما تصورت. إنه في الواقع أهم شيء، وهو مع الصور، إن كانت جيدة، يبلغ سبعين بالمائة من الإشباع الممكن، وبالحوار يحرز المرء ربما تسعين بالمائة. ومثلما تكون الصفحات الأكثر تميزًا أو انتسابًا للمرء هي بصمته الخاصة، يكون الحوار هو البصمة الخاصة للفيلم. في “451 فهرنهايت” كنت مكبلاً بسيطرتي المحدودة أو غير التامة على الحوار، ولذلك، كنت محبطًا. منذ ذلك الوقت، ستلاحظ، تحتوي أفلامي على كثير من الحوار بها.
تشارلز: بما أنك تحب الحوار كثيرًا، لماذا لا تكتب المسرحيات؟
تروفو: إنني أضيق ذرعًا بالمسرح. الأداء ليس كما هو عليه كل مساء. بالإضافة إلى ذلك، أكره التحدث إلى عدة أشخاص في وقت واحد؟
تشارلز: لا يمكنني العثور على أي مغزى في ” الجلد الناعم”. يبدو تقريبًا كفيلم وثائقي.
تروفو: لكنه فيلمك وثائقي مليء بالإثارة بشكل قوي!
تشارلز: إنني أتساءل عن ذلك وعن اللامعقولية التي يعج بها. لماذا يتحتم على بنت جميلة جدًا أن تنجذب إلى بطل في منتصف العمر، “لا شيناي”؟
تروفو: لكن ذلك طبيعي جدًا. في الحياة لا يتوقف المرء أبدًا عن التساؤل والتعجب عما يراه شخص ما في شخص آخر.
تشارلز: جيد. أتقبل حقيقة أنها واقعة في حبه، لكن هل أتصور أنها تقضي كل تلك الساعات جالسة في المطعم مستمعة إلى محاضرته عن “بلزاك”؟
تروفو: حتى الرجل غير الجذاب يصبح جذابًا عندما يتحدث عن عمله. لذلك جعلته يتحدث عن “بلزاك” ليس بطريقة عملية لكن كما لو كان يصف مباراة كرة قدم. كان انغماسه العميق في موضوعه يحركها ويؤثر فيها.
تشارلز: هل تعتقد أن “فرانسوا دو لوريس” تنصت بهذه الطريقة؟
تروفو: إنها ليست بحاجة لإظهار اهتمامها. إنها بنت القرن العشرين المبهورة برجل من القرن التاسع عشر.
تشارلز: الفيلم مليء بمشاهد موضوعاتها خالية من الأحداث. هل تحاول تأسيس أسلوب معين بهذه الواقعية الصامتة؟
تروفو: إن ذلك لم يعط أسلوبًا للفيلم، إنه الأسلوب الخاص بالفيلم، النابع منه.
تشارلز: يبدو فيلم “قبلات مسروقة” أكثر ارتجالية من أفلامك الأخرى.
تروفو: لقد كان كذلك بالفعل.
تشارلز: كيف حدث الارتجال؟ هل كنت أنت أم “ليود” الروح المرشدة في هذه الارتجالات؟
تروفو: فرض الارتجال على كلينا بسبب الحالة اليائسة التي كنت عليها وقت عمل الفيلم. لم ينجز شيء. كنت بالفعل قد كتبت “الطفل المتوحش”، و”عروس المسيسبي”، وعلى الرغم من ذلك فقط كنت مشغولاً بمشروع سيئ، دخلته لأنني أردت عمل فيلم آخر مع “ليود” لكن لم أتمكن من العثور على أية مادة. بدأنا من لا شيء من الفراغ الذي كان يجب ملئه. قلنا، “لنجعل البطل يحظى بحبيبة، دعه يقيم علاقة مع امرأة متزوجة، دعه يعمل مع وكالة استخبارات، إلخ”.
تشارلز: ما الذي اعتمدت عليه في توحيد كل هذا معًا؟
تروفو: إنه “ليود”. هناك ممثلون مهمون حتى لو وقفوا فقط أمام أحد الأبواب، “ليود” أحدهم.
تشارلز: واحد من أفضل مشاهدك في “قبلات مسروقة” يحدث عندما يحضر الشاذ إلى المخبر بحثًا عن خليله المفقود. اليد المغطاة بقفاز تداعب اليد الأخرى، موحية ببراعة، لكن بشكل جلي بطبيعة الرجل الشاذة.
تروفو: كانت هذه الإشارة مرتجلة. اهتدينا إليها لأن كل شيء متعلق بتلك الشخصية احتاج لأن يكون غريبًا.
تشارلز: إنها ممتعة بصفة خاصة لأن حب الشاذ أكثر قوة وأكثر تأثيرًا من العلاقات العادية لـ “أنطوان”.
تروفو: لكن هذه القصة حقيقية حيث اكتشفها صديق أثناء مقابلة مخبر. طبيب الأسنان الموجود في الفيلم مستمد أيضًا من الواقع الفعلي. كل شيء في ذلك الفيلم حقيقي.
تشارلز: واحد من أكثر مشاهد الفيلم إثارة للدهشة يظهر فيه “أنطوان” وهو يحدق في المرآة ويردد إسمين، إسمى امرأتين في حياته. كيف اهتديت إلى هذه الفكرة؟
تروفو: كنت بحاجة لإظهار أن “أنطوان” كان ممزقًا بينهما، لكن لم تكن هناك شخصية أخرى في الفيلم بإمكانه التحدث إليها. لذلك، كان عليه أن يتحدث مع نفسه.
تشارلز: إنها جذابة جدًا. لكن، هل تعرف، كثير من الناس أخذوا هذا النوع من الجاذبية ضدك. يقولون إنك ببساطة تتعمد مثل هذه التأثيرات لأجل زرع السرور، بعين تأخذ الجمهور في اعتبارها.
تروفو: لكن المشهد ليس جذابًا. إنه طويل ويجعل الناس قلقين. في ألمانيا، قطعوا هذا المشهد.
تشارلز: لكن ماذا عن المغزى العام؟
تروفو: إن دور “أنطوان” قريب جدًا إلى “جان بير ليود” لدرجة أننا لم نفكر أبدًا في الآخرين. على سبيل المثال، لم يتشاجر “أنطوان” أبدًا مع أي شخص في الأفلام لأنني على نفس الشاكلة. إذا اندلع شجار، أغادر المكان ببساطة.
تشارلز: هل لهذا السبب لا تصحح سوء الفهم الخاص بأعمالك؟
تروفو: تصورت أنني قمت بتقديم الآباء و”أنطوان” في “400 ضربة” بصورة طبيعية جدًا. كان الآباء مذنبين في إظهارهم لمقدار صغير جدًا من الحب، لكن، برغم كل شيء، كان “أنطوان” صعبًا جدًا. لذلك، مما أدهشني، أنني وجدت أن الجماهير اعتقدت أن الفيلم مال إلى جانب الطفل. لكن المرء يتعلم أن يتعايش مع سوء الفهم. مجرد انتهاء الفيلم، هذا هو كل ما أهتم به.
تشارلز: هل شعرت في أي وقت بنفس الشعور كناقد؟
تروفو: لم أفهم أبدًا معنى فيلم. أنا واقعي وحسِّي جدًا. أفهم ما هو على الشاشة فقط. على مدار حياتي بأكملها، لم أفهم رمزًا واحدًا أبدًا.
تشارلز: أريد أن أتحدث بعض الوقت عن “عروس المسيسبي”. أشار “أندروس ساريس” إلى أن الفيلم تم الاقتطاع منه في نيويورك.
تروفو: رغم أن الفيلم لم يكن باهظ التكلفة، إلاّ أن اتحاد الفنانين اعتبره مشروعًا رئيسيًا، وبسبب أسماء النجوم كانت تحدوا الجميع آمال كبيرة في نجاحه. لكن الفيلم أخفق إخفاقًا كبيرًا في باريس. لم يحظ بإعجاب النقاد، ولا الجماهير – ربما لأن “دينيف” و”بيلموندو” لم يظهرا في أدوارهما المعتادة. بسبب الاستقبال الذي لاقاه الفيلم في باريس، طلب مني اتحاد الفنانين أن أسمح لهم باقتطاع حوالي ثمانية دقائق من الفيلم عندما افتتح عرضه في نيويورك. كان يمكنني أن أرفض، لكن في هذا الخصوص أكره رؤية أناس يفقدون أموالاً بسببي. كان يجب عليّ أن أصمد وأتحمل، برغم ذلك، لأنه عندما افتتح الفيلم في اليابان، كشف عن نجاح ساحق: أكبر نجاحاتي وأكبر نجاحات لـ “دينيف” و”بيلموندو” صادفناها في أي وقت.
تشارلز: هل أنت الآن قادر على التحكم في القطع الذي يرغب المنتجين في عمله؟
تروفو: لن يتمكن المرء أبدًا من امتلاك تلك القوة. في أحيان كثيرة، لا يعرف المرء ببساطة ما الذي يحدث. على سبيل المثال، علمت بالقطع الذي تم في “قبلات مسروقة” فقط لأن الصحفي الذي شاهد الفيلم في سينما مدعمة حكوميًا، شكا من صدمته لرؤية القطع في الأفلام المعروضة تحت مثل هذه الرعاية. أجبر مقال الصحفي الموزع السينمائي على إعادة المشاهد المقتطعة. لكن، بالطبع، لا يحدث ذلك دائمًا، القليل جدًا هو ما يتم الإبلاغ عنه.
تشارلز: اعتقد كثير من الناس في الولايات المتحدة أن النجوم غير مناسبين في أدوارهم، لم تتوافر مصداقيتهم.
تروفو: عدم المصداقية ليس جريمة في كل الأفلام. “عروس المسيسبي” قصة خرافية للبالغين.
تشارلز: ألا تؤكد إلى حد ما على حقيقة أن كثير من أفكارك الجادة تتصالح مع الغير وتصل إلى حل وسط؟ على سبيل المثال، لماذا كنت تضع الخريطة الملونة لإعادة الاتحاد “ري يونيون” كلما ذهب “بيلموندو” إلى هناك؟ أنا شعرت بالحاجة إلى مزيد من الأصالة وإلى قليل من الحيل لتهيئة الجمهور لتصريحك النهائي عن الحب.
تروفو: هذا محتمل.
تشارلز: بدا لنا أن جزءًا من “451 فهرنهايت” أعيد توظيفه في الفيلم عندما كان “بيلموندو” يحلم في العيادة.
تروفو: بدا لي بنفس الكيفية أيضًا. في الواقع، تم تصوير المشهد باستخدام خط سكة حديد أحادي (مفرد) في “فهرنهايت”، في حين كان المستخدم في “عروس المسيسبي” طريق مُشجِر. إنه كذلك، أنت محق تمامًا، نفس التأثير لكن بأدوات مختلفة ووسائل مختلفة، لكنني أعتقد أنه نجح بشكل أفضل في “فهرنهايت”.
تشارلز: لماذا وضعت تلك اللقطة التي يتسلق فيها “بيلموندو” شرفة “دينيف”؟ لم أر في ذلك سوى فرصة لاستعراض اللياقة البدنية لـ “بيلموندو”.
تروفو: ليس على الإطلاق. وضعتها لأجل ذاتي. أولاً، صورت المشهد في ذلك الميدان لأنه سُمِّيَ باسم “جاك أودبيرتي”، وهو كاتب فرنسي أكن له إعجابًا عميقًا، ودائمًا ما أفكر فيه عندما أصنع أفلامي. أردت أن يكون الأمر شديد الصعوبة على “بيلموندو” كي يدخل إلى حجرة “دينيف”، بل وكذلك أردته أمرًا غير معتاد في الطريقة أو الأسلوب. لذلك لم يكن بوسعي أن أجعله ينتظر انصراف بواب المبنى أو يقوم بسرقة المفتاح بطريقة ما. عندما وصلت إلى الميدان، لاحظت أن هذا البيت متعدد الشرفات. أولاً، كانت هناك لافتة معلقة، حولتها إلى لافتة فندق (تقول اللافتة “فندق مونوريل” لأن “مونوريل” عنوان لإحدى روايات “أودبيرتي”). ثم فكرت أنني سأصور المشهد بأكلمه لـ “دينيف” وهي تغادر الفندق وتدخل الكباريه وعندئذ يذهب “بيلموندو” إلى الفندق ويتسلق شرفة تلو الأخرى، كلاهما في حركة واحدة للكاميرا دون قطع. كان هذا المشهد رائعًا. تمكن “بيلموندو” من التسلق ولذلك أتاح لي الفرصة لتصوير المشهد بالكامل دون قطع.
* من كتاب بعنوان “مواجهة المخرجين” (نيويورك: جي. بي. بتنام صنز، 1972) – المترجم.