محمد هاشم عبد السلام

 

يركّز المفكر الفرنسي الكبير بيير بورديو (30-2002) في هذا الكتاب الشيق وبطريقة مباشرة وحادة بعض الشيء، على الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام الحديثة، وفي القلب منها ذلك الجهاز الضخم الذي يسمى التليفزيون، وما تمارسه هذه الوسائل من “تلاعب وتأثير” في عقول الناس. ويبين أيضًا كيف تقوم هذه الوسائل، وبصفة خاصة الصحف والتليفزيون، بتشكيل الأفكار والوعي العام، وكيف تعمل آليات توجيه وتشكيل الوعي العام والرأي العام، ومن الذي يقوم بالتحكم في تنظيم وتوجيه أو إدارة هذه الآليات؟ هل هم الصحفيون أم الكوادر الإعلامية التي تعمل في هذه الأجهزة أم أنه النظام أو البنية التي يعملون داخلها؟ وكيف أن الصحافة، وبعدها التليفزيون، كان الهدف الأساسي منهما هو خلق أداة تنوير وتثقيف وتغيير للوعي والواقع لما هو أفضل، أو على الأقل القيام بعملية “إخبار” حقيقية صادقة لكل ما يجري وفي حيادية تامة، وكيف أنها غدت بفعل هيمنة قوى المال ونخب المصالح أداة تمرير لما يتطلبه السوق وعلاقات الربح من حيل إعلانية واستعراضات باذخة وباهتة المضمون، ومدى ساهمت في عزوف الناس عن السياسة والثقافة الجادة، وفي تعميم قيم الاستهلاك والسلبية والامتثالية.

ويعرض بورديو في هذا الصدد للمنافسة الشديدة، غير الشريفة في معظم الأحيان، بين الصحفيين بعضهم البعض داخل المجال الصحفي نفسه، وبين الصحفيين وغيرهم من العاملين في أجهزة التليفزيون بقنواته المتعددة، وبين هؤلاء جميعًا وبين مفكري التليفزيون، أصحاب وجبات الفكر السريع كما أطلق عليهم بورديو، وكيف أن الصراع يلقي بتأثيره العميق على الجمهور.

ويبحر بنا بودريو في هذا الكتاب الرائع رغم صغره، إلى ما وراء الخلفية التي تراها أعيننا على الشاشات الزائفة أمامنا، ويقدم لنا في ذلك نموذج شديد الانتشار والرواج وهو البرامج الحوارية أو “التوك شو”، والتي راح يفندها بدقة وبعين خبير متفحص، بدءًا من تركيب البلاتوه مرورًا بنبرات المذيع والضيوف المتحدثين من كلا الجانبين وانتهاء بالصراعات والمناقشات الحادة المفتعلة فيما بينهم، وفرض نمط التفكير السريع، وتقديم الندوات الزائفة، وانتقاء الأسئلة وعدم إعطاء الحق في الكلام لمن يملك أفكارًا جديدة أو جيدة، وكيف يجري الضغط على هؤلاء ومنحهم الحق في وقت غير ملائم. إلى آخر كل هذه التنويعات التي هي من أدوات التلاعب بعقول المشاهدين وتغيير وعيهم وممارسة الرقابة عليهم في نفس الوقت، ودفعهم إلى التفكير في أمور بعينها وفي اتجاه معين، وبالتالي بناء نمط معين قائم على هذا التوجيه الخفي.

وقد تعرض بورديو في هذا الكتاب إلى عدد من المصطلحات والتي منها ما يسمى بـ “الأوديمات”، أي نسبة المشاهدة، والتي أصبحت القنوات الآن لا يهمها سوى المحافظة على ارتفاعها بشكل مستمر بغض النظر عن مضمون ما تقدمه، وكذلك مصطلحات مثل “العنف الرمزي”، و”فن حجب المعلومات” إلخ.

ويوضح بورديو أن هؤلاء الإعلاميين جميعًا ما هم إلاّ مجرد ضحايا في بعض الأحيان، إلاّ أنهم في كثير من الأحيان متواطئين، وهو يشرح بالتفصيل وبعمق شديد وببراعة مدهشة عمق هذا التواطؤ.

والكتاب عبارة عن محاضرتين كان بورديو الذي رحل عن عالم في عام (2000) قد ألقاهما في إحدى القنوات المتخصصة، وجاء المحاضرة الأولى تحت عنوان “المسرح والكواليس”، والثانية تحت عنوان “البنية الخفية وتأثيراتها”. وأتبعهما بملحق جاء تحت عنوان “نفوذ الصحافة”، وآخر بعنوان “حول الألعاب الأوليمبية” وفيه تحليل قصير لهذه التظاهرة العالمية وما يكمن خلفها من خفايا وعنصرية بعض الشيء.

 

 

 

عنوان الكتاب: التليفزيون وآليات التلاعب بالعقول

الكاتب: بيير بورديو

ترجمة وتقديم : درويش الحلوجي

الناشر: دار ميريت للطباعة والنشر –  مصر

الصفحات: 150 قطع متوسط