محمد هاشم عبد السلام

 

يحظى فن السفن داخل الزجاجات بإعجاب عالمي بالغ، وبعدد كبير من المواقع على الشبكة الدولية، والعديد من المطبوعات والمجلات الدورية، والكتب التي تتناول تاريخها أو تشرح كيفية صناعتها، وكثير من المتاحف والجمعيات الخاصة في جميع أنحاء العالم. هذا الفن الشعبي، سنلقي عليه بعض الضوء، نظرًا لأهميته وصعوبته، ناهيك بعراقته وانتشاره كفن شعبي مجهول من أبدعوه، وغير معروف متى نشأ على وجه التحديد ولا من هم رواده، إلى آخره.

يُطلق عليها، “زجاجات البلادة أو النزوة”، لأنها لم تصنع لغرض بعينه خلا المُتعة أو التسلية والتحدي. وكلها لها جذورها الضاربة في تقاليد الفن الشعبي الألماني والسلافي بصفة خاصة. هذه التقاليد ترجع على الأقل إلى بواكير القرن الثامن عشر. منذ أن بدأ البحارة، على وجه التحديد، فن السفن الزجاجية، والعالم لا ينتهي إعجابه بهذه السفن الصغيرة جدًا. تلك المنمنمات المصنوعة ببراعة يدوية وعشق، بأيدي البحارة الخشنة أثناء ساعات راحاتهم أو رحلاتهم. وقد ظهرت هذه السفن في أماكن غريبة، حيث تخلى البحارة عن تذكاراتهم التي صنعوها بكدهم كهبات لحبيباتهم، وأصدقائهم، وأقاربهم، وفي الغالب، لدفع الديون التي كانت تتراكم عليهم في الموانئ بسبب ترفيههم وإقامتهم خاج السفن، وحتى من أجل مشروباتهم في الحانات. لكن، متى، أين، وأيضًا من أول من أوجد فكرة وضع السفن داخل الزجاجات؟

من الصعوبة بمكان تحديد هذا على وجه الدقة، لكن يمكن أن يكون مواكبًا لنمو صناعة الزجاجات الشفافة. لذلك، عادة ما يتحدد بتاريخ الزجاجة – عن طريق الاستدلال بشكلها وأسلوب صناعتها وعلامات الصانع على الزجاجة – عمر السفينة التي بداخلها. قد يكون هذا هو المعيار، لكن على وجه التقريب فحسب، إذ من المُحتمل أن تظل الزجاجة قابعة في ركن مظلم منسي لعدد غير معلوم من السنوات قبل أن يقرر أحدهم أن يُدخل سفينة فيها. وربما يُستدل على هذا بواسطة الصانع، فأقدم النماذج، ذلك الذي قام بتركيبه ووضع توقيعه عليها الإيطالي “جيوني بيوندو” سنة 1784. وهو موجود في “متحف تاريخ الفن والثقافة” بلوبيك، في ألمانيا، وقد تحدّد التاريخ بدقة لأن صانعها راعى أن يكون الشراع مناسبًا لكتابة التاريخ عليه. ولكن يبقى السؤال، أهذا أول وأقدم نموذج باق حتى الآن؟ لأنه في ذات الوقت يفرض، “بيتر هابار”، على صفحة موقعه (فينز نيو شتاد) ، أمثلة مُعقدة لما يُسميه “زجاجات الصبر”. معظم تواريخها ترجع لسنة 1744 – أي قبل نحو أربعين سنة من نموذج متحف لوبيك. وعدم تسميتها سفن داخل زجاجات، بل زجاجات الصبر، يشير إلى أن فن البناء داخل الزجاجات كان قد وصل بالفعل إلى حالة عالية ومتقدمة من الاتقان والكمال بحلول 1744.

وقد حملت تلك الزجاجات، غير المخصصة للسفن، عناوين متنوعة، “زجاجات التعدين” أو “زجاجات إنجريتشت” أي زجاجات “بداخلها حياة”. ومعظمها مستطيل ويحتوي على قصتين أو ثلاثة أو أربعة كاملة عبارة عن لوحات مُصورة تصف تعدين الذهب وعمليات الصهر، كلها بنيت بمقاييس رسم هندسي داخل الزجاجة. وتقريبًا المعروف منها مائة، وقد نشر المتحف النمساوي للسلالات البشرية قائمة بكل الأمثلة المعروفة منها سنة 1955. وقد نشأت معظم هذه الزجاجات في مقاطعات التعدين حول مدن “سكيمنيتز وكريمنتز” اللتين كانتا وقتها في منطقة تشكل جزءًا من إمبراطورية النمسا والمجر، والآن تقعان في جزء بشمال المجر. كل هذا يشير إلى وسط أوروبا أو إيطاليا، كمنبع أو أصل هذا الفن، رغم أن هذا غير مؤكد بعد.

وكان يُعتقد حتى وقت قريب أن أقدم وجود لزجاجة تعدين يرجع لسنة 1719، وصنعت بيد “ماتياس بتشنجر”، وهي محفوظة بأحد المتاحف البريطانية، لكن مؤخرًا ظهرت زجاجة تعدين أخرى ترجد إلى حوالي سنة 1700! إذن نحن نعود في الزمن ببطء. وبجانب تلك الأنواع، كانت مشاهد الصلب داخل الزجاجات معروفة أيضًا في أجزاء متنوعة من أوروبا مع نهايات القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر، الأمر الذي يرجح أن تلك الفكرة برمتها، بناء أشياء داخل زجاجات، فكرة أوروبية المنشأ تمامًا.

في الولايات المتحدة، أكبر عدد من هذه الزجاجات تم العثور عليه في الغرب الأوسط من بنسلفانيا وصولا إلى كنساس، وأبعد شمالاً حيث ميتشجان ومينسوتا. وتتراوح تواريخها بين الفترة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. واحدة من أكثر المجموعات شهرة كانت تلك المحفوظة لدى بنك محفوظات البحارة، في أوائل التسعينات في القرن العشرين، لكن تلك المجموعة بعضها تكسرت أوتم بيعها. لكن، وفقًا “لدون هيبرد”، الرئيس السابق لجمعية سفن في زجاجات الأمريكية: “نجح متحف الميناء البحري، بنيويورك في إنقاذ الزجاجات والمحافظة عليها”. وتتكون هذه المجموعة من قرابة ستين سفينة، بُنِيَت داخل زجاجات من تلك التي يتراوح حجمها حجم البيضة حتى جالون واحد. وكلها بنيت بواسطة مصرفي يدعى “تشارلز نيلسون” في ثلاثينات القرن العشرين. وأقدم سفينة أمريكية حتى الآن، تلك الموقّعة بـ “فنار جزيرة النار إي. جي. أوودال”، وترجع للفترة من 1886 إلى 1887.

وأقدم سفينة معروفة في كندا تلك المملوكة للمتحف القومي للحضارة، بأوتاوا. وهذه السفينة، واحدة من ثمانية في مجموعة المتحف، بناها أسير ألماني في معسكر أسرى في “فورتريس لويسبرج”، نوفاسكوتيا، أثناء الحرب العالمية الأولى. وللسجناء والأسرى حول العالم إسهامات ضخمة في هذا الفن. لكن ماذا عن اليابان والشرق الأقصى؟ رغم شعبيته البالغة الآن في اليابان، لكن هذا الفن حديث نسبيًا. كتب “جوزو أوكادا”، على الصفحة الرئيسية للجمعية اليابانية للسفن داخل زجاجات أنها دخلت اليابان لأول مرة في النصف الأخير من القرن الماضي. وذلك عندما عاد طلبة البحرية الحربية والتجارية لوطنهم من التدريب في أعالي البحار، وحملوا معهم من الغرب ذلك الشكل الفني الجديد أو غير المسبوق في اليابان. وإلى جانب ذلك، فإن الصنّاع اليابانيين للسفن داخل الزجاجات قد أضافوا لمستهم الخاصة الفردية: وهي إبداعهم بناء سفن تبحر في الزجاجات، حيث تكون وجهتها نحو قاع الزجاجة، بدلاً من الطريقة الغربية للإبحار نحو الخارج أو في داخل عنق الزجاجة.

 

كيف يتم إدخال السفينة في زجاجة؟

هذا الفن هو الوحيد الممل جدًا والشاق للغاية. ليست هناك طرق مختصرة لتنفيذه. ينبغي بكد واجتهاد صناعة كل قطعة في النموذج بمفردها، وفقًا للمقياس الصحيح، ناهيك بإدخالها خلال عنق الزجاجة بعد ذلك، واستخدام “الأصابع الميكانيكية” على بعد ثمانية بوصات أو أكثر بعيدًا عن الزجاجة ذاتها. يقول أحد المصممين “في منتصف الطريق، هناك وقت أقع فيه تحت إغراء قذفها خارج النافذة من فرط الإحباط المطلق…”.

على الفنان هنا أن يعود إلى الوراء، وأن يلجأ إلى الطرق العريقة الرصينة للصهر والسبك، والمطرقة والسنداد، كي يصنع أدواته لنفسه. فبجانب الصبر الشديد، يتطلب هذا الفن اليد الثابتة، وصُنع العديد من الأدوات ذات الساق الطويلة بين المقبض والسن، التي لا يمكن شراؤها من أي مكان. كل هذه الأدوات يتوجب بشكل خاص صياغتها بيد الصانع للتمكن من القبض على الشيء المراد جعله في متناول اليد. قال أحدهم ذات مرة: “إن طاولة عملي المصفوف عليها الخطافات ذات السيقان الطويلة، والمسباران، والكلاَّبات، والملاقط، التي تم فردها من أجل العمل، تبدو أكثر شبهًا بغرفة عمليات جراحية منها بمنضدة لصنع نماذج”.

يتحدد حجم النموذج، ومدى تعقيده أو بساطته وفقًا وشكل حجم الزجاجة. يتم قياس الزجاجة من الداخل وتحديد الحجم والقياسات والنسب. والخطوة الأولى في بناء سفينة داخل زجاجة هي إدخال نموذج البحر. وهذا يصنع من معجون التثبيت الملون، الذي يزود عن طريق  الأدوات إلى داخل الزجاجة، ويتم تثبيته بحرص بطلاء “الأكريلك” لتصوير بحر يترقرق بالأمواج. عيب المعجون أنه يأخذ فترة طويلة ليجف. وحيث أنه قد تمت تجربة المواد الأخرى السريعة الجفاف، لكن لم توجد بعد واحدة يمكنها أن توفر “إيقاع الحياة” للبحر مثل مادة المعجون. نتيجة لذلك، فإن المعجون يتطلب من ستة إلى ثمانية أسابيع كي يجف قبل إمكانية بناء السفينة عليه.

لبناء السفن الشراعية ذات الصواري القابلة للطي، فإنها تطوى للداخل مؤقتًا على امتداد هيكل ظهر السفينة، وبمجرد أن تنزلق عبر الرقبة إلى داخل الزجاجة، تنتصب الأشرعة لوضعها في الأماكن المناسبة. أما السفن البخارية والمتحركة بالوقود ذات المواتير، مثل العبارات السياحية واليخوت، والمدمرات، وحاملات الطائرات وسفن نقل الحاويات تكون دائمًا أكثر صعوبة، بسبب الاتساع الكبير لبدن السفينة ذات الموتور، والطريقة الوحيدة التي يمكن بها إدخال الهيكل خلال الرقبة هي تقطيعه إلى قطع، وبناؤه بالكامل داخل الزجاجة.

معظم الناس الذين سمعوا عن “سفن في زجاجات” أو “منمنمات الزجاج” إلى آخره، حتى من غير جامعي القطع الأثرية أو المهتمين بهذا الفن الشعبي، تعجبوا من عبقرية النحاتين واندهشوا من عملية بناء سفينة من خلال العنق الضيق لزجاجة. لكن أناسًا قليلين، يدركون أن هناك أشكالاً أخرى من الفن الشعبي في زجاجات، تلك الأشكال المتكررة على نطاق واسع والتي لديها سمات كثيرة مشتركة وشعبية. فموضوعات أخرى نُحِتت وتم تكييفها وتوضيبها داخل زجاجات، من ضمنها، مشاهد الحانات، مغازل، طيور بحرية وغير بحرية، حافلات، قطارات، آلات إطفاء، طائرات، دكاكين التبغ، المخابز، محلات الجزارة، بيوت، ومشاهد الصلب التي يعتقد أن صُنّاعها الأوائل كانوا من الروم الكاثوليك، والبروستانت، وهناك أمثلة منها ترجع إلى سنة 1886.

هل هناك ما يوازي صعوبة صنع هذه الزجاجات؟ نعم، بل ويكاد يكون أصعب، ليس لطبيعة النموذج المبني بالداخل هذه المرة، ولكن لأن ذلك النموذج مبني داخل لمبات الإضاءة، التي يتمتع زجاجها بصفائه وشفافيته، وإن كان أيضًا مكمن صعوبة لأنه رقيق، وهش، وقابل للكسر والتلف سريعًا مُقارنة بزجاجات السوائل. بالإضافة إلى أن القاعدة النحاسية التي تمثل طرف اللمبة صعبة الفك أو الحل جدًا، ولذا يتم وضع اللمبة في حمَّام كيميائي ساخن لمدة لا تقل عن خمس ساعات قبل بدأ العمل وإدخال النموذج المعروض بها ثم إعادة تركيب القاعدة النحاسية مرة ثانية.

 

المتاحف

المتاحف حول العالم كثيرة جدًا ومشهورة بمجموعاتها، وقد يوجد في الدولة الواحدة أكثر من متحف متخصص. ومن الدول ذات متاحف السفن في الزجاجات أو نماذج داخل زجاجات: الدنمارك التي بها متحف به ما يزيد عن 1700 نموذج في زجاجة، وألمانيا، وهولندا، واليابان، والنرويج، وأمريكا، وبريطانيا، وبلجيكا، وإسبانيا، وتايلاند، وفرنسا.