فينيسيا – محمد هاشم عبد السلام
19 سبتمبر 2022
بعد الإعلان الرسمي عن أفلام الدورة الـ79 (31 أغسطس/آب ـ 10 سبتمبر/أيلول 2022) لـ”مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي (لا موسترا)”، وقبل ساعات قليلة على بدء الفعاليات الواعدة، خاصة المسابقة الرسمية، كانت كافة التوقّعات تؤكّد أنّ هذه الدورة ستكون “ناريّة” بامتياز، نظراً إلى الأسماء المُكرّسة، المشاركة في الأقسام المُختلفة، وأوّلها المسابقة الرئيسية. أفلامٌ عدّة مُنتَظرة، وعليها عُقدت آمال كبرى، ومستويات أفلام أخرى كانت محلّ تكهّنات محضة. قلّة، لا سيما تلك الخاصة بأسماء غير مُكرّسة، لم تكن مُثيرة لاهتمام وتوقّع كبيرين.
مع تقدّم أيام المهرجان وعروض الأفلام، تكرّرت، بل تكرّست خيبة الأمل التي سبّبها فيلم الافتتاح، “ضوضاء بيضاء”، للأميركي نواه بومباك. تواترت أفلام المسابقة الرئيسية، مثلاً، بمعدل فيلمين أو ثلاثة أفلام يومياً. لكنْ، بمجرّد انتهاء عروض كلّ يوم، وبدء عروض اليوم التالي، تُنسى عروض اليوم السابق، أحياناً كلّها، كأنّها لم تكن، إلى درجة أنّه، مع اقتراب نهاية الدورة هذه، أجمع الحضور السينمائي على أنّ للأفلام كلّها المستوى نفسه تقريباً. ليس هناك ما استوقف الانتباه. لم ينوجد فيلمٌ يُمكن اعتباره تُحفة سينمائية خالصة، أو جوهرة المهرجان. لذا، كان صعباً، فعلاً، التكهّنُ بمعظم الجوائز قبل إعلانها، على غير العادة.
لا إبهار ولا متعة
هذا طَرح أسئلة عدّة، أغلبها مُتعلّق بجمود المستوى السينمائي، وفقر الخيال، والإفلاس الإبداعي، على أسوأ تقدير، ليس بخصوص أفلام “مهرجان فينيسيا” فقط، بل إنتاجات هذا العام، إجمالاً. لا يعني هذا أنّ أفلام الدورة الـ79 سيئة، أو رديئة، أو دون المستوى، أو مجرّد حشد لأسماء نجوم ونجمات ومخرجين ومخرجات. الأمر ليس كذلك بالتأكيد. فالغالبية الساحقة من الأفلام المعروضة جيّدة الصُنعة، بل ومُحكمة جداً، أحياناً كثيرة. المشكلة الكبرى كامنةٌ في أنّها “مُشاهَدة من قبل”، أي أنّها “Deja vu”، فلا جديد على مستوى الأفكار والموضوعات، والحبكة وتطويرها وتعقيدها. لا عمقاً في الأحداث والشخصيات والطرح. لا رؤية فلسفية جديدة، ولا تأمّلاً عميقاً. على الأقلّ، لا يوجد تناولٌ سينمائي مُختلف أو مُغاير، يُبهر الأبصار، ويُمتّع النظر.
أيضاً، لا جديد يجذب الانتباه على مستوى المونتاج والإيقاع والتشويق والغموض. وذلك رغم حرص البرمجة على التنوّع الشديد، ووجود كافة الأنواع السينمائية في مختلف الأقسام: موسيقيّ، رعب، وسترن، سيرة، اجتماعي، وثائقي، تاريخي، تحريك، سياسة، إلخ.
طبعاً، هناك استثناءات، في الطرح والشخصيات، كما في المُعالجة السينمائية والجماليات البصرية. لكنّها قليلة للغاية. من هذه الاستثناءات، برز “حواجز إينشرين” للأيرلندي مارتن ماكدونا، الفائز بجائزة مُستحقّة، “أفضل سيناريو”، لتميّزه (الفيلم) بين أفلام المسابقة بجدّية قصّته وفرادتها وأصالتها، مُقارنة بغيره. كذلك، رسم أجواء صادقة وشخصيات حية وأصيلة وجديدة، ما أهّل ممثّله الأساسي، كولِن فاريل، للحصول على جائزة “كأس فولبي لأفضل ممثل” عن تأديته دور بادريك، أمام نجم آخر، برندن غلِزن، في أدائه المُبهر لشخصية الموسيقيّ كولم. إجمالاً، يُذكِّرنا “حواجز إينشرين” برائعة الإيطالي فيدريكو فيلّيني “ثمانية ونصف”، وأفلام سيرة أخرى.
على المستوى البصري والجماليات السينمائية، لم يتخطّ أي فيلمٍ جماليات “باردو، توثيق مزيّف لحفنة حقائق” (180 دقيقة)، للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، الذي تضمّن، بمزجه الخاص بالعام والسيرة بالتاريخ، مشاهد محدّدة، تُعتَبَر، بأريحية تامّة، تحفة فنية إخراجية، من حيث التكوين، وإدارة المجاميع، وحركة الكاميرا، وتنوّع اللقطات. الجديد أنّ إيناريتو يضرب بقوّة وجرأة، وبسخرية غير مسبوقة في عمق التاريخ السياسي، بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك.