أجرتها: توني ماريني
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
هذه المقابلة نشرت بعد وفاة المايسترو في العدد (12) عام 1994 لمجلة Bright Lights Film” Journal” ثم أعيد نشرها مرة ثانية في نوفمبر 1999 العدد (26). وفيها يتحدث المايسترو عن الحياة، والفن، وغيرها من الأمور التي نعرفها عنه لأول مرة. وهذه هي أول ترجمة لها باللغة العربية.
عالم “فيدريكو فيلليني” الفنتازي، الذي أصبح أكثر جمالاً وروعة وحالمية على مدى السنوات، يجعلنا نرى مشاهد الحياة اللافتة للنظر. على الرغم من ذلك، وبشكل مناقض، يدعونا المخرج الإيطالي الأكثر سريالية في المخرجين الإيطاليين إلى التفكير مليًا في الواقع، وانتقاده.
ما هي تلك الحقيقة، التي تحتوي على كل شيء يحدث؟ أين هي؟ في داخلنا؟ خارجنا؟ في ذاكرتنا التي تتحول إلى خيال أو أسطورة؟ في الأحداث الحقيقية التي تبدو مثل الأحلام أم في الأحلام التي تتجسد في شكل “فَارسي” صارخ حيث يكون الوجود هو مظهرها التراجيكوميدي الذي تتبدى به؟ ومثل “بيراندللو” سلفه، يفكر فيلليني مليًا في السهولة أو الطمأنينة التي تجعلنا نعبر الحدود المفترض أنها تفصل المظهر عن الجوهر.
كما في الفيلم القصير “المقابلة”، الذي أخرجه للتلفزيون الإيطالي، تماثل هوية فيلليني الذاتية كمخرج للفيلم هوية مبدع ذي قوة خلاقة من ناحية عظمة المشهد، إنه كصانع العالم في الفلسفة الأفلاطونية. “أفلامي ليست للفهم. إنها للمشاهدة”، هكذا يُنبه فيلليني أي شخص يتمادى في بخس الهدف من توجهه الجمالي، أو الاستخفاف به.
تحدثت عن هذا وأمور أخرى مع مع فيلليني في الاستديو الخاص به في روما في الفترة التي أعقبت فيلمه الأخير “صوت القمر”. لطيف، ودود، وهب حسًا أخلاقيًا جيدًا وخفة ظل فائقة، فيلليني، مرتاب بالصحفيين – يعشق العبارات المتناقضة والكلمات الغامضة والتعابير الملتبسة – حاول بلطف ألاَّ يتحدث عن عدم ثقته في الصحفيين. “فعلاً، ينبغي علينا التحدث عن أشياء أخرى”، قال لي ذلك.
توني: أنت لا تحب إعطاء مقابلات ومن الصعب لصحفي أو صحفية الحصول على مقابلة معك. ينبغي أن تعرف أنني شاعرة أكثر مني صحفية.
فيلليني: رائع.
توني: هناك شيء ما سيضحكك. إنني بسبب القلق الذي كنت عليه بخصوص هذه المقابلة، استيقظت هذا الصباح وقد ضاع صوتي، بلا قدرة على إصدار أي صوت!
فيلليني: ممتاز. أحب الصحفيين الذين لا يتحدثون كثيرًا. أكره إعطاء المقابلات لأنني أعتقد أنه ينبغي علينا تجنبها وأنا أحاول أن أكون مواظبًا على هذا القرار الحكيم. لكن في حالات معينة أنتهي بالموافقة، لأن هناك أصدقاء يصرون على أن أقوم بمقابلات. ثم هناك فضول مقابلة شخص ما جديد. في المقابلات أيضًا مداهنة ونفاق للذات، وبالتالي فهي تنطلق من غرور سافل ورغبة وقحة في التفاخر والثرثرة في نفسي، أوافق. أعطيت مقابلات كثيرة، لذا، أنا لا أثق فيما أقول. أكرر نفسي. أحاول أن أتذكر ما كنت قد قلته من قبل والذي لم أقله بعد. خوفًا من تكرار شيء ما قلته بالفعل، أخترع أقوالاً جديدة.
توني: تشك في نفسك، إذن؟
فيلليني: نعم، هذا صحيح. أشك في نفسي وليس في الصحفي، ولو أنني لمدة خمسين سنة كان لديَّ شعور بأن الصحفيين سألوني أسئلة غبية. المقابلة نقطة في المنتصف بين جلسة التحليل النفسي والامتحان التنافسي في مسابقة. لذلك، أعاني قلقًا طفيفًا في كل المقابلات التي أعطيها. أحاول إعادة النظر إلى نفسي بدلاً من تكرار نفسي. وبالإضافة إلى ذلك لديَّ بعض الحدود المحرجة. أحيانًا لا يكون لديَّ إجابات.
توني: إجاباتك بالفعل توجد في أفلامك، في إبداعك لها.
فيلليني: هذا صحيح. إجابة المؤلف المهمة جدًا موجودة في العمل نفسه، وفي أعمالي يعثر الناس على أشياء قليلة حاولت قولها. رغم أن، المؤلف بوجه عام هو الأقل صلاحية للتحدث عن عمله.
توني: هؤلاء الذين يشاهدون الفيلم يريدون أن يسألوا أسئلة، والأدهى أن هذه الأسئلة تثور أكثر بفعل الإبداع في عمل الفيلم. لمحاولة فهم فيلمك الأخير، على سبيل المثال، أعدت قراءة بعض الفقرات من “كريشنا مورتي”، الذي تعرفه كمفكر.
فيلليني: نعم، نعم. في أي كتاب وجدت هذه الفقرات؟ أريد رؤيتها. لا أظن أن المؤلف عندما يبدع يعرض لنا مشاكل “الآخرين”. أنا فعلاً، عندما أعمل، لا أفكر في الآخرين. بالتأكيد، المؤلف واع، كما نقول، بالجانب: الحرفي الصنائعي لإبداعه الخاص، أعني بكيفية التعبير عما يود قوله. لكنني لا أعتقد أنه يقلق كثيرًا جدًا بمشكلة لمن ولماذا يحكي.
توني: أيًا كان الأمر، فإنك إذا لم تقل هذا “للآخرين” مثل كل مبدع فإنك تقوله لنفسك. في هذا الإخبار أو الحكي الذاتي، ألا تحدث إعادة تقييم وتستمر، بشكل تدريجي، عملية الكشف عن الوعي بالذات؟
فيلليني: كما في الحياة بصفة عامة، تعطي خبرة العمل سيطرة أكبر في المستوى التقني، وبالتالي تسبيب أفضل فيما يخص الاختيارات وكيفية تنفيذها. لكن على مستوى الحس أو المعنى المعرفي العميق الذي أشرت إليه، فكرة أنه خلال عملي يمكن أن تتكون لديَّ معرفة أكبر بنفسي، سوف أقول لك إنني لا أعتقد أنه كان هناك تطور في هذه الناحية. في عيد ميلادي الماضي، سألني صديق لي ما الذي يعنيه لي كوني أصبحت في السبعين، وكان ردي التلقائي “سبعين؟ بدا لي دائمًا أنني في السبعين!” لذا أنتِ ترين، إجابتي تعكس شعوري الحقيقي. بالنسبة لي، في السبعين، أنا لا أختلف كثيرًا عما كنت عليه في الأربعين، أو الخامسة والثلاثين، أو الخامسة والعشرين، أو حتى قبل ذلك.
توني: هذا لا يعني أنك كان لديك دائمًا إحساس بأنك في السبعين، لكن بالأحرى – إن كنت قد فهمتك – يكون بلوغ هذا العمر والنظر إلى الوراء، يولد لديك الشعور أنك كان عندك دائمًا نفس سن الشباب وحتى الآن.
فيلليني: نعم، سن المراهقة. بالضبط. إنه على وجه الإجمال سن المراهقة. أي شخص أبدع أعمالاً فنية يعرف هذه الحالة التي أسميها “تجمد الزمن أو عدم حركة الزمن”.
توني: لكنها بالتحديد هذه الحالة من الوعي النقي الصافي والتلقائية التي يحاول أي شخص مبدع أن يقهرها أو حتى يصون نفسه منها.
فيلليني: مازلت تشير إلى كريشنا مورتي الخاص بنا!
توني: نعم، وإلى الزمن الوجودي، المشابه جدًا لإبداعك السينمائي، في مقابل الزمن المفهوم كتسلسل خطي تاريخي مستقيم، تتراكم فيه الوقائع والحوليات وما إلى ذلك بطريقة كرونولوجية، تعطي مبررًا للمصطلح “شيخوخة”.
فيلليني: هذا حقيقي. للأسف، لأن تدريبنا موجه نحو هدف، نحن الغربيون نرى أنفسنا تعيش خلال الزمن الخطي المستمر الذي يتطلب خطوات، تغييرات، نتائج، وهدف يجب الوصول إليه.
توني: أريد أن أسأل عن شيء ما – البعض يقول إن كل أفلامك متشابهة. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أنك تتفق في أن الخيال الخاص بك يلتزم هذه الحركة الدائرية المتكررة. حتى الآن بالنسبة لي، وعلى مدار السنوات، هذه الدائرة الحركية التكرارية حلزونية، كما لو أنه في كل وقت يتدخل عنصر جديد ينقل المشكلة إلى مستوى أعلى. في فيلمك الأخير، “صوت القمر”، المقومات أو العناصر الأساسية التي يتكون منها الفيلم هي مثلما هي دائمًا العالم كخشبة مسرح تحمل الرؤى والمظاهر، والتشظي، وصراع الواقع مع الحلم، لكن الأسئلة المطروحة على مدار الفيلم تبدو لي إعلانًا عن تصالح مع الموت، تصالح رمزي نهائي وشبه هامس، إعلانًا عن طاقة الطبيعة، متمثلة في النساء والحب، وصراع الأجيال.
فيلليني: ربما. أنا لم أكن قادرًا على رؤية الاختلافات في هذا الفيلم. أبدو دائمًا أنني أصنع نفس الفيلم.
توني: كان هذا الفيلم أكثرهم إجهادًا، قلت هذا.
فيلليني: أجهد عندما أحاول بأي طريقة أستطيعها تأجيل بدء فيلم. إنها حالة حقيقية من الشروع في “الاضطراب العصبي الغريب”، في هذا التحرك من الكره التام أو الكلي، تبدو مثل شخص ما يتجنب تأجل اللحظة التي سوف ينظر فيها لنفسه في المرآة، كيلا يرى الصورة التي يريد التبرؤ منها. لقد صارت المسألة أسوأ خلال السنوات الماضية. لديَّ ميل لتأجيل البدء في فيلم إلى أن أجد نفسي مكرهًا على أن أبدأ لكي أرى إلى أين أريد أن أذهب، إلى أين سآخذ نفسي. كتبت عن هذا في كتابي “كيف أصنع فيلمًا”، عن فيلم “لاسترادا/الطريق”. في البداية كان لديَّ فقط مجرد شعور مضطرب مشوش، نوع من النغمة المتربصة، التي جعلتني مكتئبًا سوداويًا وأكسبتني إحساسًا عارمًا بالذنب، مثل الظل الذي يخيم على الرأس. هذا الإحساس يقترح شخصين يبقيان معًا، بالرغم من أنه سوف يكون هناك معركة، ولا يعرفان لماذا. لكن ما أن يتبلور هذا الشعور، حتى تأتي القصة في سهولة، كما لو أنها كانت هناك في انتظار العثور عليها.
توني: ما الذي بلور شعورك؟
فيلليني: “جوليتا ماسينا”. أردت لبعض الوقت أن أعمل فيلم لها. إنها قادرة على التعبير بتميز وبتفرد عن الدهشة، الهلع، السعادة المحمومة، القتامة الكوميدية لمهرج. بالنسبة لي الموهبة التهريجية في الممثل هي أثمن هبة، وكانت لديها هذه الموهبة. “جوليتا” نوع من الممثلات الملائمات جدًا لما أريد أن أفعله، تتماشى مع مذاقي الخاص. أما بطئي في الشروع في فيلم فهو بالتأكيد غير مقبول في المهنة التي تتطلب التخطيط، لكنني أعترف بحاجتي لهذا المناخ لكي أبدأ فيلمًا. عندما أكون قد بدأت، أحاول الحصول على مزاج مرح خال من الهموم، ذلك الاتزان المتعذر فهمه للقصة المروية، تلك المتعة التي جربتها في تصوير فيلم “المقابلة”. ذلك الفيلم القصير الذي تم تصويره يومًا إثر يوم بينما كُنتُ أعمله. أسعى أكثر فأكثر لهذا النوع من الأفلام. لذا، بالنسبة لـ “صوت القمر” فيلمي الأخير، حاولت فيه أن أفعل نفس الشيء، أن أفعل مثلما يفعل أهل السيرك: أختلق مشهدًا، مشهد للاشيء. فأنا احتاج لبناء السيناريو من الحياة – بالمباني، الأضواء، الأوضاع، المواقف، الفصول – كمقدمة منطقية من أجل رؤية كيف تسير الأمور.
بالنسبة لهذا الفيلم، صممت وأبدعت كل شيء، من المباني إلى الدعاية. ثم نادرًا ما كنت أزور المكان، كنت أجده خاويًا، والغبار يجتاحه، بعض النوافذ كانت تتحطم بفعل الريح، وسألت نفسي “ما الذي يحدث؟”. في مخاطرة أن أبدو رومانتيكيًا، سأقول لك أن شيئًا ما داخلي قال، “سوف ترى، سوف تصبح الساحة حية، شماس غرفة المقدسات في الكنيسة سوف يظهر في مدخل الكنيسة، شخص ما سيدخل إلى المخزن لشراء شيء ما…”. وهذا ما كان. كما لو أنه بالتبعية، صار المكان حيًا. تركت الفيلم يمضي؛ الأشياء المهمة تم إنجازها كتفاهات، والأشياء العرضية بدت مهمة. أردت تحقيق أو تنفيذ طبيعية فيلم “المقابلة”.
توني: “المقابلة” هو سيرة ذاتية. حيث نرى فيلليني صغيرًا، الصحفي المراهق، الذي في يوم ما في عام 1941 يزور “سينيسيتا”. إنه يغوى عن طريق المشاهد، بألعابها الخيالية، وبسلطة المخرج شبه الخارقة للطبيعة، الذي يبني ويقوِّض قصة الحياة.
فيلليني: عندما ذهبت كشاب إلى “سينيسيتا” ورأيت المخرجين يصورون الأفلام، أعجبت بسلطتهم وقوتهم – على الصياح، والصراخ، وجعل أجمل الممثلات ينتحبن – أتذكر بشكل شخصي دقيق رؤيتي “بلا سيتي” يجعل الجميلة جدًا والمشهورة جدًا “آيسا بولا” تبكي – لكنني وجدتهم أيضًا أفظاظًا، متسلطين، سوقيين، متكبرين. حاولت الإمساك بهذه الصورة الخاصة بالمخرج الطاغية المستبد في فيلم “المقابلة”. كان هو الشخصية التي أغرتني بالرغم من كل شيء. لكن في ذلك الوقت لم أفكر أبدًا أنني سأكون مخرجًا؛ كنت أفتقر إلى المزاج الحاد، والصوت العالي، والسلطة، والعجرفة… اعتقدت أنني سأصبح كاتبًا أو رسامًا، أو، أفضل، متحدث خاص. لكن أتضح أنني كان لديَّ كل هذه العيوب! لأنني صرت مخرجًا… من أجل نوع من المتعة. بدافع حب الاستطلاع عند عالم الحشرات. أفلامي هي أفلام تعبيرية. وافقت على إخراج “المقابلة” لكي أحتفظ بالعقد. أرى في نفسي فنانًا من سنوات 1400، ذلك الذي بحاجة إلى موكِّل أو تفويض من الغير، الذي غالبًا ما كان في هذا الوقت هو الكنيسة. في فهمها العميق للروح البشرية، التي تحتاج الخضوع للإغراء وأيضًا للتهديد، لقد فهمت الكنيسة الطبيعة المراهقة للفنان. لكن هذا الجانب لم يعد الآن مأخوذًا في الاعتبار. حتى الآن أنا، على سبيل المثال، بحاجة إلى موكل يفوضني في العمل.
بالنسبة لـ “المقابلة”، كان عندي التزامًا مع التلفزيون، عقد شخصي متميز. منذ نلت ولأنني نلت تلك التربية التي تحترم قواعد الوفاء بالعهد، أردت المحافظة عليها. لذا، فقد تم هذا الفيلم التلفزيوني بهذه الطريقة، بذاته، بدون صدمات أو كدمات، لأن تمتع بحرية الخفة دون عقد أو هموم وبالخضوع للمظهر المغري لشيء ما لا يعزز التوقعات أو ينشئها. صناعة الفيلم هي رحلة مغامرات، قبل كل شيء بالنسبة للمنتجين. وعندما أتذكر ظروف إخراج هذا الفيلم لا أستطيع القول إنني كنت أشكو. كل فيلم له مشاكله، معوقاته، لكن العقبات الخاصة الموجودة في الرحلة تمثل جزءًا من الرحلة نفسها. الرحلة تزداد خصوبة عن طريق الصعوبات التي تكشف عن جوانب الغموض، حتى المتعلق منها بفضل العناية الإلهية. بالنسبة لـ “المقابلة”، لم تكن لديَّ هذه المشاكل لكي أبدأ رحلة الفيلم. لكن بالنسبة لفيلمي الأخير، “صوت من القمر”، نعم كانت لديَّ. أمطرت ذلك الفيلم بوابل من الإهانات، أردت أن أركله بعيدًا وكأنه مرض لا تريده أن يصيبك؛ فلكي لا يلحق بك التهاب رئوي، ما الذي يجب فعله؟ محاولة حماية نفسك طبعًا.
توني: أعلنت ذات مرة، منذ فترة طويلة، في عام 1969، أن “الفيلم مثل المرض الذي يطرده الجسم”.
فيلليني: لا شك هناك علاقة بين علم الأمراض والإبداع، لا يمكننا أن ننكرها. ورغم ذلك أرى بكل سرور ومتعة أعمال السينمائيين المحترفين الذين أحبهم، مثل “بونويل، كوروساوا، كوبريك، برجمان”. ربما أنا نوع خاص من المشاهدين. أشعر بالمتعة عندما أجد نفسي أمام شيء ما، هو الحقيقة المطلقة، ليس لأنه يشبه أو يماثل الحياة، لكن لأنه حقيقي كالصورة نفسها، كإيماءة. من هنا تكون له حيوية. إنها الحيوية التي تجعلني أقدِّر وأشعر أن العمل قد نجح. أعتقد أن تعبير عمل الفنان يجد القبول أو الإجماع عندما، يشعر كل شخص يتمتع به، كما لو أنه يتلقى قدرًا من الطاقة، مثلما يحدث مع النبات الذي ينمو، طاقة شيء ما ينبض، غامض، مليء بحيوية الحياة.
توني: عودة إلى صعوبة بدايتك لفيلمك “صوت القمر”، من خلال الوثائق سيبدو أن هذه الصعوبات بدأت مع تصوير أول مشهد في فيلمك الأول كمخرج “الشيخ الأبيض”. ثم كان هناك ذلك العمل الطويل لإكمال “مدينة النساء”.
فيلليني: نعم، ربما، لكن أحيانًا المشاكل لا تكون بسببي وإنما بسبب المنتجين. من ناحية ثانية عندما أكون في حالة كدر أو مرحلة تألم وأشعر بضجر، فذلك يعني أنني مستعد للبدء، أنني يجب أن أبدأ، أنني أستطيع الشروع في الفيلم. وأنني بصفة مبدئية أحتاج أن أشاهد مثلما يحدث في الحافلة أو القطار؛ أحتاج للرسم. أفكر، ألاحظ بعض التفاصيل، عندما أقابل الناس ببساطة، ألاحظ مثلاً التقلص اللإرادي لعضلات الوجه، إشارة، لون، وجه.
توني: “حب الاستطلاع عند عالم الحشرات”، كما قلت. هل أيضًا تجاه النساء؟
فيلليني: المرأة أعجوبة، المرأة كون كامل. قد يكون هذا مفهوم “تانتريك” (النصوص السحرية البوذية والهندوسية): المرأة هي الجزء المغاير للرجل، لكنها أرقى منه، لأن النساء يولدن بالغات، متمرسات، قديمات، تأتي كل مولودة وهي تعرف كل شيء. والنساء كالأمهات أرفع مقامًا. ومن أجل البقاء، هناك تمرد وعصيان بدائيان نموذجيان يتواجدان في ذاكرة النساء توارثًا، لأن الرجل اخترع لنفسه سيادة أو هيمنة فكرية، عنف يستخدمه للسيطرة على المرأة. لكن الصراع غير متكافئ. يبدو أن كلامي هذا يصعب تصديقه! ربما أنهالت عليَّ الأسئلة كيف هذا، لأنني مازلت لم أكتب بعد قصة حب جميلة لأفلامي.
توني: لكن قصة “زامبانو” و”جيلسومينا” في فيلم “الطريق” هي قصة حب، حتى لو كانت غير عادية وفظيعة.
فيلليني: نعم، لقد كانت كذلك. لكنني، وأنا محرج لإعلان هذا السر، يجب عليَّ أن أعترف أنني لم أحدد هويتي بالانغماس المفرط في العاطفة أو الحب. لا أبدو أبدًا أنني كنت في علاقة حب بهذا المعنى. لا أستطيع أن أفهم يأس الحب كخسارة متعذر تعويضها وإصلاحها.
توني: أود أن أسألك سؤالاً بخصوص الأزياء التي رسمتها لأفلامك، التي في بعض الأحيان كانت رائعة وأنيقة على نحو غير عادي، كما لو أنها كانت من عصر مختلف عن عصرنا. ما الذي يعنيه هذا؟
فيلليني: في أفلام معينة مثل “ساتيريكون” أو “كازانوفا”، الأزياء الخاصة بالعصر كانت ضرورية لأن الأفلام كانت تاريخية. هذا واضح. لديَّ عادة تذكر واسترجاع موضات سنوات العشرينات والثلاثينات، بسبب هذه المراجعة اللاشعورية أعود إلى الوراء إلى الحقيقة العاطفية عندما أكتشف وألاحظ الأشياء. أضواء، ألوان، مواقف، أمزجة، استعمالات لغوية، وإيقاعات تخص هذا الواقع العاطفي. بالإضافة إلى ذلك، هناك حقيقة أخرى، إبداع ملابس الشخص هي جزء من شخصيته. أرسم الشخصية بملابسها الخاصة بها. أقترحها على مصمم الملابس عن طريق رسوماتي، فالرسومات تترجم بعض من انطباعاتي العاطفية. بالنسبة لي تتحقق الأناقة عندما يكون هناك انسجام بين شخصية الشخص وكيف ألبست نفسها في النهاية، يجب ألا ننسى أن الملابس مثل الأحلام، هي رموز اتصال. تعلمنا الأحلام أن هناك لغة موجودة لكل شيء له وجود – لكل قطعة ملابس، لكل لون ملبوس، لكل خاصية في قطعة الملابس. من ثم، تمدنا الأزياء بالموضوعية الجمالية التي تساعدنا في سرد قصة الشخصية.
توني: أنت تتحدث عن “انطباع أول” بذاته، يرتبط بلعبة الذاكرة والحنين. ألا يمكن أن يكون هذا هروبًا من العصر الحاضر؟
فيلليني: عصرنا غير عادي ورائع؛ كل شيء قد حدث ويواصل حدوثه. بعد سقوط حائط برلين، لم يعد الناس على كلا الجانبين أعداء، وتوقفت الأيديولوجيات عن كونها حواجز للحقيقة. كل السياسات صارت تخضع لإعادة النظر. لكن أرجو العلم بأنني، لم أتمكن أبدًا من تتبع طريق الواقعية الجديدة، ومشاكل طبقة العمال.
توني: لكن حتى الآن هناك العديد من الانتقادات الاجتماعية في أفلامك.
فيلليني: بالتأكيد! إذا لم يحلم عمال المعادن، سيكون هناك فقط كتلة أو قطعة ضخمة من المعدن.
توني: حدثني عن فيلم لم تبدأه أبدًا، ذلك الذي عن “كارلوس كاستانيدا”.
فيلليني: إنها قصة معقدة جدًا. أولاً بحثت عن كاستانيدا عن طريق ناشريه. تحدثت مع الناشر الذي أعطاني عنوان وكيل أعمال “كاستانيدا”، “نيد براون” في نيويورك. أخبرني الناشر أنه سيكون سهلاً على “براون” إعطائي عنوان “كاستانيدا”. مرة كل عام كان شاب مكسيكي يجلب المخطوطات للناشر. قال لي “نيد براون” إنه لم يقابل “كاستانيدا” أبدًا. مستمرًا في بحثي، قيل لي أن كاستانيدا كان في مصحة للمجانين، أو حتى أنه مات. شخص آخر قال لي إنه قابله وأنه كان على قيد الحياة، رآه في محاضرة ألقاها “كاستانيدا”. ثم، في روما، كانت هناك السيدة “إيوجي” التي جعلتني أفلح في الاتصال به. وأخيرًا قابلت “كاستانيدا”. شخصية “كاستانيدا” مختلفة تمامًا عما يمكن أن نتخيله. إنه يبدو كشخص من صقلية – ودود، هادئ، يبتسم كمضيف صقلي. أسمر البشرة، أسود العينين، ابتسامته مرحة جدًا وبريئة جدًا. لديه تدفق عاطفي كاللاتينيين، البحر متوسطيين. إنه بيروفي، وليس مكسيكيًا.
توني: هل أنت متأكد أنه كان هو بالفعل؟
فيلليني: ما الذي تريدين قوله؟ بالطبع؛ كان مُحاطًا بأناس آخرين. السيدة “إيوجي” تعرفه. هذا الرجل الجدير بالحب، الذي رأى كل أفلامي، قال لي إنه ذات يوم مع “دون خوان”، من ثلاثين أو أربعين سنة، قد شاهدا فيلمي، لاسترادا، الذي نفذته في 1952. قال له “دون خوان”: “مقدر لك مقابلة مخرج هذا الفيلم”. قال إن “دون خوان” تنبأ بهذه المقابلة. هذا هو ما قاله لي “كاستانيدا”. أخبرتك أنه جاء للبحث عني، هنا، في هذه الغرفة، جلس هنا تمامًا. كنت من البداية مغرمًا بكتابه “تعاليم دون خوان”، وهو كتاب عن مغامرات باطنية سرية باراسيكولوجية. ثم كنت مغرمًا بالفكرة ككل: فكرة ذلك الرجل العلمي، عالم الأنثروبولوجيا، الذي يبدأ بغرض علمي تأملي، الرجل الذي يلتزم بالواقعية، يعرف أين يضع قدمه وحرفيًا ينظر إلى الأرض، في الحقول، في حدائق الخضروات، في القفار، نحو التلال – حيث ينمو عيش الغراب. هذا الرجل العلمي الذي يجد نفسه بعد معرفة واطلاع مبدئيان يتبع الطريق الذي يجعله على اتصال مع بعض “التوليك[1]” القدماء. أنا أحب طريق حب الاستطلاع المُرشَّد بالمنطقية العلمية، الطريق الذي اتخذه هو بانتباه منطقي والذي في نفس الوقت، قاده نحو العالم الغامض، العالم الذي نعرفه بطريقة مبهمة كشيء “لاعقلاني”.
توني: هذه العلاقة بين العلم والعالم الغيبي تبدو ممتعة بصفة خاصة وبدرجة عالية. في هذه الصلة، تتحدث عن تجربتك مع عقار الهلوسة “إل.إس.دي”، وإيمانك بالتحليل النفسي الخاص بـ “يونج”، وصداقتك مع “رول”، أشهر عراف إيطالي.
فيلليني: نعم، يبدو لي هذا نقطة النهاية الخاصة بالعلم الحقيقي. المزيد من التقدم الذي ينتابه وهو محمي بحدوده، بنمط تساؤلاته، بيقينياته وشكوكه، أيضاً بريبته في نفسه، يعني المزيد من الاقتراب إلى شيء ما هو “غموض الوجود”. ولذلك، فإنه يقترب من رؤية دينية للظواهر التي يبحثها أو يحققها. الشيء الوحيد الذي أبهرني وأيضًا أبعدني نوعًا ما – باعتباري إيطاليًا، لاتينيًا، بحرمتوسطي، تكوّن بفعل التعليم الكاثوليكي – كان رؤية كاستانيدا ودون خوان الخاصة للعالم. رأيت هناك شيئًا غير إنساني. استقلالية “دون خوان” الذي كان فاتنًا بطريقة أدبية والذي جعلنا نراه كحكيم قديم، لم يكن من الممكن أن أتحاشى تعرضي أحيانًا لموجات من الشعور بالغربة والغرابة. كما لو كنت مجابهًا برؤية عالم تقوم بتوجيهه بلورة كوارتز! أو سحلية خضراء! ما وجدته مدهشًا كان الشعور بالتحول أو الانتقال إلى نقطة أو رؤية لم أتخيلها من قبل، لم أتوقعها، إنها تتيح لك ذلك التنفس الحقيقي خارج نفسك، خارج إنسانيتك، وذلك يعطيك للحظة رعشة غريبة من الإحساس بأنك تنتمي إلى عناصر أخرى، إلى عناصر العالم النباتي، وعالم الحيوان، بل وعالم المعدن. الشعور الذي هو، شعور بالسكون، وبالألوان ما وراء الكوكبية خارج كوكب الأرض. كان هذا هو ما أغوى نزعتي الطبيعية للخيالي، للرؤيوي، للمجهول، الغامض. في رؤية “دون خوان” للعالم، ليس هناك راحة، لا شيء من ذلك الذي يمكن للنصوص الأخرى أن تعطيه لك أو الذي يعطيه المؤلفون الآخرون المتخصصون أو الذين يتعاملون مع غموض الوجود مثل “رودولف شتاينر” أو “حراس المعبد – فرسان الهيكل”. في حكايات “كاستانيدا” القصيرة، بخلاف كثير من النصوص الغيبية الأخرى أو ذات المداخل التي تحاول أن تخبرك عن أبعاد أخرى، تم طرح رؤية تفتقر لأي راحة سيكولوجية. وهذا هو ما جعلهم مرعبين ومدهشين بالنسبة لي. بيد أنني بدوت وكأنني في عالم مختنق يعوزه الأوكسجين.
توني: قلت لي مرة إنه منذ اللحظة التي وصلت فيها إلى لوس أنجلوس، حيث كان “كاستانيدا” ينتظرك، بدأت بعض الأحداث الغريبة.
فيلليني: حدثت فجأة ظواهر عجيبة أو معجزات. عندما حضر إلى فندقي، أحضر برفقته بعض النساء. لم أره ثانية أبدًا، لكن بعد ذلك رأيت رسائل غريبة في غرفتي وأشياء تتحرك هنا وهناك. أعتقد أنه كان سحرًا أسود. نساؤه، ليس “كاستانيدا”، ذهبن معي إلى “طولون”، ونفس الأشياء حدثت هناك.
توني: شعرت بتهديد، واختفى “كاستانيدا”؟
فيلليني: كان هذا لعدة سنوات – كان في عام 1986 – ومازلت حتى الآن غير قادر على اكتشاف ما حدث فعلاً. ربما كان كاستانيدا آسفًا لأنه أحضرني إلى هناك وصنع سلسلة الظواهر هذه التي ثبطت عزيمتي عن عمل فيلمي. أو ربما رفاقه لم يريدوا أن أعمل الفيلم ففعلوا هذه الأشياء. على أية حال، كان هذا كله غريبًا جدًا، لذا قررت عدم عمل الفيلم. أعادت كتب “كاستانيدا” بعض المشاعر التي خبرتها وأنا صبي… إنها صعبة التحديد أو التعريف… ربما يكون الجنون هو الأكثر مشابهة لهذا النوع من البرودة النجمية الثلجية وصمت الوحدة والعزلة. وضعت خبرة من فترة صباي في “صوت من القمر”، عندما يخبر “بينيني” جدته أنه أصبح شجرة حَوْر. حدث هذا عندما كنت صبيًا وأقضي الصيف مع جدتي لأبي، “فرانشيسكا”، في بلدة “جامبيتولا”.
توني: اسم هذا المكان، “جامبيتولا”، يمكن أن يكون مستوحى من أسطورة، شكل من مغامرة “بينوكيو”…
فيلليني: نعم! كانت تدعى أيضًا “الغابة”، فقد كانت هناك غابة كبيرة بالجوار. هناك كانت لديَّ تجارب قليلة تلك التي تذكرتها فقط لاحقًا بعد ثلاثين أو أربعين سنة. استرجعتها بطريقة أكثر هلاوسية أو أكثر حيوية لأنني كنت أقرأ بعض النصوص الباراسيكولوجية. باختصار، كانت تجارب متعلقة بمشاعر خاصة. أولاً كانت حادثة شجرة الحور. كنت قادرًا على ترجمة الأصوات إلى ألوان، التجربة التي حدثت لي فيما بعد. استطعت تلوين الأصوات. إنها القدرة أو الملكة التي يمكنها أن تدهشنا، لكنها الشيء الذي يبدو طبيعيًا بالنسبة لي، في ضوء إدراكي أن الحياة شيء واحد، إنها الاكتمال الذي تعلمنا أن نقسمه، ونجزئه، ونصنف أجزاءه، ونربط الأحاسيس المختلفة معًا بطرق مختلفة. هنا كنت قد جلست تحت شجرة الحور تلك في “جامبيتولا”، وسمعت صوت الثور يخور في الإسطبل. في نفس الوقت، رأيت شيئًا ما يخرج من حائط الإسطبل كالانقباض العضلي مثل لسان ضخم، بساط، سجادة طائرة (بساط الريح) تنتقل ببطء في الهواء.
كنت أجلس وظهري إلى المربط، لكن بإمكاني رؤية كل شيء حولي وخلفي، بالزاوية الكاملة 360 درجة. وهذه الموجة تحللت، مرت بي من خلالي، مثل مروحة كبيرة من قطع الياقوت الأحمر الصغير والدقيق جدًا أو المجهري، وكانت تلك تتلألأ في الشمس. ثم اختفت. هذه الظاهرة الخاصة بترجمة أو نقل أو تحويل الأصوات إلى ألوان، النظير المقابل المكافئ اللوني للصوت، ظلت معي لسنوات كثيرة. يمكنني أن أخبرك عن أخريات من مثل هذه الأحداث التي حدثت عندما كنت طفلاً، وأيضًا عندما كنت في العشرين وجئت إلى روما.
لكن لنعد إلى ما حدث تحت شجرة الحور. في لحظة معينة، بينما كنت ألعب، بدا لي أنني رأيت نفسي فوق عاليًا جدًا، بدوت أنني أتأرجح هناك وأسمع الريح الخفيفة تتخلل شعري. ثم شعرت – من الصعب بالنسبة لي أن أصف ذلك – أنني كنت مغروسًا بقوة في الأرض. وذلك الصبي الصغير الذي رأيت – الذي كان أنا – الآن قدميه غائرتان في الأرض، حتى أنني شعرت أن لي جذور. والجسد بأكمله غطي بنوع من دم سميك ساخن الذي ارتفع، وارتفع، ارتفع إلى الرأس بسبب الصوت الذي كنت أصدره (هووو) بينما كنت ألعب. سمعت هذا الصوت بعضو غير الأذن، رائع، أكثر…
توني: مثل مانترا[2]!
فيلليني: كان “مانترا”، نعم، مثل “أوم م م”. هذا الشعور بالمتعة، بالخفة، بالخفة والقوة، قوة في الجذور وخفة في الفروع التي تتمايل في السماء. لقد صرت شجرة حور.
توني: هذه هي الحدوس والمشاعر الهائلة، الحكمة الرؤيوية العظيمة للطفولة التي يدعوها الواحد فيما بعد أوهامًا وخيالات.
فيلليني: دعينا نقل إنها تحتاج إلى افتراض شكل القصص الرمزية. القصة الرمزية هي دائمًا الأكثر إنسانية، وأيضًا الأكثر صدقًا في طريقة السرد.
توني: وجدتك، ما الذي اعتقدته بخصوص هذا الولد الصغير السابح في الخيال؟
فيلليني: جدتي يمكن أن تكون هي نفسها شخصية في قصة رمزية. كانت سيدة قروية عجوز، كانت قادرة على العطاء والعطف بشكل هائل. كانت امرأة عجوز، طويلة القامة، نحيفة ذات تنورات داخلية كثيرة. مازلت أعيش على رصيد الخيال المدخر من تلك الأصياف التي قضيتها مع جدتي. حتى أن فيلم “الطريق” نقل القليل من ذكريات تلك الأصياف الراحلة وبدايات الخريف في الريف، عن طريق ذلك الاتصال شبه الروحي مع الحيوانات، والروائح، والأماكن. أتذكر أول “فيجليا” في الإسطبل.
توني: ما الذي تعنيه بـ”فيليا”؟ (حرفيًا، “الانتباه” أو “اليقظة”)
فيلليني: اجتماع الفلاحين الرجال في الإسطبل ليلاً من أجل الشراب، وأكل الخبز والجبن. كانت بالنسبة لهم طريقة ليكونوا معًا لبضع ساعات، يبقون هكذا ربما حتى الحادية عشرة مساء، التي كانت ساعة متأخرة بالنسبة لهم لأنه ينبغي عليهم الاستيقاظ في الرابعة صباحًا. وبخلاف حكي القصص، كانوا يضحكون ويمزحون، ويتحدثون عن النساء. كانت ضحكاتهم طريقة للتطهير، والدفاع عن أنفسهم، نوع من العصبية. وأنا لم أزل صبيًا صغيرًا، لم أستطع أن أفهم جيدًا لِمَ، عندما كان الرجال يتحدثون عن النساء، يقومون بوخز بعضهم البعض بمرافقهم ويضحكون. كما لو أنهم كانوا يُلمِّحون إلى شيء ما كوميدي غامض، لكن أيضًا غير مهذب، هذا الشيء الذي كانوا يدافعون عن بعضهم البعض ضده، حموا بعضهم البعض منه، تعاونوا لخلق تماسك وتضامن فيما بينهم.
توني: أخبرتني في واحدة من محادثاتنا أنك كان عندك دائمًا حسد مستتر لأي شخص يُعبِّر عن، حتى وإن كان بطريقة بدائية، قناعة ثابتة، عقيدة، مذهب. أنت، الذي لا تريد اللوذ بأي نظام قاس، من القناعات الراسخة أو الإيديولوجيات، ما هو “مرتكزك”، “قبلتك”؟ السينما؟
فيلليني: تقصدين عندما أتصرف بحرية كأنني في بيتي؟
توني: نعم.
فيلليني: سألت السؤال الذي ليس من السهل الإجابة عنه. أعتقد أن نقطة إرتكازي هي العثور على نفسي في اللامكان الذي فيه أدرك ذاتي. قول بهذه الكيفية، يبدو مثل الرضا الذاتي الرومانسي، والشاعري، وبلا خجل.
توني: لا، لا، أنا متفهمة إجابتك بشكل جيد جدًا. فأنا كتبت عن اللامكان. إنه الفهم الذي أعرفه جيدًا على وجه التحديد لأنني أعتقد أن الأشخاص المبدعين يعرفونه جيدًا وهم متمرسون به. هؤلاء، الذين لديهم رفض لطمأنينة اليقينيات، طمأنينة المذاهب، والأبنية الأيديولوجية.
فيلليني: يحكمني محور أقل في خصوصيته وتعصبه وأقل في سريته وباطنيته، هذا المحور هو عملي، عندما يستحوذ عليَّ، عندما تكون لديَّ هوية، أكون ملاحقًا بما أفعله وعبدًا له. مثل قيامي بدق مسمار حتى تثبيته، أو تشييد حائط في مكان التصوير، أو تثبيت باروكة على رأس ممثلة، أو التأكد من صحة وضع الماكياج؛ ذلك أنني عندما أكون مشغولاً، تنتابني الهواجس وتستبد بي على نحو غير سوي، في التصوير وسط مجموعة من الناس الذين ينظرون إليَّ، رغم ذلك، باحترام بسبب السن، وربما أيضًا، بقليل من القلق والمتعة. أُعير جسدي، وإحساسي الإنساني الداخلي، أو الموهبة التي عندي إلى شيء ما هو تدفق، التدفق الذي يدعوني، ويُكرهني، ويُجبرني على أن أُجسِّد نفسي وشخصيتي في كثير من الأشياء، والأشخاص، والأفكار، والمواقف. وهناك، فقط في اللحظة التي أنا لست فيها هناك – حيث أكون موزعًا في أماكن كثيرة مأخوذًا بعديد من التفاصيل – تكون، أعتقد، نقطة ارتكازي. أعتقد أنه بالنسبة لي هذه هي السعادة – فقدان المرء ذاكرته، نسيان النفس، هذا الجزء الذي تدعوه نفسك، الذي هو فعلاً مجرد بنية فوقية أو طبقة خارجية، والذي تنساه كي تكون مسكونًا بالطاقة التي تسرق أو تستعير جسمك وجهازك العصبي.
توني: هناك تناقض كبير بين ما يحافظ عليه الغرب، دفع الناس للبحث عن أنفسهم، وتحصين شخصيتهم الخاصة، وما يحافظ عليه الشرق، الذي يشجعك على تحرير نفسك من نفسك. المشكلة تبدو في كونها تحرير النفس بدون تدميرها.
فيلليني: إنه مهم أن تضع نفسك في تأهيل معين لتكون في حالة ميلاد أو إشراق مستمرة. على أية حال، أنا أعتبر نفسي محظوظًا بصفة خاصة بسبب مهنتي. التي هي ليست مهنة، لكن مجرد مسار، طريق للمتعة، للخفة. يمكنها أن تقودك مجانًا إلى امتلاك – بلا تخطيط، وبلا عقائد – الحدوس التي قد ينالها الآخرون بالتضحيات وبطرق دراماتيكية أخرى. إنها اللعبة التي تضعك على صلة حميمة بمناطق أخرى، بحدوس ورؤى مختلفة الإمكانيات. ربما تلك الحدوس أكثر شحوبًا، أقل لمعانًا وتلونًا من نظيراتها عند هؤلاء الذين اكتسبوها بشكل دراماتيكي أكثر وعن عمد وتعمق معرفي أكثر، وبكثير من التضحيات.
توني: قلت إنك تحب مخرجين مثل “برجمان، بونويل، كوروساوا”. هل تذهب لمشاهدة الأفلام كثيرًا؟
فيلليني: أنا محرج أن أعترف، بأن لا، أنا لا أذهب كثيرًا لرؤية الأفلام. لم أذهب كثيرًا. كصبي في “ريميني”، سمحوا لي أن أذهب لمشاهدة الأفلام مرة في الأسبوع. لا، لا، لم تكن مسألة تكلفة. عائلتنا كانت من الطبقة البرجوازية الصغيرة. كان أبي مندوب مبيعات. أخي وأنا كنا نذهب لمشاهدة الأفلام بصحبة “ألفريدو”، الحرفي الذي كان يعمل في مخزن أبي. عندما جئت إلى روما، في الثامنة عشرة، أخذت في الذهاب أكثر عن ذي قبل. كانت هناك داران للسينما في الشارع الذي عشت فيه، “سان جيوفاني”. وقد ذهبت لمشاهدتها كلها تقريبًا لأنني كنت مغرمًا بعروض المنوعات البدائية غير البارعة. حيث كان هناك الفيلم أولاً وبعده مباشرة كانت تأتي عروض المنوعات. كنت مأخوذًا بالبوسترات الملونة. إن كنت قد رأيت وقتها بعض الأفلام، فمرد ذلك لعامل الجذب الخاص بهذه الإعلانات واللوحات المسرحية.
توني: أية نوعية من الأفلام؟
فيلليني: الأمريكية. كانت هناك الأفلام الأمريكية فقط. الأفلام الإيطالية كانت إمَّا عن الحرب أو الرومانيين؛ وكانت هناك دعاية فاشية – كان هذا أوائل الأربعينات. لم تكن مغرية أبدًا. بالنسبة لجيلي، المولود في العشرينات من القرن العشرين، كانت الأفلام بصفة أساسية أمريكية – وقد حظيت السينما بأكبر مكتب إعلامي أو صحفي، والذي ربما لم يحظ تاريخ السينما بمثله حتى اليوم. ويرجع التعاطف أو التعلق الوجداني الذي يحظى به الأمريكيون هنا إلى أفلامهم أساسًا، الأفلام التي كم كانت تخبرنا دائمًا – خلال تلك الأوقات في إيطاليا، وكان هذا مدركًا بشكل أكثر تلهفًا وانفعالاً عن اليوم – أنه كانت هناك دولة أخرى، بعد آخر للحياة، بعد أكثر خيالية وإبهاجًا من مواعظ القساوسة الإيطاليين التي كانوا يرددونها يوم الأحد عن الجنة. كانت الأفلام الأمريكية أكثر تأثيرًا، وأكثر إغراء. إنها بالفعل عرضت جنة على الأرض، جنة في البلد الذي يسمونه أمريكا. بالنسبة لجيلنا، كان هذا مصدر لا ينفد للإعجاب بتلك الدولة، بشعبها، بالشخصيات السينمائية، بطريقة التمثيل اللامبالية غير المتكلفة أو المكبلة بالصور البلاغية والطنطنة، حتى بلاغة أو شاعرية العسكريين الأمريكيين كانت مقبولة، لأن الأبطال كانوا “جاري كوبر، كلارك جيبل”. كانوا رجالاً سعداء مرحين لا يمتون بصلة للحزن الإجباري لجنودنا. في أفلامنا الخاصة بهذا الوقت، كان يجب على جنودنا أن يظهروا بؤساء مُشوهين، يعانون الحرمان ويموتون جوعى، يرتدون الأسمال الممزقة الرثة. ولكي تنال أفلامنا اهتمام الناس، كان على الجندي الإيطالي إما أن يموت أو يصاب بجروح خطيرة، ويتألم بشكل بالغ! بينما كان، كل شيء يسير في سلاسة وبنجاح بالنسبة للجندي الأمريكي، الذي أصبح متزوجًا، ربما بممثلة جميلة مثل “ميرنا لوي”. على أية حال، لم أذهب لمشاهدة الأفلام كثيرًا. لكنني أحببتها. أحببت رؤية عروض المنوعات من المقاعد الأمامية التي كانت تشبه عنابر سفن القراصنة، والتي كانت تعج بالنظارة. خذي الأحد بعد الظهيرة، على سبيل المثال. كان ارتياد المكان يبدو كالدخول في كرش حيوان كبير ساخن – بطن ضخم يموج بنذالة البشرية – التي حققت شعيرة سحرية، كانت حلمًا مشتركًا. في البلدات الصغيرة في الشتاء، كانت دار السينما مثل مجرة صغيرة، كوكب مسحور رحلة سعادة، كانت محلاً لتلك العاطفة الطاغية التي تبدو منسية اليوم. أو أن كل هذا لم يعد يبدو أن له نفس الإغراء الذي كان له عندما كنت صغيرًا. الناس الآن يمكثون في البيوت لمشاهدة التليفزيون. حتى سبع أو ثمان سنوات مضت، عملنا حوالي 100 إلى 150 فيلمًا في السنة. اليوم ستصبح معجزة إذا كان هناك عشرة يتم إنتاجها. كان هذا فعلاً شيء جيد، لكنه دائمًا مع أو لصالح التليفزيون. وهذه الأفلام يتم عملها في عوز، وتحت الظروف الرقابية، وطريق عقيمة تشويهية للتعامل مع القصة الرمزية التي تحتاج إلى الحكي. تقريبًا، كل الإستديوهات، “إليوس، إينكوم”، وما إلى ذلك، قد توقفت عن العمل. نصف “سينسيتا” تم بيعه، تحول إلى “سينسيتا 2″، التي صارت مركزًا تجاريًا. والآن يبدو وكأنهم سيبيعون النصف الآخر. المكان الوحيد الذي تُرِكَ هو الذي قمت فيه بعمل فيلمي الأخير، في “بونتينا”، هذا المكان الذي اُبدعه “دينو دي لورينتيس” في عام 1960. لكنه الآن يحقق إخفاقًا مستمرًا.
توني: هذا يجعل المنافذ أكثر انفتاحًا للمنافسة الأمريكية.
فيلليني: نعم، بالطبع. لكن هذه المنافسة يمكنها أيضًا أن تشجع الإيطاليين، لأن الأمريكيين غالبًا ما يعطوننا أفلامًا ممتازة، جيدة جدًا من ناحية الإخراج، بممثلين رائعين، بالقصص التي تحكي عن بلدهم الخاص بهم. إلاَّ أن كل العروض الأمريكية تحترس وتحطاط من شيء ما في عقولنا التي، باعتبارنا كأطفال ذوي مفاهيم فاسدة، تبدو على الأرجح مشوبة بالنفور من أغلب الإنتاج السينمائي، إنهم يحرصون على مخاطبة المتلقى بالاحتفاء الزائد به وتعظيمه وتوقيره. يعرفون أنهم لكي يقولوا شيئًا ما لشخص أو لجمهور يجب عليهم إغواء الجمهور عن طريق التشويق والترفيه. صحفيين، كتاب، شعراء، كتاب سيناريو، مخرجين كلهم متسقون مع هذا المنطق، ومثابرون على آلياته لكسب الجمهور.
[1] توليك: شعب من الهنود الحمر سيطر على المكسيك قبل حضارة الآزتيك – المترجم.
[2] مانترا: كلمة أو صوت يتم تكرارها أو تكراره لزيادة درجة التركيز العقلي والروحي أثناء التأمل في العبادة الهندوسية والبوذية أصلاً. والكلمة “سنسكريتية”، وتعني “أداة التفكير” ، حيث “مان” تعني يفكر – المترجم.
* نشرت في مجلة “Bright Lights Film” Journal” العدد (26) نوفمبر 1999 – المترجم.