محمد هاشم عبد السلام

 

تعتبر الرائدة الفرنسية “أليس جاي”، التي ولدت بالقرب من باريس عام 1873، وتوفيت في نيو جيرسي بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1968، أول سيدة في تاريخ السينما تقف وراء الكاميرا كمخرجة تعمل على تقديم مئات الأفلام في تلك الصناعة، التي كانت لا تزال وليدة في نهاية القرن التاسع عشر. ولم تكتف أليس جاي بممارسة الإخراج فحسب، بل اتجهت أيضًا فيما بعد للإنتاج والتمثيل والكتابة وتأسيس شركة سينمائية واستوديوهات.

كانت أليس جاي من بين النساء القليلات جدًا اللاتي وُجِهَت إليهن الدعوة لمشاهدة أول عرض مبكر لـ “سينماتوجراف لوميير” في الثاني والعشرين من مارس عام 1895، لصالح جمعية “تشجيع الصناعة الوطنية في باريس”. وكان الفيلم الوحيد الذي عُرض على الشاشة في تلك الليلة يحمل عنوان “خروج العمال من المصنع”.

كانت هذه التجربة بمثابة الإلهام بالنسبة لأليس، التي التحقت ببعدها للعمل كسكرتيرة في شركة “جومون” الفرنسية، التي كانت في ذاك الوقت قد شرعت في إنتاج الأفلام عام 1896.

وفي العام نفسه، خطت أليس أولى خطواتها السينمائية في مجال صناعة السينما. فقامت بكتابة، وإنتاج، وإخراج أول فيلم خيالي لها، وكان بعنوان “حورية الكرنب”، وذلك في وقت مبكر من النصف الأول لعام 1896، وربما استخدمت في إخراجها لهذا الفيلم كاميرا من نوع “ديميني – جومون” 60 ملليمتر، وبذلك أصبحت أول مخرجة سينمائية امرأة.

لم تقف أليس عند تلك المرحلة، بل أخذت تُعلم نفسها الفن أولا، وذلك بإعادة تنفيذ الأفلام الخيالية التي كانت توزعها شركة “لوميير” في الأسواق. وكانت في معظمها أفلامًا ذات دقيقة واحدة، ولقطة واحدة، ومكان واحد. وقد اتسمت تلك الأفلام بالبدائية البالغة، فكانت شديدة المباشرة، وتعتمد بالأساس على الأدوات المسرحية مثل الدخول والانحناء، وتفتقر لبناء عالم للقصة، وكذلك التحرير والمونتاج، وعدم استخدامها للمساحة أو استغلالها للأماكن البعيدة الواقعة خارج نطاق الشاشة. كما قامت أليس أيضًا بتقليد أفلام “إديسون” وأفلام “جورج ميليس”.

أجادت أليس بسرعة معظم تقنيات المؤثرات الخاصة، لكنها فضلت إخراج أفلام الدراما والكوميديا، على أفلام الحيل والخداع التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. وانصبت مساهمتها الكبرى في السينما على تطوير تقنية السينما الروائية. وقد ركزت أفلامها منذ البداية على المنظور العاطفي للشخصيات الفردية واستخدمت كل أداة متاحة لديها في صناعة السينما لتسرد قصصًا ترصد فيها نمو الشخصية، سواء كانت هذه الشخصية صانع مراتب (منجّد) متوافق مع الحياة من حوله، أو أب يتعامل مع سوء استغلال زوجته الجديدة لابنه، أو امرأة حامل تساير رغباتها الطاغية والتي لا يمكن مقاومتها تجاه الأطعمة.

وهذا الفيلم الأخير، “الرغبات الجامحة للسيدة”، من المُحتمل أنه نُفِذَ في عام 1904، يحتوى على أحد الاستخدامات الدرامية الباقية حتى الآن والتي وُجدت مبكرًا جدًا، ألا وهي اللقطات المقرّبة في السينما، وفي الحقيقة، القصة بأكملها مبنية حول هذه اللقطات المقرّبة. إن مهارة أليس جاي الإخراجية التي تمثلت في نقل الحالة النفسية للشخصية، والحفاظ على التركيز الدرامي لحالة الشخصية طوال مدة عرض الفيلم، كانت لا مثيل لها وغير مسبوقة من جانب نظرائها. وقد انتحلت الكثير من المهارات والتقنيات الإخراجية التي أدخلتها أليس لأول مرة في صناعة السينما من جانب العديد من المخرجين المعاصرين لها.

بالإضافة إلى سيل منتظم من الأفلام الصامتة، أخرجت أليس أكثر من مائة فيلم من أفلام التزامن الصوتي لصالح شركة “جومون كرونوفون” في الفترة من 1902 وحتى 1906، كان تسجيل الصوت يتم أولاً، ثم يتم تصوير الصورة مع إذاعة الصوت الصادر من الأسطوانة، وكان يتم ضبط الفونوجراف والسينماتوجراف معًا أثناء العرض.

في عام 1907، تزوجت أليس من “هيربرت بليتش”، موظف آخر في “جومون”، وتركت عملها كرئيسة للإنتاج السينمائي في “جومون” باريس وانتقلت مع زوجها إلى الولايات المتحدة، حيث ولدت ابنتها في عام  1908. وفي عام 1910، أنشأت شركة خاص بها، تحمل اسم “سولاكس”، نفذت أفلامًا صامتة مستخدمة استوديوهات “جومون” في “فلشنج”، بنيويورك. وكانت أفلام “سولاكس” توزع بواسطة “جومون”. ثم قامت جاي ببناء استديو لخدمة “سولاكس” بتكلفة مائة ألف دولار أمريكي في “فورت لي”، بنيو جيرسي، عام 1912، وهو العام نفسه الذي رزقت فيه بطفلها الثاني، وكان ولدًا. وبمجرد انضمام “جومون” إلى صفوف الموزعين المستقلين، اضطرت “سولاكس” إلى أن تتفاوض من أجل التوزيع بنفسها على أساس ولاية ولاية.

على مدار السنتين اللتين حققت فيهما نجاحًا، صنعت “سولاكس” نجومًا سينمائيين مثل “ماريون سوين” و”بيلي كيرك”، ووفرت نموًا خصبًا وبيئة تعليمية لمصممين مثل “بن كار” و”هنري مينيسير”. لكن بحلول عام 1914 صار واضحًا أن عهد الأفلام القصيرة قد انتهى. وبسبب النكسات المتعددة التي حلت برجال الأعمال ونشوب الحرب في فرنسا، انسحبت “جومون” من الولايات المتحدة، كما فعلت ذلك شركات أخرى فرنسية باستثناء “باتيه”.

بقي الزوجين “بليتش”، لكن كان على “سولاكس” أن تقترض أموالا من المصرفيين، وكان بيت المال الذي يحمل اسم “سليجمان”، هو الذي امتلك وقتها بموجب هذا الاقتراض النصيب الأكبر في الشركة. ولتجنب، بشكل جزئي، تحكم “سليجمان”، أنشأ زوجها بليتش شركة خاصة به، وفي أواخر العقد الثاني من القرن الفائت، كانت أليس وزوجها يخرجان أفلامًا روائية طويلة لصالح شركة “بليتش للأفلام الروائية”.

بعد فترة، بدأ بليتش وجاي في الانضمام إلى ائتلافات الموزعين الحرة مع غيرهم من صنّاع الأفلام، ومنها “بوبيولار بلايز” و”بلايرز”. وبعض الأفلام التي قاما بإخراجها لصالح هاتين الشركتين كانت توزع بواسطة شركة “إيه. إل. سي. أو”، وهي الكيان الإنتاجي الذي أدى فيما بعد إلى تشكيل شركة “مترو جولد ماير” في هوليوود. قامت “جاي” أيضًا بإخراج سلسلة من الأعمال الملودرامية بعنوان “امرأة مرسومة” بطولة الممثلة العظيمة “أولجا بيتروفا”، ويبدو أن هذه الأفلام قد فقدت كلها. حصل الزوجان على الطلاق في عام 1920. وفي عام 1922 اختارت “جاي” العودة إلى فرنسا، حيث حاضرت على نطاق واسع لمدة ثلاثين عامًا عن السينما. وراحت تنشر أدبًا بالمجلات وتكتب سيناريوهات أفلام روائية، لكنها لم تتزوج مجددًا أبدًا، ولم تقم بإخراج أفلام.

أنتجت “أليس جاي”، أو أشرفت على إنتاج، آلاف الأفلام. وقامت بنفسها بإخراج 400 فيلم تقريبًا، وبقي منها 111 فيلمًا حتى الآن. وسبعة عشر فيلمًا من أفلامها الصوتية لا تزال موجودة، وبعضها فقد شريط الصوت الخاص به. ومن أفلامها الروائية الاثنين والعشرين، بقيت ثلاثة أفلام فحسب، واحد منها لم تتم صيانته بعد وهو بعنوان “الإمبراطورة”، وموجود بأرشيف السينما الفرنسية.

وختامًا، فإنه من المثير بالنسبة للمخرجة أليس جاي أن يأتي بعدها أحد أهم عظماء الإخراج السينمائي في العالم، ألفريد هيتشكوك، ليثني على أعمالها ويعترف بإعجابها بها وبما قدمته تلك المرأة من أعمال.