كان – محمد هاشم عبد السلام
انطلقت مساء 13 مايو/ أيار فعاليات الدورة الـ78 لـ”مهرجان كان السينمائي الدولي” والتي ستتواصل حتى يوم 24 مايو / أيار. والمراسم المعقودة في “مسرح لوميير الكبير”، المُعاد تحديثه وتطويره مؤخرًا بأحدث وأكبر أجهزة الصوت في العالم، لم تخرج كثيرًا عن المعتاد سنويًا، باستثناء أن مقدمها هو الممثل الفرنسي لوران لافيت. حيث التعريف بلجنة تحكيم “المُسابقة الرئيسية”، ويتنافس فيها 22 فيلمًا، وتترأسها هذا العام المُمثلة والمُخرجة الفرنسية جولييت بينوش، التي وقفت على نفس المسرح العام الماضي لتقوم بتسليم “السعفة الذهبية الفخرية” للممثلة الأميركية ميريل ستريب.
اختيار جولييت بينوش لرئاسة لجنة التحكيم أتاح لها إلقاء كلمة بهذه المناسبة، انتهزت خلالها فرصة رثاء المصورة الصحافية الفلسطينية فاطمة حسونة، التي قُتلت في غارة جوية إسرائيلية على غزة، والإعراب عن حزنها لأنه كان من المفترض أن تكون حاضرة وموجودة في المهرجان. ورغم جرأة بينوش وكلمتها المؤثرة لكنها مع الأسف لم تنطق باسم إسرائيل، أو أن من قتلها ويرتكب المذابح والإبادة هي إسرائيل. وهو نفس النهج الذي اتبعته إدارة المهرجان في بيانها عن مقتل فاطمة حسونة. ومع ذلك، تعرضت بينوش لتعليقات صهيونية وإدانات وسخريات ضد كلماتها التضامنية.

في ذات السياق، تعتبر بينوش هي الرئيسة الثانية على التوالي للجنة “التحكيم الرئيسية” بعد المخرجة والممثلة الأميركية جريتا جرويج العام الماضي. وذلك منذ رئاسة أوليفيا دي هافيلاند وصوفيا لورين، عامي 1965 و1966. وهو ما وصفه المدير الفني للمهرجان، تيري فريمو، بالفضيحة، نظرًا لانقضاء 60 عامًا على حدوثه. الحضور النسائي البارز للمخرجات في المسابقة هذا العام، وفي رئاسة لجان تحكيم مختلف المسابقات، مقارنة بالسنوات السابقة، يتماشي وسياسة المهرجان في السنوات الأخيرة، حيث إفساح مساحة أكبر للنساء في مختلف فعاليات المهرجان.
تكريم روبرت دي نيرو
هذا العام، مُنحت أيضًا جائزة “السعفة الذهبية الفخرية” لأميركي، وهو المُمثل المُخضرم أو “الأسطورة” على حد وصف بيان المهرجان روبرت دي نيرو، تكريمًا له ولمسيرته السينمائية الحافلة. سلمها له المُمثل الأميركي الشهير ليوناردو دي كابريو. وذلك، بعد كلمة موجزة تحدث فيها دي كابريو عن علاقته الممتدة مع معلمه وأستاذه دي نيرو أو “بوب”، كما ينادونه، وتدعيمه له خلال مسيرته. الإعلان عن اختيار دي نيرو، 81 عامًا، كان مثيرًا لتساؤلات عديدة. مثلا، إن تم اختياره بمحض الصدفة أو بسبب العلاقة الشائكة والهجوم المتكرر والمعارضة الحادة من جانب دي نيرو للرئيس الأميركي دونالد ترامب؟
الأمر يصعب حسمه تمامًا، لكن كان مؤكدًا أن دي نيرو لن يفوت الفرصة أبدًا لانتقاد رئيسه، الذي وصفه بالمتعجرف في كلمته الموجزة التي ألقاها فور تسلم الجائزة، ووصفه صراحة بـ”عدو الفن” و”يمثل خطرًا على الفنون والديمقراطية”، وختمها بضرورة الوقوف ضد الفاشية والعنصرية. وكذلك، الاحتجاج والتصدي لما سيقدم عليه الرئيس من فرض ضرائب على الصناعة؛ “لا يمكنكم وضع سعر على الإبداع، لكن من الواضح أنه يمكنكم فرض ضريبة عليه”. ومن ثم، فإن “السكوت لم يعد خيارًا”، بحسب كلماته.
فهل فعلا سيجري الترتيب والتنسيق للاحتجاج على هذه الرسوم؟ أمر رفض تيري فريمو التعليق عليه بشكل صريح ومباشر باسم المهرجان، وأبدت جولييت بينوش في المؤتمر الصحافي تفهمها لكون الرئيس الأميركي يُكافح، ويحاول بطرق مختلفة “إنقاذ أميركا وحمايتها وإنقاذ نفسه”.
عقب حفل الافتتاح، الذي لم يخل من تناول السياسة والحرب وعدم الأمان والخوف مما يجري عالميًا، وأوضح بحسم لإدارة المهرجان، وغيره من المهرجانات، استحالة الزعم بالابتعاد عن السياسة وعدم التعاطي معها والاكتفاء بالفن، عُرض الفيلم الفرنسي الغنائي “الرحيل يومًا” للمخرجة إميلي بونان.
فيلم الافتتاح
في فيلمها “الرحيل يومًا”، وعبر قصة رومانسية غنائية عصرية، غير جديدة كليا، باستثناء طريقة التناول والمعالجة، وتطور الشخصيات وتقلبات مشاعرها، تطرح إميلي بونان عدة قضايا تخص العلاقات الإنسانية المعقدة.
تدور الأحداث حول سيسيل (جولييت أرمانيه)، الطاهية الباريسية التي تستعد لتحقيق حلمها بافتتاح مطعمها الخاص الفاخر. لكن، قبل أسبوعين على الافتتاح، تُربك الظروف الطارئة حسابات سيسيل كلها. إذ تعلم بحملها غير المتوقع، وغير المرغوب فيه، لكنها تخفي الأمر عن حبيبها سُفيان (توفيق جلاب) تجنبًا لأي صدام. كما يتعرض والدها لنوبة قلبية ثالثة كادت تودي بحياته. ما يضطرها، بضغط وتشجيع من سفيان، إلى العودة سريعًا إلى مسقط رأسها في الريف الفرنسي لرؤية والديها والبقاء معهما لفترة للمساعدة في شؤون المطعم.

هناك تلتقي بأصدقاء سنوات المراهقة والدراسة. من بينهم نتعرف على باستيان (رافائيل تينريرو)، حبيبها القديم، الذي تركها ذات يوم بدون سبب واضح. تدريجيًا، يبدأ باستيان في التقرب منها كثيرًا. وبدافع الحنين، تجد نفسها تدريجيًا تستعيد بعض اللحظات الماضية، وتتجدد المشاعر القديمة. تتقرب منه بعض الشيء، ويبادلها باستيان نفس الشيء، رغم حبها وإخلاصها لحبيبها، ورغم التزام باستيان الصادق تجاه زوجته وابنه. من خلال الأحداث البسيطة غير المفتعلة، وتطور العلاقات بين الشخصيات، تجنبت المخرجة الانزلاق إلى التكرار المعهود أو التوقع المسبق للأحداث في هذه النوعية من الأفلام الرومانسية، والتي لم تكن فقراتها الغنائية مزعجة أو مقحمة.
افتتاح تونسي لـ”نظرة ما”
من ناحية أخرى، افتتحت مساء الأربعاء 14 مايو/ أيار، فعاليات مُسابقة “نظرة ما”. المُسابقة التالية في الأهمية لـ”المُسابقة الرئيسية”، وتتنافس فيها الأفلام الأولى أو الثانية للمخرجين والمخرجات، وتضم هذا العام 20 فيلمًا، وتترأسها المخرجة وكاتبة السيناريو والمصورة البريطانية مولي مانينغ ووكر، التي قالت في كلمتها التقديمية إنها فخورة بالاختيار وتتمنى أن تكون قراراتها ديمقراطية، على النقيض مما يحدث في بلدها.
المثير أن فيلم افتتاح التظاهرة هذا العام هو التونسي “سماء بلا أرض” للتونسية أريج السحيري. إذ لم يسبق لفيلم تونسي افتتاح هذه المسابقة الرسمية. فيلم “أرض بلا سماء” هو أحدث افتتاح عربي لهذه التظاهرة، وذلك بعد أن افتتحت في عام 2016 بالفيلم المصري “اشتباك” لمحمد دياب.
في جديدها “سماء بلا أرض” حاولت أريج السحيري، من خلال أداء تمثيلي جيد ومقنع، نقل الواقع المأزوم للمهاجرين الأفارقة في تونس. حيث تصاعدت حملات التحريض ضدهم، مما أدى إلى موجة عنف واعتقالات تعسفية وحالات طرد قسري.

قصة الفيلم مستوحاة من هذه الوقائع، وتسلط الضوء على العواقب التي تفجّرت بسبب خطابات الكراهية والخوف من الآخر.
تدور الأحداث حول “ماري”، وهي قسيسة من كوت ديفوار، وصحافية سابقة تعيش في تونس، التي تفتح أبواب منزلها أمام “ناني”، أم شابة تطمح لبداية جديدة وإقامة شرعية تتيح لها جلب ابنتها من بلدها، و”جولي”، الطالبة الجامعية صاحبة الإقامة الشرعية في البلاد بحكم دراستها، والحالمة بمستقبل عريض ينتظرها. كما تصل طفلة يتيمة إلى البيت بعد فقدان عائلتها المهاجرة، ما يزيد الأمور تعقيدًا. تستعرض الأحداث علاقتهن معًا، والاختبارات القاسية الكاشفة عن مدى هشاشتهن وضعفهن في ظل أجواء من التمييز والخوف وانسداد الأفق.
مُشاركات عربية
ينافس المخرج المصري السويدي طارق صالح في “المسابقة الرئيسية” بفيلمه الجديد “نسور الجمهورية”، وهو ثالث فيلم له، والأخير في ثلاثية “القاهرة”، “حادثة فندق النيل” (2017)، وقد نال “جائزة لجنة التحكيم الكبرى” في “مهرجان صندانس”، ثم تلاه فيلم “ولد من الجنة” الحائز على جائزة “أفضل سيناريو” في “مهرجان كان” عام 2022.
كما تحضر في المهرجان الممثلة والمخرجة الفرنسية التونسية الأصل حفصية حرزي. تنافس حفصية في “المُسابقة الرئيسية” لأول مرة، وذلك في خامس عمل لها خلف الكاميرا، ويحمل عنوان “الأخيرة الصغيرة”، وهو مقتبس من رواية بنفس العنوان للكاتبة الجزائرية فاطمة داعس، نشرت عام 2020.
كما يُعرض في قسم “نظرة ما”، إضافة إلى فيلم “أرض بلا سماء” لأريج السحيري، الفيلم المصري “عائشة لا تستطيع الطيران” للمخرج مراد مصطفى، ليمثل مصر في مسابقة غابت عنها منذ 10 سنوات تقريبًا. من فلسطين، يعود المخرجان التوأمان طرزان وعرب ناصر، هذه المرة للمشاركة في مسابقة “نظرة ما” بجديدهما “كان ياما كان في غزة”.

وقد خلت تظاهرة مهمة، هي “أسبوع النقاد”، من الأفلام العربية الطويلة، الروائية أو الوثائقية. أما تظاهرة “أسبوع المخرجين” فيعرض فيها الروائي الطويل “كعكة الرئيس” للعراقي حسن هادي. وفي قسم “أسيد” الحديث نسبيًا، يعرض الوثائقي المصري “الحياة بعد سهام” لنمير عبد المسيح. وبهذا، لا تتجاوز المشاركات العربية هذا العام 7 أفلام روائية طويلة ووثائقية. وكان التواجد العربي قد بلغ 15 مشاركة قبل 3 أعوام، مما يثير أسئلة كثيرة عن أحوال ومستقبل السينما العربية.
بعيدًا عن الأفلام العربية، تشهد “سوق المهرجان” هذا العام مشاركة كثيفة من جانب الدول العربية، وبعضها لم يحضر للمشاركة في السوق منذ 10 سنوات أو أكثر. من أبرز الوجوه الجديدة أو العائدة الجناحان العراقي والمصري، وغيرهما من الأجنحة العربية المتجاورة معًا جنبًا إلى جنب. من ناحيتهم، طلب القائمون على الجناح العراقي نقل الجناح الإسرائيلي بعيدًا عن مكان تواجده. الأمر الذي استجابت له إدارة السوق والمهرجان بإبعاد الجناح الإسرائيلي لمكان آخر، بعيدًا عن منطقة الأجنحة العربية. استجابة سريعة لا شك في أنها وضعت في الحسبان البعد الأمني والابتعاد عن أية تطورات قد تخرج عن السيطرة.
رسالة احتجاج: لا يجب إسكات رعب غزة
عشية انطلاق المهرجان، وقع أكثر من 350 من صناع السينما، بينهم: ريتشارد جير، وسوزان ساراندون، وخافيير بارديم، وبيدرو ألمودوفار، وروبن أوستلوند، وديفيد كروننبيرج، رسالة مفتوحة في “ليبراسيون” الفرنسية تحت عنوان: “في كان… لا يجب إسكات رعب غزة”. الرسالة، التي قيل إن جولييت بينوش سحبت توقيعها عليها في اللحظات الأخيرة، جاءت تخليدًا لذكرى المصورة الفلسطينية فاطمة حسونة (25 عامًا)، التي قُتلت في غارة إسرائيلية منتصف الشهر الماضي، بعد يوم من الإعلان عن الفيلم المُشاركة فيه، وهو وثائقي بعنوان “ضع روحك على كفك وامش”، للإيرانية الفرنسية زبيدة فارسي.
قرار اللحظة الأخيرة
رغم سخونة المشهد السياسي والأجواء المتوترة، والتي لا يمكن التكهن بتطوراتها خلال الأيام القادمة، أضاف المهرجان لمسته الخاصة ليزداد الأمر سخونة، وذلك بإعلانه فجأة عن فرض قواعد خاصة للزي، سيما النسائي، أكثر صرامةً من ذي قبل، تمنع العُري والفساتين الطويلة أو الملابس الفضفاضة. ما أثار تساؤلات كثيرة، وحتى دفع بعض النجمات إلى استبدال الفساتين الطويلة أو العارية بأخرى تناسب القانون الجديد. كان المهرجان قبل سنوات قد منع ارتداء الأحذية غير الأنيقة أو ذات الكعب العالي أو الحفايات. وكذلك التقاط الصور الشخصية أو ما يعرف بالسيلفي، متذرعًا بأن كل هذه الأمور تعطل السجادة الحمراء أو قد تؤدي لحوادث سقوط، ما قد يؤثر على سلامة الحضور.
ومع هذا، ارتبكت السجادة الحمراء مع أول يوم في الافتتاح، وذلك إثر وقفة احتجاجية مفاجئة نفذها عمال المهرجان بعنوان “تحت الشاشات… الفقر”، وهي حركة تضم قرابة 300 من العاملين في مختلف المهرجانات الفرنسية، وتطالب منذ سنوات بالحصول على حقوق اجتماعية أسوة بزملائهم في القطاع الفني، وإدماجهم في نظام التأمين ضد البطالة الخاص بقطاع الترفيه الفرنسي. وقد رفع المتظاهرون اللافتات حمراء، وأطلقوا الصافرات أثناء مرور النجوم، مما أجبر الشرطة على التدخل لفضّ التجمع.