بقلم: إدجار ألن بو
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
في ليلة موحشة كئيبة، بينما كنت أتأمل، واهن ومنهوك القوى،
ركام المعارف التقليدية المنسية والمثيرة للتعجب،
وبينما أثقل النعاس جفني وتمايل رأسي، أخذتني سنة من النوم تقريباً،
فجأة جاء صوت خبط ونقر هناك،
كما لو كان أحد يطرق بلطف، يطرق باب غرفتي.
“زائر ما” تمتمت، “طرق على باب غرفتي –
هذا كل ما في الأمر ولا شيء أكثر من هذا”.
آه، أتذكَّر بوضوح أنه كان في ديسمبر/ كانون الأول الشديد البرودة، وكل جذوة كانت تحتضر على حدة تاركة رُفاتها الشبحي فوق أرضية الغرفة.
تمنيت الإصباح بلهفة، – حاولت عبثاً أن ألتمس العون من كتبي لأوقف مؤقتاً هذا الحزن – الحزن على الفقيدة “لينور” –
العذراء النادرة والمتألقة التي تُسميها الملائكة “لينور” –
فلا اسم لها الآن وإلى الأبد هنا.
الحفيف المجهول للحرير الداكن للستارة الأرجوانية أرعدني – ملأني بأشكال من الرعب الهائل الذي لا مثيل له ولم أشعر به من قبل ؛ لذلك الآن، ولكي أُهدئ ضربات قلبي، وقفت أردد وأكرر “هذا زائر ما يتوسل للدخول أمام باب غرفتي –
زائر متأخر بعض الشيء يتوسل للدخول أمام باب غرفتي ؛ –
ولا شيء أكثر من هذا”.
الآن صارت روحي أكثر قوة ؛ ولم أعد متردداً،
“سيدي”، قلت. “أو سيدتي”، “التمس الصفح عني”، ففي الواقع أنني كنت في غفوة بعض الشيء،
وبشكل مهذب لطيف جاء الطرق على باب غرفتي،
كان الطرق واهناً جداً وبشكل ضعيف جداً على باب غرفتي،
لدرجة أنني كنت بالكاد قد سمعت شيئاً منه – الآن فتحت الباب على اتساعه –
هناك ظلمة ولا شيء أكثر من هذا.
حدَّقت في عمق هذه الظلمة – وقفت طويلاً هناك متعجباً، خائفاً،
شاكاً، أحلم أحلاماً لم يجسر بشر على الحلم بمثلها من قبل ؛
لكن الصمت كان متواصلاً، والسكون لم يعط أية إشارة،
والكلمة الوحيدة التي لُفِظت كانت الكلمة الهامسة “لينور!”
هذا ما همستُ أنا به، وهمهمة الصدى أعادت الكلمة، “لينور!” –
ليس سوى هذا ولا شيء أكثر من هذا.
استدرت عائداً إلى غرفتي، وكل ما هو بغيض في داخلي يشتعل، سمعت بعد فترة قصيرة نقراً، شيء ما أكثر علواً في درجة الصوت مما سبق.
“بالتأكيد” قلت، هذا شيء ما على مشربية نافذتي،
دعني أرى إذن، ما هو هناك على هذه المشربية وأحاول استكشاف اللغز –
فليهدأ قلبي للحظة وعندئذ أكتشف اللغز –
“إنها الريح ولا شيء أكثر من هذا”.
هنا فتحت مصراعي النافذة بدفعة قوية، وعند ذلك وبعديد من رفرفة الجناحين السريعة،
وجدته هناك يخطو وينتصب في مهابة، غراب من أيام الماضي الخوالي المقدسة؛
لم ينحنِ أقل انحناءة لتحيتي ؛ لم يتوقف حتى لدقيقة أو يبقى هناك ؛
لكن، بهيئة “لورد” أو”ليدي”، ربض فوق باب غرفتي –
فوق تمثال نصفي لـ”بالاس[1]” بالضبط فوق باب غرفتي –
جثم وجلس، ولا شيء أكثر من هذا.
ثم استدرج هذا الطائر الأبنوسي أفكاري الحزينة إلى الابتسام،
عن طريق قوة وصرامة الرزانة الوقورة التي كان يرتديها،
“مع ذلك عُرفَك مقصوص ومُجتثٌ، يا هذا”، قلت، “وأنت واثق لست كغراب،
عتيق مفزوع وشبحي حقير جاء متسكعاً من الساحل الليلي –
قل لي ما هو اسمك المُبجل في الشاطئ الجحيمي الليلي!”
قال الغراب، “أبداً”.
تعجبت كثيراً كيف لطائر أخرق بسماع حديث بهذه السهولة،
ومع ذلك كانت إجابته قليلة المعنى – قليلة الصلة بالموضوع مضجرة؛
لعدم مقدرتنا على الموافقة على أنه لا يوجد إنسان
يكون سعيداً أبداً حتى الآن برؤية طائر فوق باب غرفته –
طائر أو وحش على تمثال نصفي منحوت فوق باب غرفته،
بمثل هذا الاسم “أبداً”.
لكن الغراب، وقد جلس وحيداً فوق هذا التمثال النصفي اللطيف،
نطق فقط بهذه الكلمة الوحيدة، كما لو أن روحه في هذه الكلمة الوحيدة التي قذف بها،
دون غيرها بل ودون مجرد الهمهمة بعدها ولا حتى رفرفة ريشة – حتى أنني لم أقدر على أكثر من الهمهمة: “أصدقاء آخرون طاروا وغادروا من قبل –
في الغد سوف يرحل عني، كآمالي التي تلاشت من قبل”.
عندئذ قال الطائر “أبداً”.
وفوجئت لما انكسر السكون بردِّهِ المنطوق بشكل ملائم جداً،
“بلا شك”، قلت “ما ينطقه هو ليس إلاّ المخزون المدخَر
والمتحصل عليه من سيد حزين تطارده بسرعة نكبته القاسية
وهي تطارده أسرع فأسرع حتى صارت أغنياته تحمل عبئاً واحداً –
وحتى صارت التراتيل الحزينة لأمله تحمل عبئاً سوداوياً مقبضاً
لا يتجاوز الإجابة الحزينة “أبداً – أبداً””.
لكن الغراب مازال يغوي روحي الحزينة إلى الضحك والابتسام،
قمت مباشرة بدفع المقعد المُوَسَّد أمام الطائر والتمثال النصفي والباب؛
غطست في القطيفة الغائرة، ووجهتُ نفسي إلى ربط الخيال بالخيال،
مفكراً ماذا يقصد هذا الطائر المشؤوم العتيق –
ماذا يقصد هذا الطائر المشؤوم المتجهم،
الأخرق الشاحب كالموت والكالح الكئيب والآتي من أيامي الماضية،
ماذا يقصد بنعيبه هذا “أبداً”.
والآن، هأنذا جالس مشغول في التخمين، لكن بدون الإفصاح عن أدنى مقطع أتلفظه
إلى الطائر الذي حرقت الآن عيناه الناريتان المتقدتان صميم قلبي؛
هذا والأكثر من هذا جلوسي أتنبأ وأتكهن، ورأسي متكئة في راحة على بطانة المسند المخملية التي فوقها يحدق بإعجاب ضوء المصباح،
لكن بطانة من المخمل البنفسجي مع ضوء المصباح المحدق فوقها؛
ستضغط عليها، آه ، أبداً!
ثم، بدا لي أن الهواء صار كثيفاً بشدة، ومُعطَّر بمبخرة غير مرئية
يؤرجحها “ساروفيم[2]” يدُق بقدمه فوق الأرض المعشوشبة.
“تعس وبائس”، صحت أنا، “ربك قد وهبك – بهذه الملائكة – إمهالاً وأعطاك السلوان، كي تخرج من ذكرياتك مع “لينور”؛
عليك أن تنغمس في سلوان الرحمة هذا لكي تنسى هذه الفقيدة “لينور!”
قال الغراب “أبداً”.
“نبي”! قلت. “شيء من الشر!” – مازال نبياً، سواء كان طائراً أو شيطاناً! –
سواء شيطان مرسل، أو قذفتك العاصفة هنا على الشاطئ،
وحيداً منبوذاً، حتى الآن ورغم كل ذلك فأنت لست خائفاً بل متمتعاً مفتوناً، في هذه الأرض الصحراوية –
وفي هذا البيت المليء بالرعب – قل لي الحقيقة، أتوسل إليك –
هل هناك – بلسم في جلعاد؟ – أخبرني – قل لي، أتوسل إليك!”
قال الغراب، “أبداً”.
قلت: “نبي”، “بعض من الشر!” – مازال نبياً – سواء كان طائراً أو شيطاناً!
بحق هذه السماء هذه المنحنية فوقنا بوضوح – بحق هذا الإله الذي نعبده كلانا –
قل لهذه الروح الممتلئة بالأسى ما إذا، ضمن “عدن” البعيدة،
كانت سوف تحتضن العذراء المقدسة التي تسميها الملائكة لينور –
تحتضن العذراء النادرة والمتوهجة التي تسميها الملائكة لينور”.
قال الغراب، “أبدًا”.
لتكن هذه علامة فراقنا، طائرًا كنت أو شيطانًا!
صرخت، وأنا أقفز فجأة، – عُد إلى العاصفة وليالي الشاطئ الجحيمي!
ولا تدع ريشة سوداء تبقى هنا كأمارة لهذا الكذب الذي صدر عن روحك الخادعة!
اترك وحدتي بلا اختراق! – لتهجر التمثال النصفي الذي فوق بابي!
لتأخذ منقارك بعيداً خارج قلبي، واسحب جثتك إلى بعيد من أمام بابي!
قال الغراب، “أبدًا”.
والغراب، لا يطير أبدًا، لا يزال جالسًا، لازال جالسًا
فوق التمثال النصفي الشاحب لـ”بالاس” بالضبط فوق باب غرفتي؛
عيناه لهما كل ما لعيني الروح الحارسة الحالمة من مظهر،
وضوء المصباح فوقه يعرض ظله المطروح فوق الأرض؛
وروحي خارج هذا الظل الذي يقبع طافياً فوق الأرض
سوف ترفع، أبدًا!
[1] إلهة الحكمة عند الإغريق، وتعرف أيضاً “بالاس أثينا”.
[2] أحد ملائكة الطبقة الأولى الحارسين عرش الله في المعتقد اليهودي القديم.