ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
نشرت في مجلة “Playboy”، يونيو، 1964
برجمان: هل أصبت بالإحباط بعد؟
بلاي بوي: هل يجب هذا؟
برجمان: ربما لم تمض وقتًا طويلا هنا بالقدر الكافي. لكن الإحباط سيجيء. لا أعرف لماذا يعيش أي شخص في استوكهولم، بعيدًا جدًا عن أي شيء. عندما تطير إلى هنا من الجنوب، تجد الوضع غريبًا جدًا. أولا هناك بيوت ومدن وقرى، لكن هناك في البعيد فقط الأشجار والغابات والمزيد من الأشجار والبحيرات، ربما، ثم يظل الكثير من الغابات، فقط أحيانًا، بعيدًا جدًا، تجد بيتًا. ثم، فجأة، استوكهولم. إنه على عكس ما تجده على طريق المدينة هنا. وهنا حيث نجلس، نشعر بالوحدة. إننا بلد كبير جدًا، ومع ذلك فنحن قليلون جدًا، مشتتون عبرها على نحو بعيد جدًا. يقضي الناس حياتهم منعزلين في مزارعهم، ومنعزلين عن بعضهم البعض في منازلهم. إنه أمر صعب للغاية بالنسبة لهم، حتى عندما يأتون إلى المدينة ويعيشون بالقرب من الناس الآخرين، ليس هناك عون، فعلا. إنهم لا يعرفون كيف يتصلون ببعضهم البعض، ويتواصلون. يبقون منغلقين. وشتاؤنا لا يساعد على هذا التواصل.
بلاي بوي: ماذا تقصد؟
برجمان: حسنًا، لدينا ضوء في الشتاء فقط ربما من الثامنة والنصف في الصباح وحتى الثانية والنصف بعد الظهر. في الشمال، على بعد ساعات قليلة من هنا، لديهم ظلام طوال اليوم. لا يوجد نهار على الإطلاق. أكره الشتاء؟ أكره استوكهولم في الشتاء. عندما استيقظ أثناء الشتاء – أستيقظ في السادسة دائمًا، منذ كنت طفلا – أنظر إلى الجدار أمام نافذتي. في نوفمبر، وديسمبر، ليس هناك ضوء على الإطلاق. ثم، في يناير، يأتي خيط ضوء صغير. كل صباح أشاهد خيط الضوء هذا وهو يكبر قليلا قليلا. هذا هو ما يدعمني خلال الشتاء المظلم الفظيع: رؤية خيط الضوء هذا وهو ينمو بينما نقترب أكثر من الربيع.
بلاي بوي: إذا كان هذا هو ما تشعر به، فلم لا تغادر استوكهولم أثناء الشتاء وتعمل في مناخ أكثر دفئًا في عاصمة من عواصم السينما في روما أو هوليوود؟
برجمان: المدن الجديدة تثير أحاسيس متنوعة جدًا داخلي. تعطيني انطباعات كثيرة جدًا للتجريب في الوقت نفسه، إنها جميعًا محتشدة داخلي. كوني في مدينة جديدة يستحوذ عليّ، يربكني.
بلاي بوي: كانت هناك أخبار عن أنك تشعر بما أطلقت عليه “الخوف الكبير” كلما تغادر السويد؟ هل لهذا السبب لم تقم بتنفيذ فيلم أبدًا خارج بلدك؟
برجمان: ليس صحيحًا بالضبط، كل هذا له علاقة قليلة جدًا بعمل الأفلام. برغم كل شيء، الممثلون والاستوديوهات أساسًا هي نفسها في جميع أنحاء العالم. ما يقلقني فيما يتعلق بتنفيذ فيلم في بلد آخر هو فقدان التحكم أو السيطرة الفنية التي قد أصطدم بها. عندما أقوم بعمل فيلم، يجب أن أتحكم فيه منذ البداية وحتى يتم افتتاحه في دور العرض. نشأت في السويد، وجذوري هنا، وأنا لم أصب بعد بالإحباط هنا على المستوى المهني، على الأقل من جانب المنتجين. عملت بصورة عملية مع نفس الناس لعشرين سنة تقريبًا، شاهدوني وأنا أكبر وأنضج. المتطلبات التقنية لصناعة السينما تستعبدك، لكن هنا، كل شيء يجري بسهولة وفقًا لشروط إنسانية: المصور، العامل، رئيس الكهربائيين. كل فرد منا يعرف الآخر ويفهمه، أحتاج بالكاد إلى إخبارهم بما يفعلونه. هذا مثالي ونموذجي ويجعل المهمة الإبداعية – الأصعب دائمًا – أكثر سهولة ويسرًا. فكرة عمل فيلم لصالح شركة أمريكية فكرة مغرية جدًا، لأسباب واضحة. لكن ليست هوليوود هي أول ما يفكر فيه المرء لعمل فيلم، صعب جدًا – إنها في المرتبة الثانية. هل من الممكن العمل في بلد آخر، بمعدات أكثر حداثة لكن مع نفس طاقمي، وبنفس العلاقات مع المنتجين الخاصين بي، وبنفس التحكم والسيطرة على الفيلم كما هو الحال بالنسبة لي هنا؟ لا أعتقد أن هذا سيكون محتملا جدًا أو محببًا.
بلاي بوي: قلت إنك لا ترضى أقل الرضا بمقابلة الغرباء حتى في مواقع التصوير الخاصة بك في السويد، الممنوع منها جميع الزوار. لماذا؟
برجمان: هل تعرف ما هو الإخراج السينمائي؟ ثماني ساعات من العمل الشاق كل يوم لتحصل على ثلاث دقائق من الفيلم. وأثناء الساعات الثمانية هذه قد تكون هناك عشر، أو اثنتا عشرة دقيقة فقط، إذا كنت محظوظًا، من الإبداع الحقيقي. وربما لا تحصل عليها. ثم يجب عليك أن تجهز أو تعد نفسك لثماني ساعات أخرى وتصلي من أجل أن تحصل على دقائقك العشرة هذه المرة بصورة جيدة. كل شيء والجميع دون استثناء في موقع التصوير يجب أن يكونوا معتادين على إيجاد هذه الدقائق من الإبداع الحقيقي. يجب عليك أن تبقي الممثلين ونفسك في نوع من الدائرة المسحورة. خارج أي حضور أو وجود، حتى الأكثر صداقة وحميمية، وجود مخالف أساسًا للعملية الخاصة التي تحدث أمامه. في أي وقت يكون هناك دخيل في موقع التصوير، نواجه خطر أن جزءًا من استغراق الممثلين، أو الفنيين، أو أنا، سيتم المساس به أو انتهاكه. فالأمر لا يستغرق الكثير جدًا لتدمير المزاج الهش للانغماس الكلي في عملنا. لا يمكننا أن نخاطر بفقد تلك الدقائق الحيوية من الإبداع الحقيقي. المرات القليلة التي عملت فيها استثناءات دائمًا ما أسفت وندمت عليها.
بلاي بوي: تعرضت للانتقاد ليس فقط لأنك تعوق المتطفلين وحتى تطردهم من مواقع التصوير، وإنما لأنك تنفجر بالغضب الذي قمت أثناءه، طبقًا للتقارير، بنزع التليفونات عن الجدران وإلقاء الكراسي خلال زجاج أكشاك التحكم. هل هناك أية حقيقة في هذه التقارير؟
برجمان: نعم، هناك، أو بالأحرى، كانت. عندما كنت صغيرًا، أصغر بكثير، مثل الكثير من الشبان لم أكن واثقًا من نفسي. لكنني كنت طموحًا جدًا. وعندما تكون غير واثق، عندما تفقد الثقة وتحتاج لتأكيد نفسك، أو تعتقد أنك تفعل هذا، تصبح عدوانيًا محاولا تلمس طريقك. حسنًا، هذا هو ما حدث ليّ. في المسرح الإقليمي حيث كنت وقتها مخرجًا جديدًا. لم يعد بإمكاني التصرف بهذه الطريقة الآن وآمل أن أحافظ على احترامي للممثلين والفنيين العاملين معي. عندما أعرف أهمية كل دقيقة في يوم العمل، وعندما أدرك الحاجة البالغة لخلق حالة مزاجية هادئة وآمنة في مكان التصوير، هل تعتقد أنني بوسعي، أو سوف سيكون لديّ أي حق، لأشبع نفسي بهذه الطريقة؟ المخرج في موقع التصوير مثل ربان السفينة، يجب أن يّحترم لكي يطاع. لم أعد أتصرف بهذه الطريقة في العمل منذ أن كنت ربما في الخامسة والعشرين أو السادسة والعشرين.
بلاي بوي: ومع ذلك قصص نوبات الغضب هذه مستمرة في الانتشار في وسائل النشر.
برجمان: بالطبع يفعلون. مثل هذه الحركات البهلوانية كنزع التليفونات وقذف الكراسي في كل جانب تخلق نوعًا من المثال أو النموذج الذي يحب الصحفيون أن يعطوها لمدراء تحريرهم وقرائهم. إنه لأمر أكثر بهجة أن تقرأ عن مزاج حاد أكثر من أن تقرأ عن شخص ما يغرس الثقة في ممثليه عن طريق التحدث معهم بهدوء. إنه لمن المتوقع أن الناس يستمرون في كتابة – وقراءة – هذا النوع من الهراء عن رجل من الرجال عامًا بعد عام. هل بدأت تفهم لماذا لا أحب التحدث إلى الصحافة؟ تعرف، يقول الناس أيضًا أنني لا أحب رؤية الصحفيين، نظرًا لأنني أرفض التحدث إليهم بأية حال. إنهم محقون وعلى صواب لمرة واحدة فقط. عندما أكون لطيفًا مع الصحفيين، وأمنحهم وقتي وأتحدث إليهم بإخلاص، يعزفون وينشرون الكثير من النميمة القديمة، أو يقوم مدراء تحريرهم بتضمينها، لأنهم يعتقدون أن هذه القصص القديمة أكثر إمتاعًا من الحقيقة. خذ عندك القصة الصادرة على الغلاف منذ سنوات قليلة في واحدة من تلك المجلات الأمريكية عندكم.
بلاي بوي: مجلة “التايم”؟
برجمان، نعم، إنها هي. قرأتها لي زوجتي عندما ظهرت هنا. الرجل الذي وصفوه يبدو مثل شخص أود مقابلته – ربما صعب قليلا، ليس بالشخص اللطيف، ومع ذلك يظل رجلا ممتعًا. لكن لم أجد نفسي فيه. لم يكن أحدًا أعرفه.
بلاي بوي: قلت إنك ليست لديك أدنى صعوبة في إدراك بعض أفلامك عندما تقرأ ما يجب على النقاد أن يقولوه عن ميزاتها ومعانيها. هل هذا صحيح؟
برجمان: أقلعت عن قراءة ما يكتب سواء عن أفلامي أو عني. إنه من غير المجدي أن تصاب بالضيق. يعرف معظم النقاد السينمائيين القليل جدًا عن كيفية صناعة فيلم، لديهم معرفة عامة صغيرة جدًا أو ثقافة محدودة. لكن بدأ يوجد جيل جديد من النقاد السينمائيين الصادقين والمطلعين على السينما. مثل بعض النقاد الفرنسيين الشبان – هم من أقرأ لهم. أنا لا أتفق دائمًا مع ما يجب أن يقولوه عن أفلامي، لكنهم على الأقل صادقون. أنا أحب الأمانة، حتى عندما تكون غير مناسبة بالنسبة لي.
بلاي بوي: حسنًا، تم نقد أفلامك بطريقة سلبية، من بين أسباب أخرى، للمعاني الخاصة أو الذاتية فيها وغموض الكثير من أحداثها وبسبب رمزيتها الشديدة. هل تعتقد أن هذه الاتهامات قد يكون لها بعض المصداقية؟
برجمان: من الممكن، لكنني لا آمل هذا لأنني أظن أن إخراج فيلم مفهوم للجمهور هو الواجب الأكثر أهمية بالنسبة لأي مخرج. وهو الأكثر صعوبة أيضًا. الأفلام الخاصة أو الذاتية سهلة التنفيذ نسبيًا، لكنني لا أشعر أن المخرج ينبغي عليه إخراج أفلام سهلة. ينبغي أن يحاول قيادة جمهوره أبعد قليلا في كل فيلم يعقبه. إنه لأمر جيد بالنسبة للجمهور أن تعمل قليلا. لكن لا ينبغي على المخرج أبدًا أن ينسى لمن يصنع فيلمه. على أية حال، ليس مهمًا أن يرى شخص ما أحد أفلامي ويفهمها هنا، في عقله، كما يفهمها هنا، في القلب. هذا هو ما يهم.
بلاي بوي: بغض النظر عن طبيعة فهمهم، الكثير من النقاد الدوليين الكبار يتفقون على تصنيفك في المرتبة الأولى بين مخرجي العالم. ما الذي تشعر به إزاء هذا الاستحسان؟
برجمان: النجاح في الخارج جعل عملي أكثر سهولة في السويد. لم يعد ينبغي عليّ أن أحارب كثيرًا جدًا من أجل أمور خارجية ولا علاقة بالفعل بالعمل الإبداعي الحقيقي. بفضل هذا النجاح، اكتسبت الحق في أترك لأؤدي عملي. لكن النجاح، بالطبع، مؤقت جدًا، إنه مثل شيء رقيق أو واه كونه وفقًا للموضة. خذ باريس – منذ سنوات قليلة كنت مخرجهم المفضل. ثم جاء “أنطونيوني”. من الجديد؟ من يعرف؟ لكن أنت تعرف، عندما بدأ شبان “الموجة الجديدة” في إخراج أول أفلامهم، كنت حاسدًا لهم، حاسدًا لهم لمشاهدتهم لجميع الأفلام الموجودة في السينماتيك (مكتبة السينما)، ولمعرفتهم بكل طرق أو تقنيات صناعة السينما. وليس لما هو أبعد من ذلك. على الجانب التقني، أصبحت أكثر شهرة. اكتسبت ثقتي بنفسي. يمكنني الآن أن أشاهد أعمال المخرجين الآخرين ولا أشعر بالغيرة أو الخوف. أعرف أنه لم يعد ينبغي عليّ ذلك.
بلاي بوي: هل أثرت أفلامهم أو علمتك تطوير أسلوبك الإخراجي ومهاراتك؟
برجمان: كان يجب عليّ أن أتعلم كل شيء عن الأفلام بنفسي. بالنسبة للمسرح درسته على يد رجل عجوز رائع في “تيبورج”، حيث قضيت أربع سنوات. كان رجلا صعبًا، وصارمًا، لكنه عرف المسرح، وتعلمت منه. لكن، بالنسبة للأفلام، لم يكن هناك أحد. قبل الحرب العالمية الأولى كنت تلميذًا، ثم أثناء الحرب لم نذهب لمشاهدة أية أفلام أجنبية على الإطلاق، وفي ذلك الوقت كان عليّ أن أعمل بجد واجتهاد لمساندة زوجة وثلاثة أطفال. لكن لحسن الحظ أنني ذاتي التعلم بالطبيعة، إنني هذا الفرد الذي يمكنه أن يعلم نفسه بنفسه – على الرغم من أن هذا شيء غير مريح أحيانًا. الناس التي تعلمت بطريقة ذاتية تجدهم متعلقين كثيرًا جدًا بالجانب التقني، والجانب الثابت والراسخ، ويضعون الكمال التقني في منزلة عالية جدًا. أعتقد أن المهم، والأكثر أهمية، هو أن يكون لديك شيء ما لتقوله.
بلاي بوي: هل تشعر بأن مخرجي “الموجة الجديدة الأمريكيين” لديهم شيء ما ليقولوه؟
برجمان: نعم، أظن. شاهدت أمثلة قليلة فحسب من أعمالهم – “العلاقة”[1]، و”الظلال”[2]، و”اجذب ديزي”[3] فقط، أنا راغب جدًا في مشاهدة الكثير. لكن من خلال ما رايته، أجد أنني أحب “الموجة الجديدة الأمريكية” أكثر من “الموجة الفرنسية الجديدة”. إنهم أكثر حماسًا بكثير، مثاليون، بطريقة ما – أقل براعة وإتقانًا، أقل من ناحية المهارة التقنية وأقل اطلاعًا من مخرجي السينما الفرنسية، إلا أنني أعتقد أن لديهم شيئًا ما ليقولوه، وهذا جيد. هذا مهم. إنني أحبهم.
بلاي بوي: هل استمتعت بالأفلام الروسية التي شاهدتها؟
برجمان: كثير جدًا. أظن أن شيئًا جيدًا جدًا سوف يجيء منهم عما قريب. لا أعرف لماذا، لكنني أشعر بهذا. هل شاهدت “طفولة إيفان”؟ هناك شيء ما غير عادي وعجيب فيه. بعضه سيئ جدًا، بالطبع، لكن هناك موهبة وقوة.
بلاي بوي: ما هو شعورك إزاء المخرجين الإيطاليين؟
برجمان: “فيلليني” رائع. إنه كل ما لم أكنه. كنت أرغب في أكونه. إنه متكلف جدًا. عمله عبقري جدًا، وشديد الدفء، وسهل جدًا، وغير عُصابي إلى حد بعيد جدًا. أحببت “الحياة الحلوة” كثير جدًا، بصفة خاصة المشهد الذي فيه الأب. هذا المشهد كان جيدًا. والنهاية، التي فيها السمكة العملاقة. “فيسكونتي” أحببت فيلمه الأول، “الأرض تهتز”، رائعته وأفضل أفلامه، فيما أظن. أيضًا، أحببت فيلم “الليل” كثيرًا “لأنطونيوني”.
بلاي بوي: هل تصنف هذه الأفلام من بين أفضل الأفلام التي رأيتها في أي وقت؟
برجمان: كلا، حتى الآن أعتقد أن لدينا ثلاثة أفلام معاصرة مفضلة: “السيدة صاحبة الكلب”[4]، و”راشومون”[5]، و”أمبرتو دي”[6]. آه، نعم، وفيلم رابع: “إجازة السيد هلوت”[7]. أحب هذا الفيلم.
بلاي بوي: دعنا نعود إلى موضوع عملك، إذا أمكن. من أين أتيت بفكرة آخر أفلامك وأكثرها إثارة للجدل، “الصمت”؟
برجمان: من رجل عجوز وبدين جدًا. هذا صحيح. منذ أربع سنوات، عندما كنت أزور صديقًا لي في مستشفى هنا، لاحظت من نافذة غرفته رجلا طاعنًا في السن، شديد البدانة إلى حد كبير، ومقعدًا، يجلس على كرسي تحت شجرة في المتنزه. بينما كنت أراقبه، مشت أربع ممرضات طيبات مبتهجات إلى الخارج، ورفعنه إلى أعلى، وكذلك الكرسي وكل شيء، وحملنه إلى داخل المستشفى. صورته المحمولة بعيدًا مثل دمية بقيت في ذهني، على الرغم من أنني لم أعرف بالفعل لماذا بقيت على وجه التحديد. كل شيء نما من هذه البذرة، مثلما نمت معظم أفلامي – من بعض الأحداث الصغيرة، أشعر أنني بصدد شيء ما، نادرة أخبرني بها أحد الأشخاص، أو ربما من إشارة أو إيماءة أو تعبير على وجه ممثل. كل هذا يفجر نوعًا خاصًا جدًا من التوتر داخلي، مثل هذا الإدراك أميزه على الفور.
في أعمق مستوى، بالطبع، تنبع أفكار الكثير من أفلامي من ضغوط الروح، وهذه الضغوط تتغير. لكن معظم أفلامي تبدأ بصورة معينة أو بحث حيث يبدأ خيالي ببطء في بناء تفصيل معقد. أحفظ كل واحد منها بعيدًا في ذهني. في كثير من الأحيان أدونها على هيئة ملاحظة. هذه الطريقة كونت عندي سلسلة كاملة من الملفات المفيدة والنافعة في ذهني. بالطبع، قد تمر عدة سنوات قبل أن أتوصل إلى تحويل هذه الأحاسيس إلى شيء متجانس في هيئة سيناريو. لكن عندما يبدأ مشروع في اتخاذ شكل ما، عندئذ أفتش في أحد ملفاتي العقلية عن أحد المشاهد، وفي آخر عن شخصية. في كثير من الأحيان الشخصية التي أسحبها لا تتصل على الإطلاق مع الآخرين الموجودين في السيناريو، لذا يتوجب عليّ إعادتها إلى ملفها وأن أبحث في مكان آخر. تنمو أفلامي مثل كرة ثلجية، بصورة تدريجية جدًا من قطعة ثلج واحدة. وفي النهاية، لا يمكنني في الغالب أن أرى القطعة الأصلية التي بدأ أو خرج منها كل هذا.
بلاي بوي: في حالة فيلم “الصمت”، “القطعة الأصلية” – ذلك الشيخ المشلول – من الصعب بالتأكيد أن تتبين أو تميز بشكل واضح مشاهد الجماع والاستمناء التي أثارت ردود الفعل الغاضبة هذه، المؤيدة والمعارضة. ما الذي جعلك تقرر تصوير الجنس بالتفصيل هكذا على الشاشة؟
برجمان: كنت لسنوات عديدة جبانًا وتقليديًا فيما يتصل بالتعبير عن الجنس في أفلامي. لكن توضيح الجنس هذا مهم جدًا، وبالنسبة لي بصفة خاصة، لأنني قبل كل شيء، لا أرغب في عمل أفلام فكرية فقط. أريد من الجماهير أن تشعر، وأن تحس بأفلامي. هذا أكثر أهمية إلى حد كبير بالنسبة لي من فهمهم لها. هناك الكثير جدًا مما هو مشترك بين صباح صيفي جميل وممارسة الجماع، إلا أنني أشعر بأنني قد وفقت في إيجاد الوسائل السينمائية للتعبير عن الأول فقط، وليس عن الثاني، حتى الآن. ما يهمني أكثر، على أية حال، هو البنية الداخلية للحب، فهذا هو ما يدهشني إلى حد كبير جدًا أكثر من تصوير الإشباع الجنسي.
بلاي بوي: هل تتفق مع هؤلاء الذي يقولون إن النسخة الأمريكية من “الصمت” قد ضعفت أو أخصيت بسبب استئصال أو اقتطاع دقيقتين تقريبًا من المشاهد الجنسية في الفيلم؟
برجمان: أفضل ألا أعلق على هذا.
بلاي بوي: حسنًا. لكن هل من الممكن أن هذه المواجهة أو الصدام مع لوائح الرقابة الأمريكية تحثك على أن تمارس رقابة ذاتية معينة على الأفلام القادمة مستقبلا؟
برجمان: كلا. أبدًا.
بلاي بوي: كيف أقنعت الممثلتين “ثولين” و”ليندبلوم” بأداء المشاهد الفعلية التي تم تجسيدها في لقطات المشاهد المثيرة للجدل؟
برجمان: بنفس الطريقة الدقيقة التي جعلت بها، الممثلين الآخرين جميعًا، يمثلون في أي مشهد من المشاهد في أي فيلم آخر من أفلامي. ببساطة نناقش بهدوء وسهولة تامة ما يجب عليهم القيام به. يدعي بعض الناس أنني أقوم بتنويم الممثلين العاملين معي مغناطيسيًا – حيث إنني أستخدم السحر لأخرج منهم التمثيل الذي أحصل عليه. يا له من هراء! كل ما أقوم به هو محاولة إعطائهم الشيء الوحيد الذي يرغب فيه الجميع، الشيء الوحيد الذي يجب أن يكون لدى الممثل: الثقة في النفس. هذا كل ما يرغب فيه أي ممثل، كما تعرف. أن يشعر بالثقة الكافية في نفسه بحيث يكون قادرًا على أن يعطي كل ما هو قادر على إعطائه عندما يطلبه منه المخرج. لذا أحيط ممثلي بهالة من الثقة واليقين. أتحدث إليهم، في كثير من الأحيان ليس عن المشهد الذي نعمل عليه على الإطلاق، وإنما فقط لجعلهم يشعرون بالأمان والاطمئنان. إذا كان هذا سحرًا، فأنا ساحر إذًا. ثم، أيضًا، العمل مع نفس الناس – فنيين وممثلين – في عالمنا الخاص لسنوات عديدة جدًا سهل عليّ مهمة إيجاد المزاج الضروري لخلق الثقة.
بلاي بوي: كيف توفق بين هذا التصريح والإعلان التالي، الذي أدليت به قبل خمس أو ست سنوات في مناقشة عن طرق صناعة أفلامك، وقلت فيه: “سأستغل مواهبي إذا كانت ستؤيد غرضي، أسرق إن لم تكن هناك وسيلة أخرى، أقتل أصدقائي أو أي شخص آخر إن كان هذا سيساعد فني”؟
برجمان: دعنا نقول إنني كنت دفاعيًا جدًا عندما قلت هذا؟ عندما يكون المرء غير واثق من نفسه، عندما يكون قلقًا بخصوص وضعه أو مكانته، قلقًا على كونه فنانًا مبدعًا، فإنه يشعر بالحاجة، كما قلت من قبل، للتعبير عن النفس بقوة بالغة، وبحزم شديد، لكي يقاوم أي نقد محتمل. لكن بمجرد أن تصبح ناجحًا في النهاية، تشعر بالتحرر من ضرورات النجاح. تتوقف عن القلق بخصوص الكفاح أو النضال، ويمكن أن تكرس نفسك للعمل. تصبح الحياة أكثر سهولة. تحب نفسك بصورة أفضل. أجد أنني قد بدأت في الاستمتاع كثيرًا كما لم يحدث من قبل، ولعلمي بأن هناك الكثير مما لم أره. أشعر بأنني أكبر قليلا – ليس كثيرًا، بل قليلا – وأحب هذا.
تعرف، اعتدت الاعتقاد في أن الحل الوسط في الحياة، كما في الفن، أمر محال، نظرًا لأن أسوأ شيء يمكن أن يقوم به المرء هو ركونه إلى الحلول الوسط. لكن بالطبع تبنيت الحلول الوسط. كلنا نفعل هذا. نضطر إلى هذا. لا يمكننا أن نعيش بخلاف هذا. لكن لفترة طويلة لن أعترف لنفسي – على الرغم من أنني، بالطبع، في نفس الوقت كنت أعرف هذا – بأنني، أيضًا، كنت رجلا توصل إلى حل وسط. اعتقدت أنني بإمكاني أن أكون فوق كل هذا. وتعلمت أنه ليس بوسعي. تعلمت أن ما يهم، فعلا، هو كونك حيًا. أنت حي، لا يمكنك أن تساند أو تقف إلى جوار أناس موتى أو شبه موتى، أليس كذلك؟ بالنسبة لي، ما أعده جديرًا بالاعتبار هو كونك قادرًا على أن تشعر. هذا هو ما يحاول فيلم “ضوء الشتاء” – فيلمي الذي يبدو أن الناس فهمته بدرجة اقل – أن يقوله. نظرًا لأنك الآن في استوكهولم لأيام قلائل في منتصف الشتاء، أعتقد أنه بوسعك أن تبدأ في الفهم، قليلا، ما يدور حوله هذا الفيلم. ما الذي ستصنعه به؟
بلاي بوي: إنني أكثر اهتمامًا بتعلم ما ستصنع به.
برجمان: حسنًا، كان فيلمًا صعبًا، أحد أصعب الأفلام التي قمت بإخراجها حتى الآن. يجب على الجمهور أن يعمل. إنه بمثابة تطور أو تقدم عن المرحلة التي قدمت فيها فيلم “عبر زجاج معتم”، وهو ما أدى بالتبعية إلى فيلم “الصمت”. الثلاثة يقفون معًا جنبًا إلى جنب. اهتمامي الأساسي أثناء تنفيذها كان منصبًا على عملية التحويل الدرامي لكل ما هو مهم فيما يتعلق بالتواصل، والقدرة على الشعور. إن هذه الأفلام لا تهتم وليست متعلقة – كما قال الكثير من النقاد في تنظيراتهم – بـ “الله” أو بـ “غيابه”، وإنما بالقوة المنقذة للحب. غالبية الناس في هذه الأفلام الثلاثة أموات، أموات تمامًا. لا يعرفون كيف يحبون أو يشعرون بأية عواطف. إنهم ضائعون لأنهم لا يستطيعون أن يبلغوا أو يصلوا إلى أي شيء خارج ذواتهم.
الرجل في “ضوء الشتاء”، القس، لا شيء. إنه ميت تقريبًا، هل تفهم هذا. إنه منعزل كلية عن الجميع. الشخصية المركزية هي المرأة. إنها لا تؤمن بالله، لكن لديها قوة، النساء هن القويات. بإمكانها أن تحب. وبإمكانها أن تنقذ حبها. مشكلتها أنها لا تعرف كيف تعبر عن هذا الحب. إنها قبيحة، هوجاء. إنها تخنقه، وهو يكرهها لقبحها. لكنها تتعلم أخيرًا كيف تحب. في النهاية فقط، عندما يكونان في الكنيسة الفارغة من أجل قداس الساعة الثالثة والتي لم يعد لها معنى تمامًا بالنسبة له، تستجاب صلاتها إلى حد ما: فيستجيب لحبها بمواصلة الخدمة في تلك الكنيسة الريفية الفارغة. إنها خطوته الأولى نحو الشعور، وتعلم كيف يحب. لقد تم إنقاذنا ليس من قبل الله، وإنما بالحب. هذا أكثر ما يمكن أن نأمله.
بلاي بوي: كيف ينقل هذا الموضوع أو هذه التيمة في الفيلمين الآخرين من الثلاثية؟
برجمان: كل فيلم، كما ترى، لديه لحظة اتصال خاصة به، لحظة من التواصل البشري خاصة به، السطر أو الجملة التي تقول: “تحدث إلي يا أبي”، في نهاية “عبر زجاج معتم”، والقس الذي يقيم الخدمة في الكنيسة الخاوية من أجل “مارتا” في نهاية “ضوء الشتاء”، والولد الصغير الذي يقرأ خطاب “إيستر” في القطار في نهاية “الصمت”. لحظة صغيرة في كل فيلم لكنها حاسمة وفارقة. ما هو أكثر أهمية في كل هذه الأمور هو كونك قادرًا على أن تقيم هذا الاتصال مع إنسان آخر. وإلا فإنك ميت، مثل الكثير من الناس الأموات اليوم. لكن إذا كان بوسعك أن تأخذ الخطوة هذه الأولى – المبادرة – نحو الاتصال، نحو الفهم، نحو الحب، عندئذ لا يهم الصعوبة التي قد يكون عليها المستقبل – من دون أوهام، وعلى الرغم من كل الحب الموجود في العالم، يمكن أن يكون العيش صعبًا إلى حد فظيع – فقد تم إنقاذك إذًا. هذا هو كل ما يهم فعلا، أليس كذلك؟
بلاي بوي: شعر نقاد كثيرون أن نفس هذه الرسالة – تلك عن الخلاص من الوحدة عن طريق الحب – كانت أيضًا موضوعًا لأكثر أفلامك نجاحًا على المستوى التجاري وأكثرها شهرة، “الفراولة البرية” – الذي فيه الطبيب الكبير، كما كتب أحد النقاد، “بعد حياة منعزلة عاطفيًا، يتعلم درس التعاطف، وينصلح بسبب هذا التغير”. هل هم على صواب؟
برجمان: لكنه لم يتغير. لا يستطيع. فقط ذلك هو. لا أعتقد أن الناس يمكن أن يتغيروا، ليس حقيقيًا، ليس بصورة أساسية جذرية. هل تعتقد هذا؟ قد تنتابهم لحظة إضاءة أو تنوير، قد يرون أنفسهم، يعون ما هم عليه، لكن هذا هو أقصى ما يمكنهم أن يأملوا فيه. في “ضوء الشتاء”، المرأة، الشخصية القوية – يمكنها أن ترى. لديها لحظتها من الإدراك والوعي، لكنها لن تغير حياتها. سيكون لديهم حياة فظيعة. لن أقوم بإخراج فيلم عما يحدث لهم بعد ذلك إزاء أي شيء في العالم. يجب عليهم أن ينسجموا من دوني.
بلاي بوي: على ذكر شخصية “مارتا” في “ضوء الشتاء”، فقد تم مدحك على نطاق واسع لتصويرك المتعاطف مع، وإلقائك الضوء على، الأبطال من النساء في أفلامك. كيف هذا…
برجمان: ستتساءل كيف أفهم النساء جيدًا جدًا. عادة ما تثير النساء اهتمامي كموضوعات لأنه قد تم التعامل معهن وظهرن بصورة سخيفة جدًا في الأفلام. وقمت أنا بإظهارهن ببساطة كما هم عليه في الواقع – أو على الأقل أكثر قربًا مما هن عليه بدلا من التصورات السخيفة لهن في أفلام الثلاثينيات والأربعينيات. أي معالجة واقعية بشكل معقول تبدو عظيمة مقارنة بما كان يتم عمله. لكن، في السنوات القليلة الماضية، بدأت أدرك أن النساء هن في الأساس كالرجال سواء بسواء، نظرًا لأن كليهما لديه المشاكل ذاتها. لم أعد أعتقد أن هناك مشاكل خاصة بالنساء أو قصصًا للنساء بعد الآن أكثر مما أفعل بخصوص مشاكل للرجل أو قصص خاصة بهم. كلها مشاكل إنسانية. البشر هم الذين يثيرون اهتمامي الآن.
بلاي بوي: هل سيكون فيلمك القادم بأية حال استمرارًا للموضوع الذي قمت بتفصيله في ثلاثيتك الأخيرة؟
برجمان: لا، فيلمي الجديد، والأخير لفترة زمنية، سيكون فيلمًا كوميديًا، كوميديا جنسية، قصة أشباح – وأول فيلم ملون لي.
بلاي بوي: ما الاسم الذي أطلقته عليه؟
برجمان: “كل النساء”. قد يحبونه في أمريكا، الموسيقا المصاحبة هي “نعم، ليس لدينا موز”[8]. إنها تسليني، على أية حال. لقد أخبرت كاتبًا سويديًا بالفعل إنني آمل في أنه سيبدأ عهد “ضجة برجمان”. انتهيت منذ فترة ليست بالقصيرة من المونتاج النهائي. تعرف، أنا لا أمانع على الإطلاق في مونتاج أو قطع أفلامي. ليس لدي أي من إحساس الحب أو الكره هذا الذي لدى بعض المخرجين إزاء قطع أو مونتاج أفلامهم. قال لي المخرج “ديفيد لين” ذات مرة إنه ليس بمقدوره أن يتحمل مهمة المونتاج، فهي تصيبه بالملل بمعنى الكلمة. إنني لا أشعر بهذا على الإطلاق على هذا النحو. أنا لست عُصابيًا على الإطلاق فيما يتعلق بهذا.
بلاي بوي: قلت منذ لحظة إن هذا سيكون فيلمك “الأخير لفترة”. ما المدى الذي ستستغرقه هذه الفترة؟
برجمان: سنتان، ربما. أريد أن أنهمك كلية في عملي كمخرج في المسرح الدرامي الملكي هنا. يبهرني المسرح لعدة أسباب: أولا، إنه أقل اعتمادًا على شخصك بكثير من عمل الأفلام. أنت تحت رحمة أقل عدد من المعدات والمتطلبات التي تتطلبها دقائق كثيرة من أجل التسجيل يوميًا. لست وحيدًا جدًا تقريبًا. فالعمل بينك وبين الممثلين، ولاحقًا، الجمهور. إنه رائع – اللقاء المفاجئ بين تعبير الممثل ورد فعل الجمهور. إنه أمر شديد المباشرة والحيوية بصورة كلية. الفيلم، بمجرد اكتماله، يصبح غير قابل للتغيير، في المسرح يمكنك أن تحصل على رد فعل مختلف من كل ممثل. هناك تغيير متواصل، وثمة فرصة دائمة للتحسين. لا أعتقد أنني يمكنني أن أعيش من دون المسرح.
[1] فيلم لـ “شيرلي كليرك” (1962) – المترجم.
[2] فيلم لـ “جون كازافيتش” (1959) المترجم.
[3] فيلم لـ “روبرت فرانك” و”ألفريد ليزلي” (1959) – المترجم.
[4] فيلم لـ “لوسيف كيفيتس” (1960) – المترجم.
[5] فيلم لـ “أكيرا كوروساوا” (1950) – المترجم.
[6] فيلم لـ “فيتوريو دي سيكا” (1952) – المترجم.
[7] فيلم لـ “جاك تاتي” (1953) – المترجم.
[8] عنوان لأغنية شهيرة جدًا في عشرينات القرن الماضي – المترجم.