محمد هاشم عبد السلام

 

12/4/2018

 

بعد عرضه العالمي الأول في مهرجان “إدفا”، نهاية العام الماضي بأمستردام، لا يزال فيلم “النباح البعيد للكلاب” للمخرج الدانماركي الشاب سايمون ليرينج ويلموت، يُعرض في المهرجانات الدولية المتخصصة في الأفلام التسجيلية، ولا يزال أيضًا يواصل حصده للجوائز المتميزة بتلك المهرجانات. فقد حصد الفيلم أولى جوائزه منذ عرضه العالمي الأول، جائزة “الظهور الأول” من مهرجان “إدفا”، والتي تُمنح للعمل الأول أو الثاني للمخرج بشرط ألا يتعدى طوله 70 دقيقة.

وقد عُرض الفيلم أيضًا بمهرجان “جوتبيرج” مطلع هذا العام، وفاز بجائزة “التنين” لأفضل فيلم تسجيلي إسكندنافي، فالفيلم من إنتاج الدانمارك وفنلندا والسويد، رغم أنه ناطق وتدور أحداثه في أوكرانيا. وبعد عرضه مؤخرًا ضمن المسابقة الرسمية للدورة العشرين من “مهرجان سالونيكي التسجيلي”، خرج الفيلم عن جدارة بثلاث جوائز، الجائزة الكبرى أو ما يُسمى “ألكسندر الذهبي”، وجائزة الاتحاد الدولي للنقاد (الفيبريسي)، وجائزة “القيم الإنسانية”. ولا يزال الفيلم يطوف، حتى اللحظة، العديد من المهرجانات حول العالم، ومن ثم تزداد فرصه في الحصول على المزيد والمزيد من الجوائز المُستحقة.

منذ تخرجه في مدرسة الفيلم بالدانمارك عام 2008، اشترك سايمون ويلموت في إخراج فيلمين طويلين مع مخرجين آخرين. ولذلك، يُعتبر فيلم “النباح البعيد للكلاب”، أفلامه التسجيلية الطويلة. وقد أخرج من قبل أربعة أو خمسة أفلام قصيرة، نصف ساعة أو أكثر. والجيد فيما يتعلق بمسيرة سايمون أنه لم ينجرف أو تأخذه الشهوة أو النهم لإخراج الكثير من الأفلام، كغيره ممن يصنعون أفلامًا مرة كل عام على الأقل، لا سيما إن كانت قصيرة وفي ظل توفر إنتاج أوروبي سخي. كذلك، نلاحظ فيما يتعلق بموضوعات أفلامه السابقة أنها لا تتسم بالانغلاق المحلي، سواء على مستوى الدول الإسكندنافية بصفة خاصة أو الأوروبية بصفة عامة.

كان أول فيلم لسايمون “فوق الأرض تحت السحاب” قد نفذه في مصر، وتناول قصة حياة الصبي “محمود” الذي يعشق السيرك منذ طفولته، ويحلم بالانضمام إلى السيرك القومي المصري كلاعب أكروبات، ويتابع الفيلم حلم الصبي وتدريباته الشاقة على يد مدربه. وقد أعقبه بآخر تدور أحداثه في اليابان عن مصارع سومو صغير، يحلم بأن يخلف عرش والده المُصارع الشهير، وحمل الفيلم عنوان، “شيكارا: ابن مُصارع السومو”، أما فيلمه الثالث، فرصد نفس الفئة العمرية تقريبًا التي تناولها في أفلامه السابقة، عشر سنوات أو نحو ذلك، لكن هذه المرة في الدانمارك، حيث التدريبات الشاقة والمنافسات الحامية التي يتأهب لخوضها أحد الصبية من أبطال لعبة الشيش على المستوى الأوروبي، بعدما تجاوز المستوى المحلي، وحمل الفيلم اسم “بطل لعبة الشيش”.

ولذا، لم يكن غريبًا بالمرة، عندما قرر سايمون إخراج فيلمه التسجيلي الأول الطويل، أنه لم يحد عن دربه المعهود. ففي فيلم “النباح البعيد للكلاب”، نجد البطل الرئيسي من نفس المرحلة العمرية تقريبًا، والمكان هذه المرة في أوكرانيا. لكن عوضًا عن الحلم والأمل والطموح والتحديات والتدريبات والمنافسات إلى آخره، ينقل لنا في فيلمه ما هو مغاير لكل هذا، حيث الحروب والدمار وأصوات القنابل والقذائف، واللعب بالرصاص والمدساسات. حياة الأمل الوحيد فيها هو البقاء على قيد الحياة، والطموح يتمثل في نوم هادئ لليلة أو أكثر، والتحديات ماثلة في الاستمرار في حياة ينوء بحملها الكبار، ومواصلة التعلم والضحك والعيش رغم كل شيء.

ينقل لنا في الفيلم حياة الحروب والدمار وأصوات القنابل والقذائف، واللعب بالرصاص والمدساسات.

 

الحرب بعيني الصبي أوليج

 

تدور أحداث فيلم “النباح البعيد للكلاب” في قرية “هناتاف” الحدودية الواقعة في شرق أوكرانيا، ويقطنها سبعمائة نسمة تقريبًا. تلك القرية، الواقعة مباشرة على نهر “كالميوس”، الفاصل بين القوتين المتحاربتين، الجيش الأوكراني من جهة والجبهة الأوكرانية الانفصالية المدعومة من روسيا من الجهة الأخرى، تعرضت لقصف عنيف، ولا تزال حتى اللحظة بقعة توتر ساخنة، الأمر الذي أدى لنزوح العديد من سكانها. ومن بين من بقوا من سكانها، يركز الفيلم على الصبي “أوليج أفاناسييف”، الذي لا يكاد يختفي من الفيلم ولا تسهو عنه الكاميرا إلا للحظات قصيرة. ومن خلال رصد الحياة اليومية لأوليج، الذي يعيش معه جدته، “ألكسندرا”، بعدما توفيت والدته، إذ يزوران قبرها مع بداية الفيلم، نتلمس شيئًا فشيئًا مدى كابوسية تلك الحياة على صبي في مثل سنه.

ومن خلاله نلمس مدى بؤس وقسوة الحياة الصقيعية في تلك البلدة، وقلة الأطفال المماثلين له في السن، وعدم وجود أماكن للترفيه أو اللهو والتسلية، وحتى المدرسة تُعتبر فقيرة للغاية من حيث الإمكانيات، ودائمًا ما يُكرَّس الوقت فيها للتنبيه من أخطار القنابل أو الألغام أو كيفية لبس الأقنعة الواقية أو تفادي الإصابات أو الجروح، وحتى إجراء تدريبات على النزول إلى المخابئ، وقضاء أطول وقت ممكن فيها. بين كل هذا وذلك، تارة نرى “أوليج” ليس كصبي، بل كرجل ناضج يعين جدته فيما يتعلق بشؤون المنزل وغيرها، وتارة ينبجس الطفل البريء بداخله، فيذهب للعب واللهو برفقة ابن خالته، “ياريك”، الذي يصغره بسنوات قليلة، والمرتبط به أشد الارتباط، وأحيانًا مع صديقهما المشترك “كوستيا” الذي يكبرهما بسنوات قليلة.

لا يكتفي مخرج الفيلم برصد اللحظات المرعبة والصادمة، والتي يستحيل أن تمحي من ذاكرة أي طفل أو صبي أو بالغ يعيشها، ونقصد بها تلك المتعلقة بإطلاق النيران وتواصل القصف المدفعي أو تحليق الطائرات أو الاستيقاظ من النوم في حلكة الليل على أصوات القنابل والطائرات والقصف والعجز عن التصرف أو اللجوء لمكان آمن، لا يكتفي المخرج برصد كل هذا عن كثب، بل يغرقنا أكثر حتى آذاننا في مأساة “أوليج”، الذي فوق معاناته من فقدان والديه، يُعاني من انتقال خالته وابنها إلى منطقة أكثر أمنًا لها ولابنها مع أحد الجنود الذين تعرفت عليهم. وعندئذ نرى لحظات الفراق والبكاء الحار المرير، حتى من جانب الجدة، ثم لحظات وحدته وشروده وصمته المطبق وعزوفه عن كل شيء.

وبجانب هذا، يرصد المخرج أيضًا، مرض الجدة، وتأثير ذلك على حياة الصبي، الذي سيعجز دون شك إن ماتت في أي لحظة، وسيكون عليه تدبير أموره. ومن ثم، نرى كيف يهتم بواجبات المنزل، وبتحضير الطعام، وكل تلك الأمور التي كانت تضطلع بها قبل مرضها. وعندما يطلب من جدته مغادرة القرية، تقول له “نحن جزء من هذا المكان، جزء من هذه الأرض” ثم تخبره بالمثل الأوكراني القائل: “كل كلب أسد في بيته”. ولذا، يتناسى “أوليج” مسألة الرحيل، ويتأقلم مع حياة الوحدة ومرض الجدة، مُستأنِسًا بقطته الصغيرة. لكن سرعان ما تتبدل الأمور قليلا مع عودة رفيقه “ياريك”، بعدما كره صديق خالته وجوده معهما. ولذلك تتركه أمه مع والدتها وتمضي لتعيش مع صديقها. وسرعان ما يجدا نفسيهما معًا مُجددًا يمرحان ويلعبان، ولا يكترثان للحياة والقصف، ويذهبان حتى للاستحمام في النهر. ويخبره “أوليج” بأنه لو ماتت الجدة فسوف نعيش مع القطة، ويرد “ياريك” بأنني صرت أعتبرها أمي.

لولا عفوية وعنفوان الصبا، ولولا حب الحياة والعيش من جانب “أوليج”، وكذلك “ياريك”، وأيضًا لأنه ليس بأيديهما ما يفعلانه في تلك اللحظة من حياتهما خلال العيش والاستمتاع قدر الإمكان، فإننا نجدهما بالفعل مثالين نابضين بالحياة وحبها ونموذجين للمقاومة، ليس فقط للأطفال في تلك المنطقة الحدودية المُلتهبة من أوكرانيا، بل كافة المناطق التي يعيش أهلها في خطر يومي دائم، ويتعايشون مع الموت اليومي الذي يترصدهم في أي لحظة، وبخاصة أطفال تلك الأماكن الحدودية، سواء كانوا في أوكرانيا أو سوريا أو اليمن أو غيرها من بقاع العالم، التي لا يُعقل بالمرة، في ظل حضارة كحضارتنا وتقدم بشري كالذي أنجزناه، أن تكون هذه هي الأحوال، وأن ينشأ الأطفال في ظل كل هذا، وأن تكون أدوات لعبهم ولهوهم هي الطلقات الحية والمسدسات والحروب والقتل. وهو ما نشاهده مع نهاية الفيلم، ويؤدي لإصابة طفيفة في قدم “أوليج” بينما كان يحاول صديقه تعليمه كيفية إطلاق النار.

 

ذبابة على الحائط

تنقل المخرج سايمون ويلموت بين أكثر من أسلوب في سرد وتصوير أحداث الفيلم. فبالرغم من أن الفيلم اعتمد البناء الخطي في بنيته، إلا أن التصوير تبدل في بداية الفيلم عنه في النهاية. ففي البداية، كانت الكاميرا هادئة ثابتة يصعب الشعور بحركتها أو الإحساس بها على الإطلاق، تتنقل هنا وهناك بحرية وانسيابية وترصد حتى العديد من المشاهد الريفية الخلابة بالمنطقة. ومع النصف الثاني من الفيلم، صار الإحساس بالكاميرا طاغيًا جدًا، كذلك حركتها السريعة، وأحيانًا اللاهثة، والمؤثرة للغاية. وقد غلب على كادرات الفيلم اللقطات المُقربة والشديدة القرب لوجه “أوليج”، بعدما كانت بعيدة أو متوسطة البُعد أو بانورامية، وطويلة في السابق. وقد تزامن كل هذا مع انتقال الفيلم لرصد الأجواء الساخنة للإطلاق النار، والاستعانة بلقطات أرشيفية، ليلية في الغالب، للقصف المتبادل.

والفيلم إجمالا يعتبر نموذجًا أو تجسيدًا لذلك المُصطلح السينمائي (Fly-on-the-wall) الذي تُمكن ترجمته إلى “ذبابة على الحائط”، وتلك الترجمة الحرفية هي المقصودة بالضبط من المصطلح، الذي يصف تلك الرؤية الأفقية، التي لذبابة لا ترى خلا ما هو أمامها. والمقصود به سينمائيًا، ذلك الرصد، خاصة في السينما التسجيلية على وجه التحديد، الذي يلجأ فيه المخرج للتحرك وجهًا لوجه، وربما التحدث مباشرة، مع بطل فيلمه أو شخصياته، وعدم الإيهام بأنه أو الكاميرا غير موجودين، فالعكس هنا هو ما يحدث. وقد صار هذا النوع من التصوير السينمائي مُنتشرًا للغاية في السينما التسجيلية العالمية، وحتى العربية، مؤخرًا شاهدنا عدة أفلام عربية حديثة تتبع نفس النمط. لكن البعض، من الجمهور أو النقاد أو المغرمين بالسينما، لا يزالوا يواجهون صعوبة في تفهم هذا الأسلوب أو التأقلم معه، ويعتبرون الفيلم غير تسجيلي أو يتهمون مخرجه بالتلفيق أو ارتكاب أخطاء أو عدم النضج. وصحيح أن هذه الطريقة، في بعض الأفلام تكاد توردها مورد الهلاك وتقضي على فعالياتها وقوتها ومصداقيتها، لكنها في أفلام أخرى ناجعة وفي محلها تمامًا.