محمد هاشم عبد السلام

 

18/8/2016

 

في أحدث أفلام المخرج الروماني المتميز “كريستيان مونجيو”، والذي حمل عنوان “بكالوريا” أو “تخرُّج”، والذي عُرض ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان “كان” الأخير، فاز المخرج الشاب بجائزة الإخراج مناصفة مع فيلم “إنها فقط نهاية العالم” للمخرج الكندي الشاب أيضًا “كزافييه دولان”. وكان الفيلم الروائي الثاني القوي لمونجيو قد فاز في عام 2007 بالسعفة الذهبية، وقد حمل عنوان “4 شهور، ثلاثة أسابيع، يومان”. في حين فاز فيلمه الثالث “ماء وراء التلال” بجائزتين، أحسن سيناريو وأحسن تمثيل في عام 2012. وفي أحدث أفلامه، وهو الخامس في مسيرته السينمائية، يعود مونجيو ليطرق وبمنتهى القوة والقسوة على عدة أوتار يضربها العفن والفساد بأنواعه داخل المجتمع الروماني المعاصر، ويبرز تأثير هذا على البشر وعلاقتهم ببعضهم البعض، وانعكاس هذا إنسانيًا على نموذج بعينه من المجتمع، عائلة صغيرة، تنتمي للطبقة العليا من الشريحة البرجوازية.

يمكننا إلى حدّ بعيد أن نطلق على سينما مونجيو، سينما فاوستية بامتياز، حيث يحضر النموذج الفاوستي دائمًا في أفلامه، التي تنتهي الأمور فيها عادة وإذ بالعديد من الشخصيات أو على الأقل الشخصيات الرئيسية، سواء عن قصد أو دون قصد، بحسن نية أو سوء نية، طواعية أو كراهية إلى آخره، تبيع نفسها للشيطان بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة، ففي ظل تسويات غريبة شبه منطقية تجد الشخصيات نفسها مضطرة في النهاية للإقدام على تلك المقايضة، إن جاز التعبير، رغم عدم إيمانها أو قناعتها أو تعارض هذا ومبادئها أو أفكارها أو سلوكياتها في الحياة بصفة عامة.

في فيلم “بكالوريا” نرى طموح ذلك الأب – تجاه مستقبل ابنته – الذي يمكن وصفه بالجنوني. فهو لا يعبأ بأي شيء غيره، الأمر الذي يدفعه في النهاية إلى اقتراف تجاوزات معنوية وأخلاقية، تؤثر تبعاتها وتداعياتها على جوانب حياته المختلفة، وتصيبها بانهيار تام يصعب أن تعود معه إلى ما كانت عليه سابقًا. عن طريق العديد من التفاصيل الصغيرة، والبناء المتمهل للحدث أمام أعيننا، وتعميق أبعاد الشخصيات والأدوار القائمة بها، وأداء تمثيلي غاية في الرصانة والإقناع، ينجح مونجيو في جعلنا نعايش بشدة وعمق، ونتفهم إلى حد كبير قصة معاناة ذلك الأب، الذي يُحب ابنته بالفعل، ويتمنى نجاحها وتفوقها بكل السبل، لا سيما وأن البنت بالفعل ناجحة ومجتهدة ومتفوقة، وهنا نقطة قوية تحسب للسيناريو بالطبع، فلو كان الأمر غير ذلك بالنسبة للفتاة لما تعاطفنا مع مساعي والدها، ولا مع الفتاة بالمرة، ولكانت الإدانة جاهزة على الفور.

إن فيلم مونجيو بقدر ما يطرحه من أسئلة عن الأبوة، والقدوة، وثقافة الفساد الضاربة بجذورها في أعماق المجتمع الروماني من قمته وحتى قاعه، فإنه في النهاية لا يطرح على المتفرج العادي هذه الأسئلة فحسب، فمع تأمله نجد أن حالة بطل الفيلم ينبغي بالفعل التريث أمامها كثيرًا قبل توجيه اللوم والإدانة لها، فهي بكل حال من الأحوال ارتكبت ما يستحق العقاب، لكن من منا لم يرتكب يومًا ما يستحق عليه العقاب أو اقترف ولو لمرة عابرة في العمر ما يمكن وصفه بالفساد أو الرشوة البيضاء؟ وهل يعتبر ما ارتكبته فسادًا بالفعل مقارنة بالأنواع والأشكال الأخرى الفادحة والسافرة من الفساد؟ وهل ثمة ما يمكن اعتباره خطًا فاصلا بين هذا النوع وذاك من أنواع الفساد؟ هل من الممكن أن يحيد المرء ولو لمرة عن طريق الحق وينحي الأخلاق جانبًا ويخالف ضميره من أجل هدف نبيل لأقرب الناس إليه؟ أخيرًا، وليس آخر، يلامس الفيلم دون شك، في العديد من جوانبه الأخرى، نسبية الأخلاق والأفعال والتصرفات، وأوقات الضعف التي قد يمر بها كل منا في مرحلة ما من مراحل حياته، ومدى الشكوى وإلقاء اللوم على كل هذا دون التطرق لأنفسنا وتصرفاتنا وأفعالنا؟

“روميو” (أدريان تيتيني)، في مطلع الخمسينات، أحد الأطباء المتميزين والمعروفين والذين يتمتعون بالثقة والمصداقية والسمعة الطيبة في مدينته الصغيرة. يعيش روميو مع زوجته، ربة المنزل، “ماجدة” (ليا بونار)، ويبدو أن علاقتهما يشوبهما الكثير من الفتور، وتكاد تكون ماتت بالفعل. لا يجتمعان معًا إلا من أجل النقاشات واتخاذ القرارات بشأن ابنتهما الوحيدة المراهقة “إليزا” (ماريا فيكتوريا دراجوس)، التي هي بصدد أداء الامتحانات النهائية، والتي ستتيح لها درجاتها الحصول على إحدى المنح المهمة، التي ستنقل حياتها نقلة نوعية هائلة من وجهة نظر والديها إلى خارج رومانيا، حيث ستسافر للعيش في لندن، والدراسة في كامبريدج. وقد ربى روميو ابنته على التمسك بكل القيم النبيلة والأخلاق القويمة وإعلاء قيمة الصدق دائمًا في حياة الإنسان.

إنها فرصة لم يستطع والديها في السابق تحقيقها أو الحصول عليها، ولهذا السبب يتابع روميو تقدمها الدراسي بشغف بالغ، وإصرار تام على إكمالها لدراستها بالخارج، ومن هنا أيضًا يتسنّى لنا على نحو منطقي فهم الدوافع الحارة من جانب الأب والأم، وذلك الهوس من جانب الأب على وجه الخصوص، ورعبه البالغ من إخفاق ابنته. بطبيعة الحال يمكن رؤية الأمر، إلى حد كبير، كنوع من التعويض عن الإخفاق الذي مُنيا به في الماضي، ورغبتهما الحارقة في ألا تعيش وتعايش ابنتهما نفس الأوضاع والظروف والمشاكل الاجتماعية أو المستقبل المغلق، على حد قول الوالد، الذي يواجهه المجتمع الروماني حاليًا. ومن هنا أيضًا نتفهم عمق دوافعه ومبرره من أجل القيام بكل ما فعله من أجل تحقيق هذا الحلم القديم/الجديد، حلمه/حلمها.

قبل يوم واحد من امتحان تخرجها النهائي، والذي ينبغي على إليزا الحصول فيه على تقدير بعينه من أجل المطالبة بتلك المنحة، وبجوار مدرستها، وبعد دقائق جد قليلة من ترك والدها لها هناك، يعلم لاحقًا أنها قد تعرضت لحادثة، إذ قام رجل غامض بمهاجمتها. الهجوم، وهو ما لم يتضح على نحو يقيني تام بالفيلم، يتراوح بين الاعتداء بغرض السرقة أو الشك في كونه بهدف الاغتصاب. الأمر الذي يعرض الفتاة لبعض الإصابات الطفيفة، التي تتم معالجتها سريعًا، لكن توضع لها جبيرة حول يدها التي تكتب بها. يتسنى لها في النهاية دخول الامتحان في اليوم التالي للحادث، وتُصِر على أن تكتب بنفسها، لكنها مع الأسف تخفق في تحقيق الدرجات التي كانت من المنتظر أن تؤهلها للحصول على المنحة المرجوة، ويصير أمر المنحة معلقًا.

من دون علم الفتاة، التي تصاب بالانهيار والاكتئاب بسبب الحادث، وبسبب الامتحان أيضًا، وإن كان أمر الامتحان أقل وطأة، يلجأ والدها إلى شتى الحيل والسبل والأساليب والوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل مساعدة ابنته، والتماس أي عذر لها بناء على ما تعرضت له من حادث أثّر بالتأكيد عليها وعلى أدائها بالامتحان، خاصة و أنها متفوقة. وبالفعل، يتقرب الأب من مدير المدرسة، وبإيعاز من صديق طفولته قائد الشرطة المرموق الذي ينصحه بتقديم بعض الخدمات لنائب العمدة المرتشي، وهي بالنهاية خدمات إنسانية، حيث يعاني الرجل من مشاكل صحية خطيرة بالكبد، وكل ما عليه كطبيب أن يُعجِّل من دوره في إجراء التحاليل وإجراءات علمية النقل، أما مدير الامتحانات فعليه بدوره رد بعض الخدمات الجليلة التي كان روميو قد أسداها إليه من قبل، كل هذا بغية تعديل الأوضاع والأمور في النهاية لصالح الابنة، عن طريق إعادة الامتحان لها، ووضعها لبعض الإشارات بالورقة من أجل منحها أعلى الدرجات.

تلك الخدمات البسيطة التافهة أو التي قد تبدو كذلك، وهي ما يرصدها مونجيو في فيلمه، يتضح كيف أنها تبدو بالفعل شديدة العمق والاستفحال، وأنها ضرب من ضروب الفساد غير الملحوظ بالمرة. وإنها ليست متعلقة بالرشوة فحسب أو مرتبطة بفساد الذمم وخراب الأنفس وانهيار القيم وقصر النظر الأخلاقي، ولكن بكونها في النهاية عبارة عن عدة دوائر متداخلة ومتشابكة على نحو غاية في التعقيد، ولذا فإنها أدت في النهاية، وكما رأينا بالفيلم، إلى نفس الانهيار التام للجميع سواء على المستوى المادي أو الاجتماعي أو الأخلاقي أو النفسي أو العملي.

وبالتالي، نجد هنا أن كل من باع نفسه حتى وإن كان من أجل غرض نبيل، انهارت حياته، يستوى في ذلك نائب العمدة المرتشي أو الطبيب الحسن السير والسلوك، فهذا رغب فقط في تقديم المساعدة لفتاة مجتهدة متخليًا عن جشعه ورشاويه إلى آخره، وذاك كل ما فعله هو تقديم اسمه في الكشوف من أجل التعجيل بإجراء العملية فحسب، فتشاء الأقدار أن يموت قبل أن تجرى له العملية، وبعد الفضيحة تنهار حياة الطبيب العملية والأسرية، والأدهى رفض الفتاة لفكرة السفر والمنحة وعدم وضعها للعلامات بالورقة وتفضيلها البقاء مع حبيبها، بعدما رأت كل القيم والمُثل تنهار من حولها، ولم يعد يتبقى لها سوى علاقتها الصادقة بحبيبها.

عبر سيناريو يتسم بالكثير من الحرفية والتماسك، وإن كان يغلب عليه الكثير من الحوارات الطويلة على نحو لا لزوم له، وبعض الحبكات الثانوية غير اللازمة، وفوق هذا بالطبع، وإن كان بالإمكان فهمه، عدم تعميق شخصية الأم وإبراز موقفها على نحو ملائم. لكن المثير في الأمر هو شخصية إليزا نفسها، التي لم يُعمّقها المُخرج على أي نحو من الأنحاء، ولم يحرص على تبيان مشاعرها وأحاسيسها المختلفة على الشاشة، ولا إطلاعنا على ما يدور في رأسها، كي تبدو، على الأقل، مقنعة في تبرير العديد من مواقفها بالفيلم، وهو أمر يُعزى في النهاية لتركز البناء برمته على شخصية الأب، التي جاءت على عكس الجميع شديدة الإقناع في كل ما تفعله، شخصية من لحم ودم بالفعل. أخيرًا، يُحسب لمونجيو أنه آثر أن يخرج فيلمه على قدر كبير من البساطة وعدم التعقيد الحرفي والتقني، حتى لا ينشغل المشاهد بأي شيء يدور على الشاشة خلا الغوص في أعماق الفيلم، وتفاصيل الأسئلة الوجودية العميقة التي يطرحها.