أجراها: ستيفن كابين ودان إبستين

ترجمة: محمد هاشم عبد السلام

عندما جرت دعوة الروائي بول أوستر ليُساهم بانتظام في الإذاعة القومية العامة تردد، لأنه لم يرغب في كتابة قصص بناء على طلبات المستمعين. اقترحت عليه زوجته سري هستفيدت: لماذا لا تطلب القصص من المستمعين؟ لذلك، طلب أوستر من المستمعين كتابة قصص حقيقية موجزة. وفي غضون عام، تلقى ما يزيد عن أربعة آلاف مساهمة. قام بقراءتها كلها، بعضها على الهواء، واختار 179 مساهمة من بين المساهمات الأكثر إجادة وتميزًا لتصبح كتابًا فريدًا وذا تأثير غير متوقع. هناك قصص مكتوبة ببساطة ووضوح “بواسطة أناس من كافة الأعمار وتتناول كل الأمور الحياتية”. حيث قام أوستر بإعجاب واحترام بالغين بتصنيفها في عشرة تصنيفات مذهلة تناولت: الحيوانات، الأشخاص، العائلات، الهزليات، الغرائب، الحرب، الموت، الأحلام، التأملات.

– ما الذي كان عليه الأمر عندما قابلت للمرة الأولى أناسًا ممن كتبوا بعض قصص هذا الكتاب؟

أوستر: أنت تعرف ما الذي يكون عليه الأمر عندما تتحدث إلى أشخاص هاتفيًا وتقوم بالربط في ذهنك بين جسد ما والصوت الذي تسمعه، ثم تتاح لك مناسبة للالتقاء بذلك الشخص وتجد نفسك على خطأ في كل مرة. كان هذا الأمر صادقًا فيما يتعلق بأناس “القصص القومية”. لقد تخيلتهم جميعًا، قصار القامة جدًا، أو فارعي الطول، شديدي البدانة، أو غاية في النحافة، صغار السن أو عجائز. الأمر الذي كان رائعًا جدًا عند التقائي بهم. فقد حطموا كل توقعاتي في كل مرة.

– كيف كانت ردود أفعالهم عندما التقوا بك؟

أوستر: أتصور أنهم كانوا سعداء بمقابلتي، فقد أثنيت على عملهم وقمت بنشره. كانوا سعداء بالمشروع، وكانوا بدون استثناء فخورين وممتنين لكونهم مشاركين فيه. في الحقيقة، من الصعب تعريف المشروع نفسه.

– هل يجب على المرء قراءة “اعتقدت أن والدي كان إلهًا وحكايات أخرى حقيقية من مشروع قصص الإذاعة العامة القومية” في جلسة واحدة؟

أوستر: لا أعتقد أن بمقدور المرء ذلك. أوصي بقراءته دفعة واحدة. فقد حاولت تنظيم الكتاب على النحو المشار إليه، كقصص متتابعة، ليتسنى للمرء الخروج منها بشيء ما أيضًا.

– هل كان خفض عددها إلى 179 قصة أمرًا صعبًا؟

أوستر: كان صعبًا لكن ليس بالدرجة التي قد يتخيلها المرء، فمن بين الأربعة آلاف مساهمة التي بدأت بها فقط كان هناك حوالي ثلاثمائة أو نحو ذلك حظت عندي بالاعتبار. كانت صعوبة المسألة كانت في تقليص تلك المجموعة. وأتصور أن الحصول على ثلاثمائة قصة جيدة، بعضها جيد بشكل استثنائي، كان نسبة جيدة. شيء ما مثل سبعة في المائة.

– أعتقد أن هناك الكثيرين من الناشرين الذين سيتفقون معك. إنها مصادفة مذهلة أن القصص انقسمت تقريبًا بالتساوي بين الرجال والنساء.

أوستر: إنه سحر علم الإحصاء. ليست لديَّ فكرة عن هذا. لم أكن أعرف كيف سيتم توزيع الأربعة آلاف قصة. كان التوزيع الجغرافي أيضًا رائعًا تمامًا.

– كيف كان هذا التوزيع الجغرافي؟

أوستر: 42 ولاية مختلفة بالإضافة إلى العاصمة واشنطن.

– هل فاجأتك جودة القصص؟

أوستر: نعم، يجب عليّ أن أعترف. (ضحكات). لم أكن أعرف في البداية ما الذي أتوقعه، وعندما بدأت المساهمات الأولى في الوصول كان فيها العديد من المساهمات المتميزة. لقد أفقدتني صوابي. فكرت، “يا إلهي، هناك الكثير من القدرات الكتابية، أكثر مما كان المرء يتوقعه”.

– ما هي المساهمات المفضلة لديك بشكل شخصي فيما نُشِر؟

أوستر: هناك بعض المساهمات التي انجذبت إليها. أحب كثيرًا تلك القصة التي تحمل عنوان  “اعتقدت أن والدي كان إلهًا”. الرائع فيما يتعلق بهذه القصة كيف أن الفقرة الأخيرة تلفت نظرك إلى عالم آخر مختلف كلية. أحببت جدًا ما عليه الفقرة الأخيرة من سينمائية. إنه ولد صغير ينظر عبر نظارة مقرِّبة إلى منزل صديقه عبر الشارع، فيرى “تاكسي” يتوقف أمام البيت. يخرج منه بحار طويل هزيل نحيف هو في الحقيقة عمّه الذي عاد إلى البيت من الحرب. يرى جدته تخرج مسرعة من البيت وتلقي بنفسها بين ذراعي ابنها وهي تبكي. إنه موقف مكتوب بشكل جميل جدًا.

– أي نوع من القصص تلقيته منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر؟

أوستر: نفس النوع من المادة كان يصل. أناس ملتصقين جدًا بذكرياتهم عن الحدث. تلقيت أشياء قليلة بقدر معقول عن الهجوم، لكن ليس بقدر كبير. أعتقد أنه حدث قريب جدًا للناس للبدء في الكتابة عنه. علينا أولاً أن نهضمه.

– في عام 1961، نجوت بمعجزة من الموت عندما ضرب البرق زميلاً لك في المعسكر الصيفي وأودى بحياته، ما الذي مثَّلته لك هذه التجربة؟

أوستر: أعتقد أنها كانت أحد أهم التجارب التي مررت بها في أي وقت. أتصور أنها شكّلت فعلاً تفكيري عن العالم بطرق معينة لم أكن أبدًا على دراية تامة بها. لكن عندما أتذكرها أتفهّم كم كانت تلك الحادثة مهمة بالنسبة لي. كيف أن العالم هش وخاضع للصدفة ؛ فأنت قد تقف لدقيقة بجوار شخص ما، ويموت في الدقيقة التالية.

– لماذا تلعب المصادفة دورها دائمًا في رواياتك؟

أوستر: من خلال معرفتي السابقة، أحاول استكشاف وسبر أغوار العالم بقدر ما في وسعي. سألتني من قبل عن وقوفي خلف شخص ما صعقه البرق، حسنًا لم يبد هذا من فعل الصدفة، فإنني لا أدري أي شيء هو!

(عندما طلب بول أوستر أن يرسل الأمريكيون إليه بقصصهم الحقيقية اكتشف أن معظم الناس يجد الحياة غريبة، وعجيبة، وعصية على التنبؤ، تمامًا كما يجدها هو. لكن كيف ساعده هذا الفيض الهائل من القصص).

– هل كتابك الجديد يعتبر من مؤلفات بول أوستر؟

أوستر: لم أفكر أبدًا في هذا السؤال من قبل. أفكر فيه ككتاب بأقلام أناس آخرين ساهمت في تجميعها وتقديمها. أشعر أنني مثل مدير المراسم في حفل أو قران. كان مشروع القصص القومي عملاً إذاعيًا مشتركًا بيني وبين الراديو العام القومي. كانت الفكرة مطالبة المستمعين بإرسال قصصهم الحقيقية. القصة التي كانت تحظى بإعجابي، كنت أقوم بقراءتها في الراديو. كان مدى الاستجابة عظيمًا لدرجة أنه بعد عدة أشهر توصلت لفكرة تجميعها معًا كمختارات أدبية.

– إذن الكلمات ليست لك؟

أوستر: اقتصر دوري على انتخاب القصص وحسب.

– هل اختيارك هذا يعكس اهتماماتك الجمالية الخاصة؟

أوستر: دون شك. إذا بدأ كاتب آخر نفس المشروع، فستكون النتائج مختلفة كلية. كانت حاسة الشم عندي هي التي توجهني. ذوقي الخاص وتأثراتي.

– إلى أي مدى تعتقد أن لهذا المشروع علاقة بعملك الشخصي ككاتب؟

أوستر: كثيرًا ما يقول الناس أن لديّ إحساسًا خاطئًا بالواقع. حيث أن الأمور التي أكتب عنها منافية للعقل والطبيعة وغير حقيقية. ودائمًا ما زعمت أنني كاتب واقعي: نظرًا لأن العالم، بالطبع، غريب إلى حد كبير عما يتصوره الناس عنه. ذلك أن ما يستجيبون إليه فعلاً ويتجاوبون معه هو الأساليب والتقاليد الأدبية التي نشأت وتوطدت منذ أواخر القرن التاسع عشر. إن الأشياء اليقينية غير مناسبة للرواية، ذلك ما أزعمه دائمًا. إلا أنني أتصور أن كل شيء يصلح للرواية. وإذا عزلنا أنفسنا عن التجارب، فلن نسرد الحقائق الفعلية عن العالم. على نطاق واسع، أردت اكتشاف ما إذا كان الآخرون قد مروا خلال حياتهم بخبرات غريبة وخارقة للطبيعة ولا يمكن التنبؤ بها بنفس القدر الذي مررت به أنا من خبرات في حياتي. لا أرى أنني كنت غير طبيعي. أنا سعيد لاكتشافي أن معظم الناس الذين كتبوا بدوا قادرين على إظهار رؤية عن حياتهم مشابهة جدًا لرؤيتي لحياتي.

– هل اكتشفت كتابًا جددًا؟

أوستر: إنه أمر مثير للتفكير. لقد انقسمت نوعية المادة المكتوبة إلى عدة فئات متباينة. هناك بعض القصص غير متقنة وبسيطة. كتبت بواسطة أناس لم يمسكوا قلمًا من قبل ليكتبوا قصة. كان لديهم شيئًا ملحًا وهامًا وشيقًا ليقولوه، وهم موجودون بالكتاب. وهناك آخرون هم الذين كانوا يكتبون سرًا لسنوات، ولم يطلعوا أحدًا على إنتاجهم، هؤلاء الذين ربما كان لديهم بالفعل في أدراجهم قصصًا مكتوبة. بعض هذه القصص مكتوبة بشكل جيد. ثم هناك أناس أصغر سنًا ساهموا بقصصهم، وأتصور أن بعضًا منهم قد يصبحون كتابًا ممتعين جدًا.

– هل تعتقد أنهم أثروا في عملك أو على إنجازاتك؟

أوستر: لا أعتقد هذا. ففي الوقت الذي كنت أعمل فيه في المشروع، كنت أعمل أيضًا في رواية شرعت فيها قبل بداية المشروع. لذلك لم يمارس عمل الآخرين تأثيرًا من أي نوع. لكن تجربة قراءة هذا الكم من العمل، وكونك في مركز شبكة ما من القص من جميع أنحاء الدولة، كان أمرًا منعشًا ومقويًا. تجربة فريدة وملهمة، قمت باختزانها فعلا، وكان ذلك شيئًا عظيمًا لي.

– ما هي الفوائد التي لم تكن متوقعة بالنسبة لك؟

أوستر: هذا الإحساس بالتواصل مع غرباء – وهذا هو السبب في أن الكتابة لن تمون أبدًا، على الرغم من كل التنبؤات الرهيبة التي قيلت عن مستقبل الأدب. إنها قاصرة ومحدودة في نظري. كما أن عالم الكتابة أرحب من الأدب. الكتابة عبارة عن قدر من الورق. مجموعة قطع من الورق مطبوع عليها كلمات. وتلك الكلمات دبجها قلم شخص ما لمخاطبة الآخرين. إنها المكان الوحيد في العالم، في تصوري، الذي باستطاعة شخصين غريبين كلية التقابل فيه على أعمق مستوى. إنها الشيء الوحيد الذي يؤكد إنسانيتنا المشتركة. هذه هي قوة الكتابة. إنك لا تشعر بها في السينما. كذلك، لا تشعر بها بنفس الكيفية عندما تتطلع إلى لوحة، على الرغم من كونها قريبة في التأثير، إلا أن الكلمة الفصيحة، والإفصاح عن الأفكار، المنقولة من شخص إلى آخر، يبقيان هما ميدان الأدب والكتابة.

– لماذا بقيت في بروكلين كل هذه السنوات؟

أوستر: أحب المكان هنا. إنه الجزء الأكثر راحة في المدينة للعيش فيه. الجيران اجتماعيين جدًا ومتسامحين. إنه بمثابة العيش في بلدة صغيرة. في الأسبوع الأول بعد الحادي عشر من سبتمبر كان الجيران متعاونين فعلاً بطريقة رائعة. فقدنا الكثير من رجال الإطفاء من محطتنا. اثنا عشر رجلاً قتلوا من بين ثلاثين. وفي الجمعة الأولى التي تلت الحدث كان هناك موكب للشموع في المنطقة، بدأ بمائة أو مائتين من الناس وتضاعف إلى حوالي ألفين أو ثلاثة آلاف. كان مؤثرًا جدًا. كنت أحمل شمعة وتساقط بعض من مصهور الشمع فوق حذائي، التصق بعض منه برباط حذائي ولا يزال هناك حتى الآن. في كل مرة أنظر فيها إلى حذائي أتذكر الحادي عشر من سبتمبر ورجال الإطفاء الذي ماتوا وكل ما مرَّ بنا.

– لم يبرز من بروكلين شعراء كثيرون، بالرغم من أن ويتمان هو بالتأكيد استثناء “ملحوظ”.

أوستر: في الواقع تحظى بروكلين بتاريخ أدبي عريق، ويجب ألا نغفله. والت ويتمان هو الأكثر أهمية. العديد من شعراء القرن العشرين العظماء، الموضوعيين، عاشوا في بروكلين، لويس زوكوفسكي، جورج أوبين، تشارلز ريزنيكوف. وربما واحدة من أكثر قصائد القرن العشرين عطمة، “الجسر”، التي كتبها هارت كرين، جرى نظمها في بروكلين. في الحقيقة هناك أماكن قليلة في أمريكا أعرق في الإنتاج الشعري إلى حد كبير من بروكلين.

– قرأت أنك استمتعت فعلاً بمجلة “ماد” (الغاضبين أو الحمقى) عندما صرت بالغًا. ما الذي انتزع إعجابك فيها؟

أوستر: أعتقد أنها الروح الاستشرافية التي كانت عليها المجلة، والسخرية من الأمور السخيفة في الثقافة الأمريكية التي بدأ المرء يدركها عندما كان في العاشرة أو الحادية عشر من عمره. وجدت فيها مفكرين يحظون بإعجابي.

– بعد المدرسة الثانوية سافرت عبر أوروبا وأنت تكتب رواية، هل كان بمقدورك كتابة نفس هذه الرواية في أمريكا؟

أوستر: حسنًا، لم أتمكن من الكتابة في أوروبا، لذا لم يكن بوسعي الكتابة في أمريكًا أيضًا ؛ لأنني لم أكن مستعدًا بعد.

س: لم يحظ والداك بتعليم جامعي، ألم تفكر أبدًا في عدم ذهابك إلى الجامعة؟

أوستر: نعم، لقد كنت منفعلاً لذلك بشكل ما. لكنه كان مجرد تمرد صبياني أكثر منه اتجاهًا فكريًا. كنت ألتهم الكتب وبالفعل فكرت في نفسي ككاتب ناشئ. لكنني سعيد لأنني مضيت في هذا الطريق.

– كنت بحارًا، يومًا ما، وأتساءل كيف حدث لك هذا؟

أوستر: هذا صحيح، عملت لمدة ستة أشهر تقريبًا على ناقلة بترول تابعة لشركة “إسو”. حصلت على العمل بعد أن غادرت الجامعة. لم أكن أعرف ما الذي أريد عمله في الحياة. لم أرغب في أن أصبح أكاديميًا، وهو ما كنت أدرس من أجله، لكنني لم أرغب في الدراسة بعد ذلك ثانية. وكانت فكرة قضاء حياتي في الجامعة فظيعة تمامًا. لم يكن لديّ حرفة حقيقية أو مهنة بعينها، لم أكن مؤهلاً، لم أدرس فعلاً للتخصص في أي شيء. كل ما أردته كان الكتابة – في ذلك الوقت كان كتابة الشعر والنثر معًا. أظن أن طموحي كان الحصول على المال بقدر ما أستطيع للاستمرار في العيش بطريقة مقبولة أو متواضعة. ولم أكن راغبًا في الكثير من المال. كنت في ذاك الوقت غير متزوج ولم يكن عندي أطفال.

في النهاية كان دور زوج أمي، الذي كنت شخصًا مقربًا جدًا إليه، وقد أهديت إليه روايتي “قصر القمر”، نورمان سكيف، وكان يكسب عيشه كمحام للعمال وكمفاوض. كان أحد عملائه اتحاد ملاحي “إسو”، اتحاد شركات. لذلك عرفت كل ما يتعلق بالسفن وكنت بصدد ترك المدرسة، فقلت له، “نورمان، هل بمقدورك الحصول لي على عمل على متن سفينة ما؟” إنه لمن الصعب جدًا الوصول إلى ذلك، لأنك ليس باستطاعتك الحصول على عمل على ظهر سفينة إلا إذا توفرت على أوراق ملاح. ولن يكون بوسعك الحصول على أوراق ملاح ما لم تتحصل على عمل على ظهر سفينة. كان يجب أن تكون هناك طريقة لاختراق هذه الحلقة. وكان نورمان الشخص الذي رتّب لي ذلك. ولهذا استطعت الإبحار. كان أمرًا غاية في الإمتاع. اجتزت كل الاختبارات، حصلت على أوراقي الثبوتية كملاح، ثم كان عليّ الانتظار حتى تأتي سفينة من الأسطول إلى منطقة نيويورك بالفرج. وكان من غير الواضح كم سيطول هذا الانتظار.

في تلك الفترة –  كان ذلك في 1970 –  التحقت بالعمل في مكتب الإحصاء الأمريكي. في “الغرفة الموصدة”، الجزء الثالث من ثلاثية نيويورك، هناك مشهد يتحدث فيه الراوي عن العمل في مكتب الإحصاء السكاني، وقد استقيت هذا مباشرة من الحياة. كما في الكتاب، انتهيت إلى اختراع الأشخاص. نوع من الغرابة وحب الاستطلاع. على أية حال، تزامن في هذا الوقت أن كانت لديّ مشكلة في ضرس العقل، وكان عليّ الذهاب إلى طبيب الأسنان لخلع ذلك الشيء. وبينما كنت جالسًا على الكرسي في عيادة طبيب الأسنان، وكان الطبيب ممسكًا بتلك الكلابة الكبيرة وعلى وشك انتزاع ضرسي، دق جرس الهاتف. كان زوج أمي، الذي قال، “حسنًا، السفينة هنا. ينبغي عليك الذهاب. عليك الذهاب وإثبات نفسك. يجب أن تكون على ظهر السفينة في غضون ساعتين”. لذلك أتذكر أنني قفزت من فوق كرسي طبيب الأسنان والمريلة على صدري قائلاً، “آسف، يجب عليّ أن أغادر المكان فورًا”. وتعاقدت مع هذه السفينة، “إليزابيث”، في نيوجرسي. وقمت فيما بعد بخلع هذا الضرس في تكساس، في “باي تاون”، بتكساس.

أبحرت السفينة حول خليج المكسيك، وكان هذا جديدًا كلية بالنسبة لي، فأنا لم أذهب إلى الجنوب أبدًا من قبل. لم أتواجد قط في تكساس. وقد تعلمت الكثير خلال تلك الأشهر. ثم – كان الدخل مرتفعًا جدًا إلى حد كبير – تمكنت من ادخار عدة آلاف من الدولارات، وعن طريق هذا المال تمكنت من الانتقال إلى باريس، حيث قضيت فيها السنوات الثلاث أو الأربع اللاحقة.

– قيل أن حياتك قد انقسمت إلى فترتين

غلاف الترجمة العربية لرواية ليلة التنبؤ

، قبل وبعد 1979. ما الذي حدث في تلك السنة؟

أوستر: لمدة عام أو عامين، لم أكتب كثيرًا على الإطلاق. حتى ذلك الحين كان معظم ما قمت به من عمل عبارة عن أشعار وترجمة. بحلول عام 78 شعرت أنني أمضي بعملي إلى حائط مسدود، وجاءت لحظة توقفت فيها كلية بشكل تام. اعتقدت أنني لن أكتب بعد ذلك. في بداية 79 انتابتني فورة من النشاط وبدأت الكتابة ثانية. كانت القطعة الأولى التي كتبتها عبارة عن نثر ولم تكن شعرًا. كان الموقف عجيبًا، ففي الليلة التي أنهيت فيها قطعة النثر هذه، وهي حوالي عشر أو خمس عشرة صفحة، مات والدي. اكتشفت هذا في الصباح التالي. بدأت في غضون أسابيع تدوين كتابات عنه، وأدى هذا الكتاب إلى كل أعمالي التي تلته في تلك الفترة.

– ما الذي مثله لك كشف التفاصيل الخاصة والمحرجة المتعلقة بحياة أبيك؟

أوستر: لم أكن أفكر فيها بهذه الكيفية، كنت أحاول قول الحقيقة. هذا هو الشيء الوحيد الذي كان مهمًا.

– كان هذا الانتقال تحولاً أساسيًا بالنسبة لك. ماذا عن تجربتك في باريس؟ يبدو أنك تعلمت هناك تقريبًا معنى أن تكون كاتبًا.

أوستر: حسنًا، بالتأكيد كانت فترة جوهرية بالنسبة لي. كنت أمارس الكتابة قبل تلك الفترة، أردت بشدة أن أفعل هذا في حياتي، كنت قد قررت بالفعل. لكن تلك السنوات التي فيها كنت طالبًا، كانت فترة مجنونة في أمريكا. نحن نتحدث عن أواخر ستينيات القرن الماضي وعن جامعة كولومبيا، حيث كنت أدرس. وكانت بصفة خاصة مرتعًا للنشاط، وكنت منجرفًا في الكثير منه، وكنت مجبرًا على الكثير منه وقد استغرقني، ووجدت أنه لا سبيل إلى مقاومته. أعقب ذلك أنني لم أهتم بالكتابة فعلاً كما كنت آمل. أظن أنني أردت ترك أمريكا لفترة من الوقت. لم أرغب في أن أكون مغتربًا، وبالتحديد لم أرغب في ذهاب بلا عودة، كنت بحاجة إلى مكان للتنفس.

لقد قمت بالفعل بترجمة أشعار فرنسية. كنت ذات مرة من قبل في باريس وأحببتها كثيرًا، ولذلك فقط ذهبت إليها ثانية. الحقيقة أنه بمرور الوقت أتضح لي أن هذا بالضبط هو ما أردت لحياتي أن تكون عليه، لم يكن هناك خط رجعة.

– اقتحمت هذا الطريق ربما بطريقة يكتنفها الكثير من الغرابة. عبر الشعر الفرنسي، وترجمة الأعمال السريالية. لذا كانت فترة السبعينيات فترة من هذه العينة بالنسبة لك. ثم في سنوات الثمانينيات حققت ذاتك كروائي. ومن خلال تلك الفترة أو المرحلة انطلقت في هذا العقد.

أوستر: المضحك، أنني كشاب صغير حاولت كتابة النثر، وكتبت الكثير منه، لكنني لم أرض أبدًا عن النتائج. اثنتان من الروايات التي أنجزتها، واللتين أنهيتهما ونشرتهما لاحقًا، كنت قد بدأت فيهما مبكرًا جدًا. في أوائل العشرينات من عمري. “في بلاد الأشياء البعيدة” و”قصر القمر”. لقد عملت عليهما كثيرًا، إلا أنني لم أقطف من ثمارهما سوى القليل. تناسيتهما، وفي لحظة بعينها أصدرت حكمي بأنني ليس باستطاعتي كتابة النثر، وأنني سألتزم فقط بكتابة الشعر. كنت مهتمًا بنوعية الشعر الفرنسي كنشاط إضافي إلى جانب عملي الخاص. كنت أترجم الشعراء الفرنسيين المعاصرين. هذا النوع من الانكباب على الترجمة كان طريقة لكسب المال، ولدفع نفقات الطعام وتوفير الخبز على المائدة. كان هذا العمل مضنيًا وكريهًا، لم أكن أحبه فعلاً.

أنهيت الكثير من الكتب المتوسطة المستوى. كتب كتبت على نحو سيئ حول موضوعات لم تستهوني. ولم يكن ليّ اهتمام بها، فقط ترجمتها للحصول في المقابل على الأجر الذي كان منخفضًا بصورة مزرية. في لحظات بعينها أدركت أنني كنت سأنجح بشكل أفضل في مكان ما كطباخ للطلبات السريعة. اعني أن الأمر كان سيئًا.

كتبت في منتصف السبعينيات بعض المسرحيات، أيضًا، لكن هذا لم يستمر حتى أواخر السبعينيات، عندما انزلقت إلى أزمة حقيقية على كافة المستويات، شخصيًا، وفنيًا، وكنت محطمًا تمامًا، وبت خاليًا من المال والأمل، على ما أطن، وتوقفت كلية عن الكتابة لفترة من الوقت.

في الواقع الشيء الوحيد الذي فعلته في تلك الفترة كان كتابة رواية تحريات تحت اسم مستعار، في حوالي ستة أسابيع، فقط للحصول على المال، كنت مفلسًا تمامًا، حتى أنها في الحقيقة كانت الرواية الأولى التي كتبتها. استمرت تلك الفترة حوالي سنة ونصف وبالتأكيد لم أنجز شيئًا. عندما بدأت الكتابة ثانية أواخر 78، كان كل ما كتبته عبارة عن نثر، والحقيقة أنني لم أكتب قصيدة منذ ذلك الوقت. توقفت تمامًا، وبدأت من جديد دون شك، وكلتا الفترتين من حياتي ككاتب مختلفتان تمامًا.

– قرأت أنك و”وين وانج” (من تعاونت معه في فيلم “دخان”) لن تقوما معًا بأية أعمال مشتركة مرة ثانية.

أوستر: لم يمض الأمر كما تمنينا.

– لابد أن هذا كان محبطًا جدًا.

أوستر: كان نهاية حزينة لتعاون عظيم ورائع. ما حدث هو أنه أراد القيام بعمل فيلم جديد “مركز العالم”. وأراد إنجازه بميزانية ضئيلة جدًا بتقنية الفيديو الرقمي (الديجيتال). كان لديه كل التمويل اللازم لكنها كانت مجردة فكرة. ثم جاء إليّ أنا وزوجتي سري. كنت غير راغب في القيام به، لم يكن فكرة سأتناولها بمعرفتي الخاصة. لكن بدافع الصداقة أردت المساعدة. جلست أنا وسري وكتبنا السيناريو الذي أتصور أنه كان جيدًا تمامًا. في النهاية كنت غير مسرور بما فعلناه تحت ضغط، وفقًا للقيود التي فرضت علينا. لكن عندما تم التصوير، مضى “وين” في اتجاه مغاير. سار الفيلم في طرق مغايرة تمامًا لم ترق لي على الإطلاق. لذلك انتزعنا اسمينا من على السيناريو. لم يعد عملنا فعلا. إن الأمور دائمًا ما تحدث في السينما على هذا النحو.

– لماذا في تصورك لم يحظ “لولو فوق الجسر” بتوزيع سينمائي جيد في الولايات المتحدة؟

أوستر: نعم، لقد تم نشره وتوزيعه فقط على شرائط فيديو وأسطوانات دي.في.دي في الولايات المتحدة. لكن في البلدان الأخرى تم عرضه سينمائيًا. اُفضِّل ألا أتطرق إلى الموضوع بالتفصيل. لكن الأمر برمته عبارة عن تجارة. لقد كان عملاً تجاريًا ومبتذلاً، لكن لم يكن بوسعي شيء لأفعله.

– كيف بدا الأمر مع عضويتك في هيئة المحكمين في مهرجان “كان” السينمائي؟

أوستر: ممتع من نواح، ومُنهك من نواح أخرى. شاهدنا العديد من الأفلام. كنا نجتمع بشكل مستمر. بعض النقاشات صارت بصورة انفعالية إلى حد ما. بالتأكيد استمتعت بالتجربة. لكنني لا أعرف إن كنت سأرغب في تكرارها.

– ما الفرق بين عمل الأفلام وكتابة الراويات؟

أوستر: من الصعوبة بمكان التفكير في تشابه واحد. أعتقد أن الشيء الوحيد المشترك هو أنك تحكي قصة، لكن الوسائل التي تحكي بها القصة مختلفة جدًا لدرجة أنه لا يمكنك مقارنة التجربتين على الإطلاق. في إحداهما تجلس بمفردك في غرفة، وفي الأخرى تعمل مع خمسين شخصًا أو أكثر كل يوم.

كما ترى، الشيء الممتع فيما يتعلق بالكتب، في مقابل الأفلام، أن شخصًا واحدًا فقط يكون في مواجهة الكتاب، وليس جمهورًا، إنه تواجد شخص مقابل شخص. إنه أنا الكاتب وأنت القارئ، ونحن معًا فوق تلك الصفحة. وأتصور أنه ربما كان الكتاب أكثر مكان تغمره الخصوصية والحميمية، ويتقابل فيه الوعي البشري. لذلك لن تموت الكتب أبدًا. إنه لمن المستحيل. الكتاب يعني الفترة الوحيدة التي ندخل فيها إلى عقل غريب عنا، ونجد أن إنسانيتنا المشتركة هي التي تفعل هذا. لذلك فإن الكتاب لا يخص الكاتب فقط، إنه يخص القارئ أيضًا، وكلاهما معًا يجعلان منه ما هو عليه.

– في “ثلاثية نيويورك”، ما الذي جعلك تطرق الكتابة في هذا النوع من أدب التحريات؟

أوستر: إنها ليست روايات بوليسية على الإطلاق. إنها توحي بهذا النوع الأدبي، إلا أنها تسلك طرقًا مغايرة له تمامًا. أنا أحب قصص الألغاز. إنها روايات أساسية وجوهرية. حتى في “مدينة الزجاج”، كل جملة لها اعتبارها ومحسوبة. يجب أن تكون الكتب كلها بهذه الكيفية لكنها ليست كذلك للأسف.

– هل القصة هي الجوهر أو حجر البناء الأساسي في الأدب؟

أوستر: القصص أساسية للحياة البشرية. أعتقد أننا بحاجة للقصص بقدر حاجتنا للطعام والهواء والماء والنوم، لأن القصص هي الطريقة التي من خلالها ننظم ونرتب الواقع. الواقع عبارة عن نغمات متنافرة مدوية صاخبة. روافد من ملايين الانطباعات المتدفقة علينا في كل لحظة. فصل أو عزل منمنمات وشظايا ذلك الطوفان أو الغزو، والقدرة على إعادة صهرها وترتيبها معًا، ثم ربطها في دوران الزمن، هو ما تفعله القصص. نحن غير قادرين على التفكير في أنفسنا سواء في الحاضر أو في الماضي أو في المستقبل، وبدون القصص، لن نكون قادرين على العيش بمعنى الكلمة.

– يشعر “كورت فونيجت” أنه بمجرد إنهائه لكتاب، وإنهائه للعمل الذي بين يديه، فإنه يخرج إلى العالم، يأخذ دورة حياته الخاصة به. هل تتفق مع هذا الرأي؟

أوستر: حسنًا، أتفق مع هذا تمامًا. الكتاب هو كتابك، وأنت مسئول عن أدق تفصيلاته البسيطة الصغيرة في كل صفحة. كل فاصلة، كل مقطع هو عملك الخاص. ثم تدعه ينطلق، تعطيه إلى العالم وما سوف يفعله العالم بعملك هو أمر غير قابل للتنبؤ. واحدة من رواياتي، “مدينة الزجاج”، تم تحويلها إلى كتاب كوميدي هزلي مصور. المشروع برمته بدأه صديقي “آرت سبيجلمان” وأطلق عليه “ماوس”. وكنت أعرف أنه إذا كان آرت مشتركًا في هذا المشروع فإنه سيخرج على قدر عال من الجودة ولذلك سمحت بحدوثه. يخيّل إليّ أن النتائج كانت مهولة، بالمناسبة، انبهرت جدًا بما فعله فريق العمل الصغير لرسم هذا الكتاب وتحويله صورًا. قصة أخرى، “موسيقى الحظ”، لم يتم تحويلها فقط إلى فيلم بل إن شخصًا ما قام بتحويلها إلى باليه منذ سنتين.

ما هو أكثر إثارة وإمتاعًا لي عما سواه، وهذا هو أفضل شيء يمكن أن يحدث لكاتب، أن رواية أخرى من رواياتي، “في بلاد الأشياء البعيدة” – والتي شرعت في كتابتها كما قلت في 1970، ولم أتمكن من إنهائها حتى 1985، حيث عملت على هذا الكتاب لمدة 15 عامًا – منذ حوالي ثلاث سنوات تم إعطاء نسخة من الرواية إلى مخرج مسرجي من سراييفو عن طريق صحفي أمريكي أو بريطاني، قال للمخرج، “ينبغي عليك أن تقرأ هذا الكتاب”. وقد فعل المخرج هذا، تحت وطأة ظروف بشعة وقاسية، دون كهرباء، أو تدفئة، كان الشتاء قد حل أثناء الحصار، وبدأ القراءة ولم يتوقف حتى أنهى الرواية. قرأها دفعة واحدة أثناء الليل مستعينًا بشمعة. لقد شعر أن هذا الكتاب كان الترجمة الكاملة للوضع الذي كان يعيشه في تلك الفترة. كان نقلة خارقة. أصبح متأثرًا جدًا بالرواية لدرجة أنه قام هو وأفراد فرقته المسرحية بتحويل فقرات من الكتاب إلى مسرحية عُرضت في سراييفو. وقد ساعدت شركة “بيتر بروك” في باريس كراع للفرقة في خروجهم من سراييفو وقيامهم بجولة أوروبية. هذا مثال على كتاب كُتِبَ قبل عدة سنوات من حدوث هذه الوقائع العسكرية الفعلية، ومع ذلك، العمل الإبداعي الخاص بشخص ما، وهو ما ينطبق عليّ في هذه الحالة، اتصل بطريقة أو بأخرى بمن كان يعيش من أجله في تلك الفترة، بعد سنوات طويلة، وحدث لهذا الخيال شيء جديد. أقصد، أن الكتب تتغير باستمرار على الرغم من أن المفردات التي بداخلها كما هي. العالم يتغير، الناس تتغير. يعثر الناس على كتاب في اللحظة المناسبة ويكون إجابة عن شيء ما، تلبية لبعض الاحتياج أو الرغبة. أعني لماذا أرغب في إعاقة شيء كهذا؟ ستكون أحمق في تصوري لو اعتقدت أنك تعرف مسبقًا مصير عملك، أليس كذلك حسبما رأينا؟

– دعنا نصبح ميتافيزيقيين لبرهة. هل تشعر كمؤلف أنك تسمح لنفسك بالانفتاح على نوع من الدروب وتشعر أن فيه قصة بانتظارك هناك؟

أوستر: حسنًا، نعم، أتصور ذلك، أنت لا تعرف بالضبط ما يمكن أن يكون عليه العالم من تعقيد وغموض وإلغاز. لم يكن من قبيل المصادفة أن هذا المخرج قد شعر بنفس هذا الشعور، لأنني كنت بطريقة واعية جدًا قد قصدت كتابة كتاب عن القرن العشرين. في الحقيقة، كل ما كان في ذهني أثناء تأليف الكتاب هو عنوان فرعي، ليس لأنني كنت بصدد استخدامه لكنه كان نوعًا من تهيئة العمل. وكان العنوان الفرعي “آنا بلوم تستعرض القرن العشرين”، كانت هذه هي فكرة الكتاب. وها نحن في أواخر القرن العشرين وبدايات قرن جديد، وحتى الآن لا تزال الأحداث مرعبة تقع، وكأن هذه أول مرة تحدث فيها مثل هذه الأمور الفاجعة. تعتقد إن عاجلاً أو آجلاً أنه ينبغي عليها أن تنتهي، وهو ما لا يحدث، أشياء غريبة.

– عناوين كتبك، “في بلاد الأشياء البعيدة، مدينة الزجاج، موسيقا الحظ، دخان”… تبدو مُعبِّرة كجواهر أو مراكز أفكار أكثر منها مستمدة من تمعن وتدبر على المدى الطويل. هل هذا هو ما عليه الأمر؟

أوستر: حسنًا، إنها نقطة شيقة جدًا. أجد أنه من المستحيل بالنسبة لي الشروع في عمل دون أن يكون لديّ عنوان له في مخيلتي. يمكنني قضاء سنوات مفكرًا في العنوان الذي سيتماشى مع العمل الذي يتشكل في ذهني. العنوان تعريف بالعمل بطريقة ما، وإذا واصلت المحافظة على تداعي توابع العنوان في العمل فسيكون ذلك أفضل، أنا مقتنع بهذا. لذلك، نعم، أفكر في العناوين كثيرًا. أحيانًا أمضي قدمًا في اختلاق عناوين لأشياء ليس لها وجود ولن توجد أيضًا.

– عودة إلى العمل، الذي بمجرد الانتهاء منه يخرج من نطاق سيطرتك. أخذ المخرج “فيليب هاس”، روايتك “موسيقى الحظ”، وعمل بها، في تصوري، عملاً متألقًا، إلا أن العمل كان مختلفًا كلية عن الكتاب.

أوستر: إنه لمكن المضحك أنني كنت مهتمًا جدًا بالأفلام كشاب صغير، وثمة وقت اعتقدت فيه أن هذا هو ما أردت عمله، غير أني لم أقدم عليه، وتقريبًا صرفت النظر عن السينما، كغيرها من الأشياء التي انشغلت بها في فترات من قبل. بدأ الأمر تحديدًا بعد بداية كتابتي للروايات. حين بدأ الناس يطلبون مني باهتمام القيام بتحويل هذه الروايات إلى أفلام، وبدأ يعنُ لي التفكير ثانية في الأفلام. عندما نشرت موسيقى الحظ قالوا إنهم كانوا مهتمين بذلك. لم يكن لدى “فيليب هاس” مالاً ولم يقم من قبل أبدًا بإخراج أية أفلام إلا أنه على الأقل، وهو ما أحسسته، كان مستوعبًا الكتاب، وكان سيقوم بتطويعه بشكل لائق. ربما… كان من الأفضل عدم السماح لهذا أن يحدث. ربما كان هذا ممكنًا. لست على يقين من أي احتمال. أنا متردد فيما يتعلق بهذا الأمر، لكن خامرني الشعور أنه من بين كل الروايات التي قمت بكتابتها ستكون هذه بالذات هي الأكثر ملائمة لتصبح فيلمًا.

– عن هذه الفكرة المتعلقة بالاختلافات الجوهرية بين الفيلم والرواية، تقول “آني ديلارد” إن الرواية المكتوبة وفقًا لشروط السينما وبأمل التعاقد على فيلم يكون لها في العقل رائحة مثيرة للغثيان، بل ومدمرة أيضًا”. وهي بذلك تحذر الأدباء ألا يفكروا في تلك العلاقات إذا أرادوا كتابة رواية جادة. ما هو إحساسك فيما يتعلق بهذا؟

أوستر: لا أعتقد أن بوسعك أن تكون مرشدًا وموجهًا أو ناصحًا فيما يتعلق بأي شيء. أقصد، أن الحياة معقدة جدًا. قد تكون هناك روايات لم يفكر فيها كتابها على أساس سينمائي على الإطلاق، ولكن يمكن تحويلها إلى أفلام جيدة. وتقريبًا كل رواية جيدة تحولت إلى فيلم سينمائي أضحت مبعث إحباط. إنه لأمر نادر، بوسعي فقط التفكير في حالات قليلة يكون الفيلم فيها قريبًا بدرجة أو أخرى من الرواية. بالرغم من ذلك، أعتقد أننا جميعًا جوعى للقصص، والروائيون يروون أفضل القصص. وهذا ما يأسر صنّاع الأفلام. لا أعرف إن كان ينبغي على السيدة أن تقلق كثيرًا. أقصد أن بعضًا من أعظم كتابنا تم عمل أفلام من كتبهم، العديد من روايات هيمنجواي تم تحويلها إلى أفلام، ولم يضر ذلك بسمعة الأدباء. أقصد، إنها إذا كانت تتحدث فقط عن هذا النوع الجديد من الطريقة التجارية في كتابة الكتب، بغرض تحويل الكتب إلى أموال، فإنها على صواب في الحقيقة. هذه التحالفات والروابط بين شركات النشر الكبرى وشركات صناعة الأفلام، وهذا التعاون الإعلامي الضخم العابر للحواجز والحدود الذي انتاب الثقافة الآن، نعم، إنه لأمر مزعج ومقلق وأنا متفق معها. لكنني لا أريد لبعض هذه الروايات، من منطلق أنها تافهة، أن يتم تحويلها إلى أفلام مبتذلة رديئة. ولا أعتقد أن هذا هو ما كانت تتحدث عنه.

– واصلت “آني ديلارد” قائلة، إن الكتب يمكن أن تكون شيئًا ما، أدبًا، أما الفيلم فليس بوسعه أن يكون أدبًا، “شيء فقير ودقيق – لكنه ملك لنا”. ثم أيضًا، أشرت أنت إلى أن الأفلام كشيء زائف أو كمحاكاة تافهة، حيث أنك بعد ساعتين تنسى ما رأيته في الفيلم.

أوستر: يخيل إليّ انه في النهاية، تبقى الكتب الجيدة معك لفترة أطول بكثير من الأفلام الجيدة. ذلك لأن هناك علاقة بين عقل القارئ والكلمات، حيث ينبغي عليك الاجتهاد أثناء قراءة كتاب. عليك استخدام خيالك. القيام بنفسك بملء التفاصيل؛ فتقوم بشكل فعلي بتشغيل وإعمال كل تاريخك الشخصي، روحك بالكامل، ذكرياتك، فيما تقرؤه على الورق. في حين ينقضي الفيلم بسرعة شديدة قبل أن يتسنى لك الوقت للانغماس فيه بهذه الكيفية. ما أقوله قد يكون إلى حد ما دعابة. أقصد أنني لست ضد الأفلام، وأن بإمكانها أن تكون ممتعة ومسلية ومثيرة إلى حد كبير، إلا أنها ليست غذاء حقيقيًا بالكيفية نفسها التي عليها الكتب. هناك القليل جدًا من الأفلام التي تتغمدك بالعناية والرعاية وتغذي روحك، بينما الكتب توفر هذا في الغالب الأعم.

– “دخان”… “أوجي رين”. من هو هذا الرجل؟ لقد تولد الأمر كله بوحي من علبة السيجار الصفيح “شيميلبينينك” الخاصة بك.

أوستر: كتلك التي أحملها. ظهر أوجي رين بناء على طلب. قرر الرجل الذي كان مشرفًا على صفحة الآراء في النيويورك تايمز أنه بصدد جعلها أكثر تشويقًا وإمتاعًا، فاتحًا إياها على أنواع جديدة من الأشياء. وكانت لديه فكرة أن يكون بالصفحة عمل إبداعي أدبي، قصة عيد الميلاد في ليلة ميلاد المسيح. اتصل بي فجأة، على نحو غير متوقع. اعتقد أنني يمكن أن أرغب في كتابتها، لكن لم يكن لديّ أية أفكار على الإطلاق.

ذات يوم، عندما أزف الموعد فعلاً وكنت لا أملك وقتًا كافيًا، نظرت في مكتبي وكانت لديّ علبة سيجار صفيح “شيميلبينينك”، وبدأت التفكير في الرجل الذي كنت قد اشتريتها منه في بروكلين. بدأ هذا يستدعي ويُوَلِّدُ أفكارًا عن كيف أنك لديك، في مدينة كبيرة، علاقات بأناس على درجة عالية من الحميمية، لكن ليس بوسعك أن تطلق عليها صداقات، لأنك في النهاية لا تعرف شيئًا عن الشخص الآخر. هذه الفكرة فجّرت القصة.

الشيء المحزن فيما يتعلق بكل هذا هو أن الرجل الذي وهبني الفكرة، الرجل الذي اعتاد بيع هذا السيجار لي، أصيب منذ فترة ليست بالبعيدة بسرطان المخ وفقد السيطرة لفترة طويلة. وتقريبًا في الوقت الذي ظهر فيه الفيلم مات. كان في حوالي الخمسين أو الثانية والخمسين من عمره فقط، شيء كهذا. أتذكر أنني ذهبت إلى المحل عندما ظهر الفيلم وكان شركاؤه متأثرين جدًا للأمر برمته. ذهب شخص ما من صحيفة “الديلي نيوز” وتحدث إليهم في المحل. وقال شريك صديقي القديم، “أتعرف، الجميع يعتقدون أن هذا ليس عملاً ذا أهمية، أليس كذلك؟ أنك فقط تجلس هنا هكذا خلف الكاونتر. لكن الجميع يأتون إلى هنا وتسمع منهم أروع القصص!” وكأنني تخيلت أنه كان أوجي! مذهل تمامًا! لذا كتبت القصة. وين وانج، المخرج الذي يعيش هنا في سان فرانسيسكو، قرأها في التايمز، وبطريقة ما استهوته. أنت تعرف، في البداية لم يكن لديّ أي اهتمام بكتابة السيناريو لها. كنت سعيدًا لأنه أحب القصة. قلت له، “نعم، أتصور أنك بإمكانك تحويلها إلى شيء ما، ها هي، امض فيها، وليوفقك الله، سأراك لاحقًا”. لكنه أغواني تدريجيًا في المشروع. إنه رجل ماهر جدًا، لذلك انتهينا فعلاً من عمل الفيلم معًا، والفيلم التالي أيضًا.

أمكن لنا واين وأنا معرفة أحدنا الآخر بشكل جيد، لأننا اشتغلنا معًا لسنوات عديدة قبل أن نشرع في عمل “دخان”. أمكن لنا فعلاً معرفة أحدنا الآخر بشكل جيد، وتقاسمنا بعض المميزات التي ربما هي غريبة بعض الشيء؛ فمن ناحية كنا رجلين جادين جدًا وأردنا القيام بعمل فيلم “دخان” بشكل إنساني غاية في الجمال. لكنني أتصور أنه بالرغم من معرفة أحدنا للآخر بشكل جيد إلا أننا فهمنا أن لكلينا هذا الجانب الآخر. أنت تعرف ما أقصد. ذوق كوميدي وقح وسخيف فعلاً فيما يتعلق بالهراء. كنت معجبًا دائمًا إلى حد كبير بأسوأ أنواع الكوميديا الهزلية. وكذلك الفودفيل. أعتقد أن “زرقة في الوجه” نوع من الفودفيل الحديث الخاص بوقتنا المعاصر هذا. عمل موسيقي. فقط تقدم إلى هناك وأفعل ما تشاء. اجعله مضحكًا ومسليًا. أتصور أن قيمة الفيلم وقوته – وأنا أعرف أنه عبارة عن فوضى، لابد أنه كذلك، صورناه في ستة أيام –  تكمن في حيويته. إنه إحساس أنك ترى في الحقيقة هؤلاء الممثلين على الشاشة هناك سعداء لكونهم يحيون في طبيعتهم الخاصة.

– يقول جون إيرفنج أن روايته المفضلة هي “الجبل السحري” لتوماس مان، وربما قد قرأها عشرات المرات. هل هناك كتاب كهذا بالنسبة لك؟

أوستر: حسنًا، أتصور أن هناك العديد، وإذا تحتّم عليّ ذكر واحد فقط، كتاب واحد أواظب على العودة إليه ومواصلة التفكير فيه، “دون كيخوته”. هذا هو الكتاب، بالنسبة لي. يتراءى لي أنه يقدم كل وأي مشكلة يمكن لروائي أن يواجهها في أي وقت. كما يقدم الحلول بأسهل طريقة يمكن تخيلها من حيث الذكاء والإنسانية.

– فكرة أخيرة يقول “لوريد” في “زرقة في الوجه”، إنه كان يحاول الفرار من نيويورك لمدة 35 عامًا، لكن يبدو أنه لم يكن قادرًا على الرحيل. هل هذه هي رغبتك؟ أم أنك أصبحت ثريًا بشكل هائل، وتمتك منازل منتشرة في كل مكان؟

أوستر: لا.. أنا لا أمتلك منازل منتشرة هنا أو هناك، لكنني أمتلك بيتًا واحدًا، ذلك الذي أعيش فيه، بشكل دائم. داومت على الذهاب والإياب لسنوات سواء أردت البقاء في أو الرحيل عن نيويورك. أعتقد، كما يقول “لوو” في الفيلم، إن الجميع يمرون بهذا، باستمرار، باستمرار تحركنا العلاقة مع المكان، حبًا له أو كرهًا. لكنني أدركت في لحظة بعينها، منذ سنوات قليلة خلت، أنه كان عليّ البقاء. وأنه، على المدى البعيد، من الأفضل لي أن أكون هنا. لذا… فأنا باق. وربما فيما بعد، وربما في مكان ما تحت في الشارع مثلا، سأغيِّر موقفي. لكن في الوقت الراهن، وفي المستقبل القريب، لن أذهب إلى أي مكان.

 

* عن مجلة “ثري إيه إم” الأميركية.