محمد هاشم عبد السلام
تميّزت الأفلام بسمات فنيّة جليّة فعلًا، من بينها، حسن اختيار أطقم التمثيل، والخبرة الملموسة في إسناد الأدوار، ناهيك باختيار واكتشاف وتقديم مواهب سينمائيّة جديدة أو إبراز المكرّس منهم، وتوظيفهم في أدوار مناسبة جدًا. أيضًا، ثمّة الكثير من التجريب، وأحيانًا التغريب، سواء على مستوى الشكل أو المضمون أو طريقة المعالجة. خاصة فيما يتعلق بتوظيف المجاز والاستعارة، ومفارقة الواقع، والخيالات والأحلام، وبالأخص عوالم الفانتازيا. بصفة عامة، تعتبر الفانتازيا من السمات المميّزة واللافتة للكثير من الأفلام التونسيّة، فهي من بين الأدوات الفنيّة الموظّفة دائمًا لتناول الواقع الراهن أو القضايا الآنيّة، الملحّة والمستعصية والضاغطة على أفراد ومجتمع وبلد، وللنبش في جذور المشكلات الضاربة بعمق في الماضي القريب أو الحاضر المعاش.
أمّا السمة الأبرز بين الأفلام المتناولة هنا، فهي مساحة الحريّة اللافتة التي تحظى بها. إذ، رغم تباين قوّة الطرح والمعالجة فيما يخصّ الموضوعات أو الحبكة وخيوطها، إلّا أنّ الأفلام، إجمالًا، تضرب بعمق وقوّة وجرأة في صميم القضايا السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وحتى الدينيّة. ولا تتقاعس عن نبش الماضي، وتسليط الضوء عليه وطرح مشاكله للمناقشة والفحص. ناهيك بالتدليل على مدى بشاعة وفساد وقسوة الحاضر، والإشارة إلى كوارثه دون مواربة، وبتحدٍّ وجرأة. ما يعطينا صورة عامة، قد تكون صحيحة ومؤكّدة، عمّا يتمتّع به السينمائيّ التونسيّ من مساحة حريّة وانتقاد وإدانة، بدون أيّ خوف من مُصادرة أو منع أو رقابة، أو غيرها، مقارنة بضيق أفق ملحوظ ومُصادرة في سينمات عربيّة أخرى.
ما سبق هو مجرّد رصد لبعض القواسم المشتركة التي وسمت 4 أفلام روائيّة تحديدًا، هي: “ماء العين” لمريم جعبر، و”أجورا” لعلاء الدين سليم، و”عائشة” لمهدي برصاوي، و”الذراري الحمر” للطفي عاشور.
“ماء العين”
كانت أولى المشاركات التونسيّة في المهرجانات الدوليّة للشابة مريم جعبر (32 عامًا) التي قدّمت أوّل روائيّ طويل لها في “المسابقة الرئيسيّة” لـ”مهرجان برلين السينمائيّ (برليناله)“، في دورته الـ74 (15 – 25 فبراير/ شباط 2024)، ثمّ المشاركة في “مهرجان كارلوفي فاري السينمائيّ”، في دورته الأخيرة الـ58 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2024)، ضمن فعاليات قسم “آفاق”.
الفيلم هو اقتباس لآخر قصير للمخرجة بعنوان “إخوة”، أنجزته عام (2018)، ولفت الانتباه بشدّة. وإن كانت المخرجة في جديدها قد بدّلت زاوية النظر. إذ في الفيلم القصير كان المطروح من وجهة نظر الأب بالأساس أو الرجل، بينما في “ماء العين” فوجهة النظر من خلال الأمّ أو المرأة. في خطوطه العريضة، أيضًا، تعود المخرجة إلى ما سبق تناوله أكثر من مرّة، وبطرق مختلفة، في السينما التونسيّة، حول التحاق وتجنيد الشباب بتنظيم داعش الإرهابيّ، والسفر المباغت إلى سورية، وغيرها من كوارث تسبّب بها هذا الموضوع على مختلف المستويات، خاصة داخل العائلات البسيطة.
في “ماء العين”، ورغم تجذّر الموضوع في صميم الواقع، إلّا أنّ المخرجة ارتأت معالجته اعتمادًا على الفانتازيا، المقدّمة بجماليات بصريّة تغلب عليها الاستعارة المضمّنة أحيانًا في نسيج من الحلم والرؤى وتذكّر الماضي. طموح أفضى في النهاية إلى عمل دراميّ غير مشوّق. وإن كان به الكثير من المشاهد الجميلة والمبدعة بصريًا. لكنّ تضارب الواقعيّ والفانتازيا وعدم انصهارهما معًا، أو الفجوة التي لم يتمّ تجسيرها بين الواقع والخيال، والصدق والإقناع، والبنية الدراميّة وسرد القصة، وقبل كلّ شيء الإيقاع غير المحكم، أفضى، إلى جانب أمور أخرى، إلى افتقار العمل للإثارة والتشويق والإقناع، وأحيانًا السلاسة المطلوبة في متابعة السرد. ناهيك ببعض الإطالة في مشاهد بعينها، وأيضًا بعض الملل الممتدّ للقطات كاملة غير ذات جدوى. أو ربّما تكون جميلة في حدّ ذاتها تكوينيًا وبصريًا، لكن ضمن السياق الدراميّ لم تضف الكثير، ولم تطوّر الدراما، وبقيت بمثابة نشاز.
تدور الأحداث حول “عائشة” (صالحة النصراوي)، المزارعة الريفيّة البسيطة في الشمال التونسيّ، وزوجها إبراهيم (محمد قريع) وثلاثة أبناء. تنقلب حياتهم تمامًا بعد اختفاء الابنين الكبيرين، واكتشاف أنّهما التحقا بتنظيم “داعش”. بغتة، وبعد أشهر، يعود مهدي بعد وفاة شقيقه مع زوجته الحامل المنقّبة، وكانت من بين ضحاياه الممعن في التعذيب والتنكيل بهنّ. عودة تثير أحداثًا غريبة في القرية، لدرجة تأجيج مخاوف متزايدة في المجتمع، ممّا يستوجب التدخّل وبقوّة، وبدون توريط للعواطف.
“أجورا”
فاز فيلم “أجورا”، الروائيّ الطويل الثالث للمخرج المبدع علاء الدين سليم، بجائزة “باردو فيردي”، الممنوحة للأفلام التي تعالج القضايا البيئيّة، بالتعاون مع الصندوق العالميّ للحياة البريّة، و(20 ألف فرنك سويسريّ)، وذلك ضمن فعاليات الدورة الـ77، لـ“مهرجان لوكارنو السينمائيّ الدوليّ” التي أقيمت في الفترة من (7 – 17 أغسطس/ آب، 2024).
فنيًا، وبعيدًا عن الجائزة المتخصّصة جدًا، يبتعد علاء الدين سليم (42 عامًا) كثيرًا عن عوالم الغموض الفنيّ، والعمق الفلسفيّ، والطرح الإنسانيّ والوجوديّ العامّ، وندرة الحوار، وغيرها من السمات البارزة جدًا المُشَكِّلَة لعوالمه الخاصة والفريدة، والمتجلّية في فيلميه الطويلين السابقين، “آخر واحد فينا” (2016) و”طلامس” (2019). إذ يبدو أنّ علاء آثر الاقتراب كثيرًا في “أجورا” من الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ، الراهن والضاغط، بشكل يمعن في الرمزيّة والمباشرة، وأحيانًا السطحيّة، مضحّيًا كثيرًا بالفنيّ الخالص، وحتى الرؤية الفكريّة والفلسفيّة والجماليّة السابقة، المفتوحة عنده على تساؤلات مُلغِزة، ومساحات ضبابيّة لا حصر لها، وأصالة فنيّة يندر توفّرها. وفوق هذا، التضحية بالكثير من التشويق والغموض والإثارة.
وهذا، رغم أنّ بعض الجماليات والفنيّات السابقة أحيانًا ما تحضر، وبقوّة لافتة بعض الشيء، في لقطات بعينها في “أجورا”، لكنّها ليست بنفس الكيفيّة والمعنى والفنيّة والجودة السابقة. إذ لا يزال بالإمكان رؤية الكادر الفارغ دائمًا، الخالي تقريبًا من البشر، والتقشّف في بنيته وتكوينه. كذلك، فيما يتعلّق بالمكان والملابس والإضاءة، وندرة الكلام وإيجازه، واللقطات الواسعة المستعرضة لفراغ ووحشة الأفق. كما تحضر اللقطات المقرّبة جدًا للوجه، مع التركيز التامّ على العيون. واستخدام اللغة العربيّة المكتوبة، عوضًا عن الكلام أحيانًا. وإن كان استخدام اللغة العربيّة المكتوبة هنا أكثر، وربّما بإفراط بعض الشيء. فوق هذا، في “أجورا”، ثمّة الكثير من الإفراط في حشر لقطات طويلة أو ممتدّة زمنيّة، على نحو شاذّ وغير مجدٍ، داخل النسيج الكلّيّ. ناهيك ببطء السرد وتعثّره وعدم تطوّره، أو انكشافه وإمكانيّة التنبّؤ به وتخمين مراميه في أوقات كثيرة في الفيلم.
إجمالًا، وفيما يتعلّق بالخطوط العريضة المكوّنة لعالم المخرج، والممكن رصدها في فيلمه الجديد المتأمّل في طبيعة عوالم البشر وتصرّفاتهم وردود أفعالهم وقسوتهم وإفسادهم في الأرض، تحضر فكرة السفر أو مُبارحة المكان، ومُفارقته صوب أو باتّجاه مكان أفضل، سواء عبر البحر بركوب سفينة (“طلامس” و”آخر واحد فينا”) أو التوجّه لأرض أخرى، وذلك بهدف الحفاظ على الذريّة الجديدة أو النسل القادم. مثلًا، الرضيع الذي تلده المرأة في “طلامس”، والجراء الحديثة الولادة في “أجورا”.
في فيلمه السياسيّ بامتياز، والمستلهم للكثير من التراث العربيّ والدينيّ، بشكل لافت ومباشر لدرجة فاضحة أحيانًا، يترجم علاء الدين سليم رؤى كابوسيّة لحيوانين نائمين، كلبة زرقاء اللون وغراب أسود، وإشاراتهما إلى الخوف المطبق من كارثة وشيكة، وممّا سيرتكبه البشر من حماقات تدمّر كلّ شيء. بالتوازي، أو بالانتقال لعالم الواقع، نجدنا إزاء قصّة تحرٍّ أو تحقيق غامضة، متعدّدة الطبقات، تشير إلى قرية تونسيّة فاسدة أخلاقيًا وبيئيًا، تعود إليها ثلاث جثث بعد وفاتها. تحيل عودة الجثث إلى حالات وفاة مختلفة، تستدعي قضايا شائكة وراهنة في المجتمع المعاصر، وأيضًا عجزه عن حلّ قضايا وإرث الماضي وتركته الثقيلة. الشخصيّات، على حدة، أحدها ضحيّة للتطرّف، والأخرى للهجرة غير الشرعيّة، والثالثة لظلم الرأسماليّة وإهمال الدولة. في حين أنّ الدولة الممثّلة في الضابط “عمر” (مجد مستورة)، رمز السلطة العليا لإنفاذ القانون راغبة، في النهاية، في غضّ البصر عمّا يحدث، والتستّر على كلّ شيء متعلّق بهذا الكابوس.
“عائشة”