محمد هاشم عبد السلام

بعد غياب لافت للسينما التونسيّة عن المهرجانات الدوليّة العام الماضي 2023، باستثناء مشاركة الوثائقيّ “بنات ألفة” لكوثر بن هنية والروائيّ الطويل “وراء الجبال” لمحمد بن عطية، في مهرجانَي “كانّ” و”فينيسيا”، على التوالي، عادت الأفلام التونسيّة للمشاركة في المهرجانات الدوليّة هذا العام 2024 بشكل لافت للغاية، إذ تجاوز عددها ثلاثة أفلام روائيّة طويلة، عُرضت في مهرجانات كبرى ونافست على جوائز مهمّة. لكنّ الأهمّ من الجوائز، أنّها شكّلت عودة مؤثّرة ومطلوبة لسينما غاية في التميّز، لطالما أثارت الدهشة بمواهبها الصاعدة والمعالجات الجديدة والجرأة في تناول القضايا الشائكة ونبش المسكوت عنه، حتى وإن تفاوتت مستويات الأفلام ومعالجاتها وفنيّاتها. وهذا ما نلاحظه بأفلام هذا العام.
تميّزت الأفلام بسمات فنيّة جليّة فعلًا، من بينها، حسن اختيار أطقم التمثيل، والخبرة الملموسة في إسناد الأدوار، ناهيك باختيار واكتشاف وتقديم مواهب سينمائيّة جديدة أو إبراز المكرّس منهم، وتوظيفهم في أدوار مناسبة جدًا. أيضًا، ثمّة الكثير من التجريب، وأحيانًا التغريب، سواء على مستوى الشكل أو المضمون أو طريقة المعالجة. خاصة فيما يتعلق بتوظيف المجاز والاستعارة، ومفارقة الواقع، والخيالات والأحلام، وبالأخص عوالم الفانتازيا. بصفة عامة، تعتبر الفانتازيا من السمات المميّزة واللافتة للكثير من الأفلام التونسيّة، فهي من بين الأدوات الفنيّة الموظّفة دائمًا لتناول الواقع الراهن أو القضايا الآنيّة، الملحّة والمستعصية والضاغطة على أفراد ومجتمع وبلد، وللنبش في جذور المشكلات الضاربة بعمق في الماضي القريب أو الحاضر المعاش.
أمّا السمة الأبرز بين الأفلام المتناولة هنا، فهي مساحة الحريّة اللافتة التي تحظى بها. إذ، رغم تباين قوّة الطرح والمعالجة فيما يخصّ الموضوعات أو الحبكة وخيوطها، إلّا أنّ الأفلام، إجمالًا، تضرب بعمق وقوّة وجرأة في صميم القضايا السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وحتى الدينيّة. ولا تتقاعس عن نبش الماضي، وتسليط الضوء عليه وطرح مشاكله للمناقشة والفحص. ناهيك بالتدليل على مدى بشاعة وفساد وقسوة الحاضر، والإشارة إلى كوارثه دون مواربة، وبتحدٍّ وجرأة. ما يعطينا صورة عامة، قد تكون صحيحة ومؤكّدة، عمّا يتمتّع به السينمائيّ التونسيّ من مساحة حريّة وانتقاد وإدانة، بدون أيّ خوف من مُصادرة أو منع أو رقابة، أو غيرها، مقارنة بضيق أفق ملحوظ ومُصادرة في سينمات عربيّة أخرى.
ما سبق هو مجرّد رصد لبعض القواسم المشتركة التي وسمت 4 أفلام روائيّة تحديدًا، هي: “ماء العين” لمريم جعبر، و”أجورا” لعلاء الدين سليم، و”عائشة” لمهدي برصاوي، و”الذراري الحمر” للطفي عاشور.

“ماء العين”
كانت أولى المشاركات التونسيّة في المهرجانات الدوليّة للشابة مريم جعبر (32 عامًا) التي قدّمت أوّل روائيّ طويل لها في “المسابقة الرئيسيّة” لـ”مهرجان برلين السينمائيّ (برليناله)“، في دورته الـ74 (15 – 25 فبراير/ شباط 2024)، ثمّ المشاركة في “مهرجان كارلوفي فاري السينمائيّ”، في دورته الأخيرة الـ58 (28 يونيو/ حزيران ـ 6 يوليو/ تموز 2024)، ضمن فعاليات قسم “آفاق”.

لقطة من فيلم “ماء العين” للمخرجة مريم جعبر

الفيلم هو اقتباس لآخر قصير للمخرجة بعنوان “إخوة”، أنجزته عام (2018)، ولفت الانتباه بشدّة. وإن كانت المخرجة في جديدها قد بدّلت زاوية النظر. إذ في الفيلم القصير كان المطروح من وجهة نظر الأب بالأساس أو الرجل، بينما في “ماء العين” فوجهة النظر من خلال الأمّ أو المرأة. في خطوطه العريضة، أيضًا، تعود المخرجة إلى ما سبق تناوله أكثر من مرّة، وبطرق مختلفة، في السينما التونسيّة، حول التحاق وتجنيد الشباب بتنظيم داعش الإرهابيّ، والسفر المباغت إلى سورية، وغيرها من كوارث تسبّب بها هذا الموضوع على مختلف المستويات، خاصة داخل العائلات البسيطة.
في “ماء العين”، ورغم تجذّر الموضوع في صميم الواقع، إلّا أنّ المخرجة ارتأت معالجته اعتمادًا على الفانتازيا، المقدّمة بجماليات بصريّة تغلب عليها الاستعارة المضمّنة أحيانًا في نسيج من الحلم والرؤى وتذكّر الماضي. طموح أفضى في النهاية إلى عمل دراميّ غير مشوّق. وإن كان به الكثير من المشاهد الجميلة والمبدعة بصريًا. لكنّ تضارب الواقعيّ والفانتازيا وعدم انصهارهما معًا، أو الفجوة التي لم يتمّ تجسيرها بين الواقع والخيال، والصدق والإقناع، والبنية الدراميّة وسرد القصة، وقبل كلّ شيء الإيقاع غير المحكم، أفضى، إلى جانب أمور أخرى، إلى افتقار العمل للإثارة والتشويق والإقناع، وأحيانًا السلاسة المطلوبة في متابعة السرد. ناهيك ببعض الإطالة في مشاهد بعينها، وأيضًا بعض الملل الممتدّ للقطات كاملة غير ذات جدوى. أو ربّما تكون جميلة في حدّ ذاتها تكوينيًا وبصريًا، لكن ضمن السياق الدراميّ لم تضف الكثير، ولم تطوّر الدراما، وبقيت بمثابة نشاز.
تدور الأحداث حول “عائشة” (صالحة النصراوي)، المزارعة الريفيّة البسيطة في الشمال التونسيّ، وزوجها إبراهيم (محمد قريع) وثلاثة أبناء. تنقلب حياتهم تمامًا بعد اختفاء الابنين الكبيرين، واكتشاف أنّهما التحقا بتنظيم “داعش”. بغتة، وبعد أشهر، يعود مهدي بعد وفاة شقيقه مع زوجته الحامل المنقّبة، وكانت من بين ضحاياه الممعن في التعذيب والتنكيل بهنّ. عودة تثير أحداثًا غريبة في القرية، لدرجة تأجيج مخاوف متزايدة في المجتمع، ممّا يستوجب التدخّل وبقوّة، وبدون توريط للعواطف.

“أجورا”
فاز فيلم “أجورا”، الروائيّ الطويل الثالث للمخرج المبدع علاء الدين سليم، بجائزة “باردو فيردي”، الممنوحة للأفلام التي تعالج القضايا البيئيّة، بالتعاون مع الصندوق العالميّ للحياة البريّة، و(20 ألف فرنك سويسريّ)، وذلك ضمن فعاليات الدورة الـ77، لـ“مهرجان لوكارنو السينمائيّ الدوليّ” التي أقيمت في الفترة من (7 – 17 أغسطس/ آب، 2024).
فنيًا، وبعيدًا عن الجائزة المتخصّصة جدًا، يبتعد علاء الدين سليم (42 عامًا) كثيرًا عن عوالم الغموض الفنيّ، والعمق الفلسفيّ، والطرح الإنسانيّ والوجوديّ العامّ، وندرة الحوار، وغيرها من السمات البارزة جدًا المُشَكِّلَة لعوالمه الخاصة والفريدة، والمتجلّية في فيلميه الطويلين السابقين، “آخر واحد فينا” (2016) و”طلامس” (2019). إذ يبدو أنّ علاء آثر الاقتراب كثيرًا في “أجورا” من الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والدينيّ، الراهن والضاغط، بشكل يمعن في الرمزيّة والمباشرة، وأحيانًا السطحيّة، مضحّيًا كثيرًا بالفنيّ الخالص، وحتى الرؤية الفكريّة والفلسفيّة والجماليّة السابقة، المفتوحة عنده على تساؤلات مُلغِزة، ومساحات ضبابيّة لا حصر لها، وأصالة فنيّة يندر توفّرها. وفوق هذا، التضحية بالكثير من التشويق والغموض والإثارة.

لقطة من فيلم “أجورا” للمخرج علاء الدين سليم

وهذا، رغم أنّ بعض الجماليات والفنيّات السابقة أحيانًا ما تحضر، وبقوّة لافتة بعض الشيء، في لقطات بعينها في “أجورا”، لكنّها ليست بنفس الكيفيّة والمعنى والفنيّة والجودة السابقة. إذ لا يزال بالإمكان رؤية الكادر الفارغ دائمًا، الخالي تقريبًا من البشر، والتقشّف في بنيته وتكوينه. كذلك، فيما يتعلّق بالمكان والملابس والإضاءة، وندرة الكلام وإيجازه، واللقطات الواسعة المستعرضة لفراغ ووحشة الأفق. كما تحضر اللقطات المقرّبة جدًا للوجه، مع التركيز التامّ على العيون. واستخدام اللغة العربيّة المكتوبة، عوضًا عن الكلام أحيانًا. وإن كان استخدام اللغة العربيّة المكتوبة هنا أكثر، وربّما بإفراط بعض الشيء. فوق هذا، في “أجورا”، ثمّة الكثير من الإفراط في حشر لقطات طويلة أو ممتدّة زمنيّة، على نحو شاذّ وغير مجدٍ، داخل النسيج الكلّيّ. ناهيك ببطء السرد وتعثّره وعدم تطوّره، أو انكشافه وإمكانيّة التنبّؤ به وتخمين مراميه في أوقات كثيرة في الفيلم.
إجمالًا، وفيما يتعلّق بالخطوط العريضة المكوّنة لعالم المخرج، والممكن رصدها في فيلمه الجديد المتأمّل في طبيعة عوالم البشر وتصرّفاتهم وردود أفعالهم وقسوتهم وإفسادهم في الأرض، تحضر فكرة السفر أو مُبارحة المكان، ومُفارقته صوب أو باتّجاه مكان أفضل، سواء عبر البحر بركوب سفينة (“طلامس” و”آخر واحد فينا”) أو التوجّه لأرض أخرى، وذلك بهدف الحفاظ على الذريّة الجديدة أو النسل القادم. مثلًا، الرضيع الذي تلده المرأة في “طلامس”، والجراء الحديثة الولادة في “أجورا”.
في فيلمه السياسيّ بامتياز، والمستلهم للكثير من التراث العربيّ والدينيّ، بشكل لافت ومباشر لدرجة فاضحة أحيانًا، يترجم علاء الدين سليم رؤى كابوسيّة لحيوانين نائمين، كلبة زرقاء اللون وغراب أسود، وإشاراتهما إلى الخوف المطبق من كارثة وشيكة، وممّا سيرتكبه البشر من حماقات تدمّر كلّ شيء. بالتوازي، أو بالانتقال لعالم الواقع، نجدنا إزاء قصّة تحرٍّ أو تحقيق غامضة، متعدّدة الطبقات، تشير إلى قرية تونسيّة فاسدة أخلاقيًا وبيئيًا، تعود إليها ثلاث جثث بعد وفاتها. تحيل عودة الجثث إلى حالات وفاة مختلفة، تستدعي قضايا شائكة وراهنة في المجتمع المعاصر، وأيضًا عجزه عن حلّ قضايا وإرث الماضي وتركته الثقيلة. الشخصيّات، على حدة، أحدها ضحيّة للتطرّف، والأخرى للهجرة غير الشرعيّة، والثالثة لظلم الرأسماليّة وإهمال الدولة. في حين أنّ الدولة الممثّلة في الضابط “عمر” (مجد مستورة)، رمز السلطة العليا لإنفاذ القانون راغبة، في النهاية، في غضّ البصر عمّا يحدث، والتستّر على كلّ شيء متعلّق بهذا الكابوس.

“عائشة”

من الأفلام التونسيّة الجيّدة جدًا، من حيث اكتمال وتكامل الجوانب الفنيّة والفكريّة والجماليّة، فيلم “عائشة”. الروائيّ الطويل الثاني للمخرج مهدي برصاوي (40 عامًا)، الذي نافس في مسابقة قسم “آفاق” في الدورة الـ81 لـ”مهرجان فينيسيا السينمائيّ الدوليّ” (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2024). وكان قد شارك في نفس المسابقة بالمهرجان ذاته عام 2019 ونال بطل فيلمه “بيك نعيش” سامي بوعجيلة جائزة أحسن ممثّل.
رغم أنّ موضوع الفيلم يدور في إطار دراما اجتماعيّة وشخصيّة ونفسيّة، إجمالًا، لكنّه سياسيّ التوجّه في المقام الأوّل. من هنا، نلاحظ في “عائشة”، على العكس من الفيلمين السابقين، يتوارى الرمزيّ ويصير في الخلفيّة ليحضر الواقعيّ ويطغى الذاتيّ أو الشخصيّ. بمهارة وذكاء وفنيّة، وبدون الحاجة إلى الرموز والألغاز والاستعارات المستغلقة، يحيلنا برصاوي إلى الموضوعات نفسها تقريبًا. حيث فساد الأشخاص والذمم والبيئة والمجتمع، وعطب أسرة هي الوجه الآخر لبطريركيّة دولة فاسدة. أيضًا، مقارنة بالفيلمين السابقين، يتجلّى وبقوّة حسن اختيار وتوظيف وإسناد الأدوار للممثّلين. كذلك، القدرة على إدارتهم وإخراج أفضل أداء لديهم. إذ من اللافت للانتباه الأداء البارع والصادق، والقدرة على استيعاب وتجسيد الشخصيّة، لبطلة الفيلم الصاعدة الموهوبة فاطمة صفر في دور “آية”، وغيرها من طاقم الفيلم المتميّز.

ما يمنح “عائشة” تفوّقه الملحوظ هو قوّة نسج وحبك وصياغة السيناريو، وتماسك الحوار، ومنطقيّة الخيوط العامّة، والشخصيّات المقنعة ذات الأبعاد الصادقة والعميقة والواقعيّة، وقدرة المخرج، ككاتب للسيناريو والحوار أيضًا، على صهر وسبك هذه العناصر معًا، وخلق تفاعلات بينها، بحيث تمضي بالحبكة وأحداث الفيلم وتطوّره وتشويقه، بمنتهى التناغم والانسجام والإقناع والمصداقيّة. وهذا، رغم أنّ الفيلم ينتهج في تناوله وبنيته الخطيّة المعتادة السرد التقليديّ للحكاية والمعالجة والبناء، وعدم الارتكان كثيرًا للجماليّات والفنيّات البصريّة أو الانشغال بها. وربّما كان في هذه التقليديّة، والالتزام بها، مكمن تفرده.

لقطة من فيلم “عائشة” للمخرج مهدي برصاوي

بالابتعاد قليلًا عن الفنيّات، تؤكّد لنا حبكة “عائشة” أنّ الفيلم من بين الأكثر جرأة في نقده العلنيّ المباشر، وإدانته الصريحة، للمجتمع والسلطة والدولة، وإشاراته إلى أوجه العطب والفساد، بداية من الأفراد وليس انتهاءً بالقوانين والعادات، مرورًا بالسلطة التنفيذيّة بالطبع. وذلك من خلال أحداث تتناول قصّة شابّة بسيطة تعمل في فندق بمنطقة سياحيّة نائية. ذات يوم، تنجو بمعجزة من حادث سيّارة كاد يودي بحياتها، الأمر الذي يدفعها لترك حياتها القديمة، وهجر عائلتها وبلدتها، والشروع في رحلة تعيد معها كلّ شيء إلى نقطة الصفر، كي تبدأ من جديد، باسم وهويّة ووظيفة وكيان مختلفين. يلاحقها سوء الحظّ دون كلل، إلّا أنّها تتفاداه قدر الاستطاعة، وتحاول المضيّ قدمًا على درب غير مضمون. أيضًا، ببداية صفريّة، واسم وهويّة وكيان مختلفين، وكأنّها وسط دائرة جهنّميّة محكمة.
“الذراري الحمر”
أمّا الأكثر قوّة وتميّزًا وجذبًا للانتباه بين جميع الأفلام، فهو “الذراري الحمر” للطفي عاشور (47 عامًا)، المعروض في الدورة الـ77، لـ”مهرجان لوكارنو السينمائيّ الدوليّ” (7 – 17 أغسطس/ آب، 2024)، نظرًا لتوفّره على جماليّات فنيّة عديدة. رغم أنّ المخرج لم يشأ لفت الانتباه إلى صنعته بالمرّة. لكنّ سينماه الخالصة متجلّية في أغلب المشاهد المصوّرة حتى تلك الخالية إلّا من الصمت وسكون الصحراء الشاسعة الملتقطة بعدسات واسعة، مبرزة جماليّاتها وما تنطوي عليه من قبح وعنف ودم مسفوك. وهذا، رغم احتواء الفيلم على بعض المشاهد الخياليّة أو الحلميّة التي تجنح نحو الفانتازيا. لكنّها هنا غير نافرة، يمكن استيعابها والتفاعل معها، كونها ليست دخيلة ولا مقحمة على الواقع المرصود.

لقطة من فيلم “الذراري الحمراء” للمخرج لطفي عاشور

الجماليّات السينمائيّة الخالصة المضمّنة في جديد لطفي عاشور، القادم أساسًا من عوالم المسرح المتحقّق فيها عالميًا، وبرصيد سينمائيّ يتضمّن بضعة أفلام قصيرة وروائيّ طويل واحد فحسب، توزّعت بين براعة تصوير، وتفنّن في جماليّات لقطات، واستخدام كاميرات محمولة وثابتة، وفقًا للضرورات الفنيّة، لدرجة وصل الأمر لاستعراض مهارة التقاط ورصد جماليّات وقسوة الصحراء المترامية. أيضًا، في حسن اختيار مكان التصوير، والمنزل الوحيد وسط الفيافي والقفار. كذلك تمكّنه اللافت فعلًا من اختيار وإدارة ممثّلين مراهقين مجهولين تقريبًا، وانتزاع أفضل وأصدق أداء منهم. كما في توظيفه الرهيف والضروريّ لموسيقى وأغنية ختاميّة تغلّف إبداعًا صادمًا في موضوعه.

مهارة يدهشنا لطفي عاشور في “الذراري الحمر”. مردّ الدهشة ليس لاعتماد الحبكة على أحداث دمويّة مستوحاة من وقائع جرت في جبل “مغيلة” فحسب، ولا كونها مُستلهمة فقط من حياة رعاة غنم نُحِرَت رقابهم بلا رحمة، بل أيضًا من جماليّات كتابة وطرح ومعالجة لحوادث صادمة، وجرأة تقديمها بعين جديدة مغايرة وغير مستهلكة، تأخذ معاناة الأطفال في مناطق الصراع والإرهاب بعين الاعتبار. وتقدّم معزوفة مثيرة ومشوّقة متكاملة معًا، بدون نغمة نشاز واحدة، رغم كونها جدّ قاسية، ومؤلمة بشدّة، وباعثة للغاية على الحزن والمرارة. سيّما وأنّ الإرهاب الداعشيّ لا يزال، حتى وقت قريب جدًا، يطلّ من الجبال ليحصد رؤوس الأبرياء، وسط تقاعس وتخاذل وتراجع سلطة عن أداء دورها في حماية مواطنين بسطاء.