محمد هاشم عبد السلام

 

 

تقديم

 

منذ أن بدأت السينما في الاستعانة بالأدب، وبخاصة فن الرواية، وثمة علاقة جد شائكة بين فن الرواية وفن السينما أو بين العمل الروائي المقتبس منه، والفيلم الروائي المقتبس أو المستلهم كلية أو جزئيًا عن مصدر روائي. تلك العلاقة الغامضة وغير المفهومة بين هذين الوسيطين ظلت على هذا النحو لفترة ليست بالقصيرة، وذلك بعدما حيرت العديد من المبدعين على كلا الجانبين إضافة إلى النقاد وجميع المشتغلين أو المهتمين بالفن بصفة عامة، والرواية والسينما بصفة خاصة.

تمثلت تلك المعضلة الغامضة في إخفاق الغالبية العظمى من المخرجين، إن لم يكن جميعهم، سواء كانوا من كبار المخرجين أو ممن لا يعتد بأسمائهم، وسواء كانوا من المخضرمين أو المبتدئين، في تحويل الروايات الكبيرة الناجحة التي تصدوا لإخراجها، والتي تعتبر من العلامات والروائع الخالدة في تاريخ فن الرواية، إلى عمل سينمائي يفوق أو حتى يكاد يوازي العمل الأدبي المقتبس أو المستهلم منه الفيلم، وحتى في حالة تصدي كتابة الرواية أنفسهم، في بعض الأحيان بالطبع، لكتابة سيناريو الفيلم السينمائي.

قلة قليلة فحسب، تكاد تذكر على أصابع اليدين، التي نجت من فخ الروايات الكبرى ولعنتها التي تصيب المخرج الذي يتصدى لها، وقدمت أفلامًا يمكن القول إنها ناجحة وجيدة، لكن في النهاية، مثل هذه الأفلام لم تضف الكثير ولا ارتقت في قيمتها وثقلها إلى الرواية الأدبية المستهلمة أو المقتبس منها. ويكفينا أن نضرب مثالا واحدًا على هذا برائعة دوستويفسكي الخالدة “الجريمة والعقاب”، والتي يمكن للقارئ والمهتم، بمجهود جد بسيط أن يعرف كم مرة تم تحويلها إلى السينما، وكيف أخفقت جل الأعمال المأخوذة عنها في أن تبقى عالقة بأذهان المشاهد، رغم تصدي نفر من المخرجين الجيدين والكبار لها.

لا شك أن بعض الأسماء اللامعة في تاريخ السينما قد نجحت بالفعل في فك شيفرة تلك المعضلة الغامضة، وهؤلاء كانوا من المخلصين بالفعل للقراءة، ومن المتمرسين في فهم واستيعاب فن الرواية. ولذلك لم يكن من العسير عليهم عند التصدي لإخراج عمل مُتعمد على الرواية أن يبتعدوا بالأميال عن الروايات الخالدة في تاريخ الأدب أو على الأقل يقدمونها من خلال رؤية خاصة ومغايرة تكاد تبتعد جملة وتفصيلا عن العمل الأصلي أو تكتفي بنتف أو شذرات أو مواقف أو شخصيات منه فحسب، دون التورط في تقديم العمل بأكمله.

وقد صنع هؤلاء روائعهم وتحفهم الفنية القائمة على فن الرواية من أعمال ليست بذي ذكر أو خلود في التاريخ الأدبي، وبعض هذه الروايات على وجه التحديد يمكن أن نسمها بسهولة بالضعف الفني. وقد حقق العديد من المخرجين عبر روايات معيوبة أو ضعيفة فنيًا أكثر من عمل خالد، فقط عبر استغلالهم لهذا الضعف أو ذاك العيب كثغرة للدخول إلى عالمها وتبديله وإعادة تقديمه من وجهة نظر خاصة تقيم عوج أو تسد ثغرات ما كان مكشوفًا.

ومن بين أبرز الأمثلة على ما سبق، تحفة المخرج الروسي الكبير أندريه تاركوفسكي الخالدة “سولاريس”، المأخوذة عن رواية بنفس العنوان لكاتب الخيال العلمي البولندي الشهير “ستانيسواف ليم”. وكيف، على حد قول “ليم” نفسه بعد مشاهدته للفيلم، الذي أطلعه تاركوفسكي على بعض أفكاره أثناء مراحل كتابته، كيف أفسد تاركوفسكي الرواية واعتدى على إبداعه، ووصل الأمر به إلى حد التنديد بالفيلم والتهديد بمقاضاته، ومقاطعة تاركوفسكي بعدما كانا صديقين.

ومع فيلم “تانجو الشيطان” (1994) الذي أخرجه بيلا تار، أحد أكبر المخرجين المجريين والمعاصرين في تاريخ السينما، والمأخوذ عن رواية فذة بنفس العنوان للكاتب المجري القدير والروائي الكبير “لازلو كراسناهوركاي”، نجد أن المتميز بيلا تار، صاحب العديد من الروائع والتحف التي ستخلد في تاريخ السينما بكل تأكيد، قد وقع، إلى حد بعيد، في نفس تلك المعضلة التي سبقه إليها الكثير من المخرجين. وبالرغم من استعانة تار بلازلو لكتابة سيناريو الفيلم، وبرغم تمرس لازلو في كتابة السيناريو، إذ قدّم مع تار بضعة أفلام خلابة، وبالرغم من عظمة الفيلم دون جدال، لكن أبى الوسيط السينمائي وكذلك الأدبي التفريط في فرادة وخصوصية كل منهما، فخرج العمل السينمائي بالقطع على قدر كبير من التميز والفرادة التي لا تخطئها العين، لكنه في النهاية، لم يصل لنفس قوة العمل الروائي، الذي يعتبر بالفعل من التحف الأدبية في تاريخ الأدب المعاصر.

لكن، ما الذي أدى إلى إخفاق كاتب الرواية الأصلي وأديب بحجم لازلو ومبدع متفرد بقامة تار في نقل قوة وعمق وفرادة العمل الأدبي إلى الشاشة؟ ما سبق وذكرناه قد يجيب بالطبع على هذا السؤال الصعب. فـ “تانجو الشيطان” كرواية، تعتبر بالفعل رواية ضاربة بقوة وعمق في جذور فن الرواية الأصيل، ناهيك عن أن الرواية ذاتها تصل حقًا لدرجة الكمال في كل شيء، الموضوع والبناء والشخصيات إلخ، وبالتالي لم يجد كاتبها ومخرج الفيلم أية ثغرات قد تمكنهما من تقديم ما هو مغاير عبر التسلل من إحدى الفجوات المفتوحة في بنية العمل أو التي هي بحاجة لمعالجة أو تقويم أو ترميم. ومن ثم، لم يكن أمامهما سوى محاولة تقديم العمل على الشاشة بصريًا، بطريقة حاول لازلو أن يقربها قد المستطاع من السينما مبتعدًا بها عن الأدب، ونجح تار إلى حد بعيد في تقديمها بصريًا على الشاشة بأسلوبه الخاص الذي أنقذ العمل والفيلم دون شك.

 

الرواية

تنقسم رواية “تانجو الشيطان” أو “تانجو الخراب” في ترجمتها العربية، التي صدرت مؤخرًا في منتصف هذا العام في ترجمة جد رائعة ورصينة اقتربت تمامًا من النص الأصلي، أنجزها المترجم الحارس النبهان، إلى اثني عشر فصلا، تم تقسيمهما إلى جزأين، وكل جزء إلى ستة فصول ذات عناوين وأرقام، أخذت في الجزء الأول تسلسلا تصاعديًا، في حين تسلسلت في الجزء الثاني على نحو تنازلي. وقد جاءت عناوين الفصول كالتالي: الجزء الأول: 1) أنباء عن قدومهما. 2) لقد بُعِثنا حيين. 3) حتى ندرك شيئًا. 4) شباك العنكبوت (1). 5) الكشف. 6) شباك العنكبوت (2) – لعبة إبليس، تانجو الخراب.

الجزء الثاني: 6) إرمياس يلقي كلمة. 5) المشهد كما بدا من الأمام. 4) رؤيا سماوية؟ هلوسة؟ 3) المشهد كما بدا من الخلف. 2) لا شيء سوى العمل والقلق. 1) اكتمال الدائرة.

من دون أدنى مبالغة نجزم بأن رواية “تانجو الشيطان” ساحرة فعلا رغم قتامتها البالغة. تتسم بدقة وإحكام وبراعة البناء، وأيضًا بالأصالة والعمق والإقناع، رغم عالمها المفرط بشدة في الغرابة، وكذلك السوداوية في أجلى صورها، والتي تكاد تُقارب أقصى درجات العدمية. إنها، بكل تأكيد، رواية على قدر كبير من الغموض والتركيب والتعقيد، لا تتركك إلا وأنت في حيرة بالغة عقب القراءة. في حين أن، وتلك من بين مفارقاتها العديدة، كل فصل، والمكون من مقطع واحد فحسب يستمر لقرابة الثلاثين صفحة في النص الإنجليزي وتقريبًا العربي، وكل حدث وكل شخصية بها، في غاية السهولة والوضوح والبساطة، ولا وجود لمناطق لبس أو استفهام عويصة في حبكتها إلا فيما ندر.

في الرواية نجدنا بإزاء الشخصية الرئيسة المهيمنة، شخصية “إريمياس”. هل يضطلع “إريمياس” بدور الشيطان أم المخلص في الرواية؟ أم هو مجرد استعارة سياسية وليست دينية لرمز الزعيم أو الرئيس أو القائد إلخ؟ أيًا كان من هو، وبصرف النظر عن كنه شخصيته، فقد انتهى به الأمر، في النهاية، على يد لازلو كريسناهوركاي، إلى محض رجل عادي أو أقل من العادي، يمكن بسهولة تقويض هالته واعتباره مجرد محتال أو نصاب دون أدنى تردد أو افتراء على شخصه.

وبغض النظر عما تمثله شخصية “إريمياس”، وهي تصلح لكل ما سبق من أوصاف لاشتراكها في جوانب كثيرة مع جميع ما ذُكر، فإننا، دون شك، لسنا بصدد تلك الحيرة مع شخصية صديقه وصنوه “بيترينا”. ولا حتى بقية أبطال الرواية/الفيلم. فهم محض شخصيات أقل ما توصف به أنها أقل من العادية. يمكن أن نلتقيها في أي مجتمع كان، وبالقطع لا يخلو منها أي مجتمع، فهي من تلك الطينة السائدة، في الغالب، السادرة في أحلامها الخيالية البسيطة، التي هي أقرب ما تكون للتحقق على أرض الواقع. لكنها، في نفس الوقت، العاجزة كل العجز، والخالية من أي إرادة تدفعها للفعل أو الانطلاق نحو الحرية والتحرر. فهي دائمًا، كعادة الجموع الغفيرة أو الجماهير أو الحشود أو باختصار القطيع، في انتظار القائد أو المُخَلِصُ أو النبي أو المُلهِم، حتى وإن ارتقى تشككها في زيف حقيقته وإخلاصه إلى درجة اليقين.

وسط الحضور القوي أيضًا لانتفاء أي معنى للعالم أو الحياة، نجدهم مجموعة من فاقدي الأمل في أي مستقبل أو حتى مجرد الثورة على واقعهم ومحاولة تغييره أو التفكير في نبذه. فحتى فكرة الابتعاد إلى المدينة مجرد حلم يراود البعض ولا يقو على تنفيذه أو الإقدام عليه أحد. وحتى، عند التدبير بليل، يفشل “فوتاكي” و”شميدت” وزوجة شميدت في خطتهم والفرار بالمال بعد اقتسامه، فالأقدار أو الحظ أو الظروف تقف لهم بالمرصاد. يتساوى معهم في هذا الوضع الإذعاني المنحط، الشخصية الأكثر علمًا ودراية ودراسة وثقافة، وهي شخصية الطبيب. فهو، وإن كان يبغضهم ويكن لهم كل القرف والاشمئزاز، الذي يمكن أن يكنه أدنى مخلوق لبشر، لكنه في النهاية، مع التحليل العميق لشخصيته، نجده لا يقل عنهم، إن لم يكن أكثر منهم، سوءًا وضحالة وعدمية واستسلامًا، وتجسديًا أيضًا لتفاهة الوجود البشري.

إن شخصيات “تانجو الشيطان” هي باختصار، شخصيات غائبة، بسبب الانتظار. ليست غائبة فقط عن شيء أو حدث ما، وهو ما توضحه بعض الشيء الجملة الاقتباسية في بداية الرواية المأخوذة من رواية القلعة لكافكا، “في تلك الحالة، يجعلني انتظار الشيء أخسره”، وإنما هي غائبة حتى عن ذواتها، وبالقطع عن الحياة برمتها.

تعيش تلك الشخصيات شبه البشرية في محيط لا يقل عنها تفككًا وانهيارًا وخرابًا، في شبه قرية معزولة، كانت عامرة ومزدهرة من قبل فيما يبدو، قرية كل ما فيها وما يحيط بها الآن متعطل أو خرب أو في سبيله للتهدم، تمامًا كأرواح الشخصيات القليلة الباقية بها. قرية تبدو إلى حد بعيد شبيهة بالتجمعات التعاونية الزراعية الاشتراكية، العائدة لأيام الفترة الشيوعية في أوروبا، وفي المجر على وجه التحديد حيث تدور أحداث الرواية. لكن الأمر أيضًا غير واضح بهذه البساطة، فبراعة الكاتب، التي نلمسها بشدة في ثنايا الرواية، وحذقه في تضفير الحبكة بخيوط عديدة، جعلتها تبدو في أوقات كثيرة وكأنها لا تنتمي لأي زمان أو مكان على وجه التحديد، فالأجواء تبدو أميل للحدوث في الماضي الموغل في البعد، ربما القرون الوسطى بمسحة دينية لا تغفلها العين. لكنها، في الوقت ذاته، تضرب بجذورها أيضًا في أعماق القرن الماضي دون تحديد زمني. وكلما ألفنا عتاقة الأحداث والأجواء والتصرفات والشخصيات وغيرها، تأتي كلمة أو صورة أو مشهد، ليذكروننا ثانية بأننا في القرن العشرين، حيث تتواجد الشرطة والتليفونات والسيارات وحتى التليفزيون.

مع عودة “إريمياس” إلى القرية، التي غاب عنها لقرابة عامين، تدب الحياة في البقية الباقية من سكانها وتنبض عروقهم بالآمال، فينفضون عنهم عزلتهم واغترابهم جزئيًا، ويجتمعون في الحانة يرقصون، لكنه رقص يجمع بين الاحتفال والجنازة، اليأس والأمل، القلق والاطمئنان، وكل المتناقضات التي تمكن قراءتها على وجوههم وتصرفاتهم ورقصهم، نظرًا لأنهم غير واثقين كلية إن كان إريمياس سيُعيد الأمور إلى نصابها السليم وينتشلهم مما هم فيه أم لا. ومع بداية الجزء الثاني، والترقيم التنازلي للرواية، نلمس بعد فصل تانجو الحانة، نقطة انعطاف ملحوظة، دون شك، في خط سير الرواية ومصائر الشخصيات وعلاقاتها معًا، بعد أن أبرز وجسّد هذا الفصل، على وجه التحديد، هشاشة الوضع البشري الذي يمثله هؤلاء الأشخاص في أقصى ذروته. ومن ثم نتبين لاحقًا في الفصل الأول من الجزء الثاني، الذي هو بمثابة خطبة عصماء ذات مسحة دينية أن “إريمياس” يبيعهم رسائل أمل كاذبة بالقطع، وسينتهي بمصائرهم إلى نهاية غامضة إن لم تكن فاجعة.

برع لازلو في “تانجو الشيطان” في إبداع عمل من نتف أحداث قد لا تحمل أدنى معنى أو مغزى من الوهلة الأولى. وقد صاغ هذا كله بأسلوب شديد التميز وبنية دائرية إلى حد كبير وسمت الرواية بشكل عام. وقد اتضح هذا مع ختام المشهد النهائي منها، حيث يشرع الطبيب، مستعينًا بدفاتره المخصصة لكل شخصية من شخصيات القرية على حدة، في كتابة قصتهم أو روايتهم، والتي بدأها بنفس السطور التي بدأت بها الرواية، وكأن سرد تلك القصة لن ينتهي. في حين، ينتهي الفيلم، الذي اتخذ منذ البداية بنية مغايرة بعض الشيء، بنهاية مختلفة قليلا وإن كانت قوية عن خاتمة الرواية، إنها خاتمة تغلق قوسي البداية. لكن لماذا؟