محمد هاشم عبد السلام

 

الجمعة 26 ديسمبر 2014

 

يجسد لنا فيلم الرسوم المتحركة البديع “جزيرة جيوفاني” للمخرج الياباني ميزوهو نيشيكوبو، عبر مزج غير عادي بين السرد القصصي الواقعي والخيال الطفولي، أحد الفصول القاسية والمجهولة نسبياً من التاريخ الياباني المعاصر أثناء الحرب العالمية الثانية، والذي لم يُحوّل من قبل قط لفيلم من أفلام الرسوم المتحركة.

ويحسب لمخرج الفيلم، دون شك، على غير عادة الكثير من أفلام الرسوم المتحركة، تناوله لمجموعة من الأحداث التاريخية المتعلقة بالحرب والاحتلال والترحيل ومعسكرات الاعتقال. كذلك تناول السرد لتفاصيل مثيرة للحزن مثل إجبار أم على ترك ابنها ليلقى بالبحر عقب وفاته، وكذلك وفاة شقيق بطل الفيلم الصغير وغيرها من الأمور.

وبالرغم من الخلفية السياسية المعقدة التي يطرحها الفيلم، إلا إنه من السهل على غير البالغين التفاعل معه، بل وحتى التماهي مع أبطاله الصغار. وربما لكل تلك الأسباب، آثر المخرج أن يتبع السرد الخطي في بناء الفيلم، وأن يكون الإخراج بسيطًا قدر الإمكان بل وكلاسيكياً، إن شئنا الدقة، لا سيما فيما يتعلق بالشخصيات المرسومة على الورق أو المُنفّذة على الشاشة.

يبدأ فيلم “جزيرة جيوفاني”، باستعراض حياة ذلك المجتمع الساحلي البسيط فوق جزيرة “شيكوتان”، الذي يغلب على أهله الاشتغال بحرفة الصيد، ويحيا بقدر من البدائية دونما كهرباء ولا يشغل باله أو ربما لم يسمع بالحرب من قبل. وهي، على أية حال، بعيدة عنه وهو بمعزل عنها.

منذ أن جاءا إلى الحياة، يعيش الصغيران “جونبي”، أحد عشر عاماً، وشقيقه الأصغر “كانتا” ست سنوات، حياة يسودها الهدوء والمرح فوق الجزيرة مع والدهما وجدهما وعمهما. ويطلق الصبيان على نفسيهما اسم “جيوفاني” و”كامبانيلا”. وذلك على اسمي الشخصيتين الرئيسيتين بالرواية الشهيرة، المقررة على أغلب طلاب المدارس الابتدائية، “ليلة على قطار المجرة”، للكاتب الياباني المعروف “كينجي ميازاوا”.

والصبيان مفتونان بشدة بتلك القصة الخيالية وشخصياتها، ودائمًا ما يستحضران صوراً ذهنية متخيلة لقطار سحري قادر على نقلهما لأي مكان يرغبان في التوجه إليه، والتجول بهما عبر الكواكب والمجرات. وطوال الفيلم، نلاحظ الصغير كامبانيلا وقد أمسك في يده بقطار صغير، يُطلق عليه قطار المجرة.

وشخصية “جونبي” تلك مستلهمة بنسبة ثمانية بالمئة من حياة شخص حقيقي يدعى “هيروشي توكونو” لا يزال على قيد الحياة ويبلغ من العمر 83 عاماً، عاصر الغزو الروسي لجزيرة “شيكوتان” الواقعة شمال اليابان، والتي لا تزال حتى يومنا هذا، محتلة من جانب الروس.

يمرح “جونبي” و”كانتا” مع غيرهم من الأطفال المحليين على الشاطئ ويسرقون بيض الطيور، الموجود وسط الأماكن الغائرة بالمنحدرات الصخرية. لكن الأمور تنقلب رأسًا على عقب مع سماع دوي القذائف وطلقات المدافع.

يتجمع سكان الجزيرة لتبيّن الأمر، فيجدون أن النيران تطلقها مجموعة من السفن السوفيتية التي أخذت في الاقتراب من الجزيرة. وبالرغم من انتهاء الحرب واستسلام اليابان في الخامس عشر من أغسطس عام 1945، إلا إن القوات الروسية واصلت احتلالها لبعض الجزر، ومنها جزيرة “شيكوتان”، التي يجد أهلها أنفسهم مضطرين للاستسلام.

فجأة يجد هؤلاء الأطفال الهانئين المطمئنين أنفسهم يطردون من المنازل هم وأسرهم ويتركون فصولهم الدراسية كي يفسحوا المجال للجنود الروس وعائلاتهم. ينتقل جيوفاني وشقيقه ووالده وجده وعمه للعيش بالاسطبل مع حصانهم، بعدما شغل القائد العسكري لقوات الاحتلال وحاكم الجزيرة منزلهم هو وأسرته، واستبدلوا كل ما هو ياباني بآخر روسي الطابع، في طمس كامل لكل معلم ياباني.

وذات صباح يتناهى لسمع جوفياني وغيره من تلاميذ صفه، صوت غناء قادم من فصلهم القديم، لمجموعة من التلاميذ الروس ينشدون أغاني روسية الطابع، فما يكون منهم إلا الغناء بصوت مرتفع ليغطوا على صوت التلاميذ الروس، وإذ بالروس يفعلون الشيء عينه، فتشتعل المباراة بين الفصلين في التصايح الشديد وليس الغناء الذي راحت تتداخل فيه الكلمات اليابانية وتمتزج بالروسية في كورس شديد النشاز والنفور. وعبر ذلك المشهد البديع، وغيره من المشاهد، استطاع المخرج أن ينقل لنا بالفعل تلك العداوة التي راحت تتأصل وتتجذر بين الفصيلين لتسود على ما عداها، وتلغي كل ما يمت بصلة لبراءة الطفولة. راصدة لنا تبعات الحرب على سلوك ونفسيات أطفال لا يعلمون بها ولا عن خلفياتها أي شيء.

على مضض، يعيش أهل الجزيرة تحت الاحتلال في استسلام تام. وبالتدريج، يبرز عامل غير متوقع لصدارة المشهد، ألا وهو “تانيا”، الابنة الجميلة للقائد الروسي، التي تسكن الآن حجرة الطفلين. وبالرغم من أن الشقيقين يكنان الكراهية والعداء الظاهري لها، إلا إننا نجدهما لاحقًا، وبعد الكثير من الشد والجذب والمشاهد التي جنحت نحو التودد والملاطفة فيما بعد، قد وطدا أواصر الصداقة فيما بينهم، والتي سرعان ما تحولت بالفعل إلى علاقة حب شديدة الجمال والعذوبة بين جيوفاني وتانيا رغم حداثة عمريهما.

وعلى النقيض من جيوفاني وشقيقه كامبانيلا، نجد والدهما “تاتسو” وعمهما، وحتى معلمة الطفلين بالمدرسة. فوالدهما ينضم للمقاومة ويكون من أحد قادتها بالجزيرة، في حين أن عمهما الدائم السفر لا يكترث بالروس كثيرًا وكل ما يهمه هو التجارة والربح حتى وإن كانت محفوفة بالمخاطر. وبالرغم من عدم معارضة والد تانيا لصداقتها مع جيوفاني وكامبانيلا، وحتى دعوتهما للعشاء، إلا إن والدهما خشى مغبة تلك العلاقة والخطر الذي تشكله على نشاطه. وهو ما يظنه جيوفاني قد حدث فعلا، عندما تم القبض على والده بتهمة تهريب الأرز وتوزيعه على أهل الجزيرة، ثم اقتياده إلى معسكر الاعتقال، وترحيله بعيدًا عن الجزيرة. لكننا نعرف أن عم جيوفاني هو سبب الوشاية، بدافع التجارة، والغيرة منه أيضًا لمعرفته بحب المُعلمة لشقيقه. ويتضح للصبيين لاحقًا أنها ليست تانيا من وشى بوالدهما وتسببت في فراقهما عنه.

بعد مرور عام تقريباً، تتعرض حياة أهل الجزيرة لمزيد من التعقيد عندما يؤمرون بترك الجزيرة والمغادرة على متن سفينة متجهة إلى ميناء مدينة “خولمسك” الروسية، تمهيدًا لترحيلهم فيما بعد بواسطة القطار إلى أحد معسكرات الاعتقال “الجولاق” في البراري الروسية المتجمدة.

ومن هنا يأخذ الفيلم منعطفاً يميل للحزن والقسوة والمرارة على كافة الأصعدة، حتى الألوان. ومع انتقالهم إلى هناك بصحبة المعلمة، يشرع الطفلان في بحث شاق عن والدهما، بدافع قوي من الصغير كامبانيلا الذي يرى أن القطار سيحقق له أمنيته ويرى والده. وبالفعل يفرون لأجل ذلك الغرض ويعثرون على المعسكر الموجود به والدهما.

بعد تلك الرحلة الشاقة، وفي مشهد آخر رائع ومحزن في ذات الوقت يبرع في تجسيده المخرج ميزوهو نيشيكوبو وفريق عمله، وبينما هم عائدون مرة أخرى للجزيرة، ولكي لا يُلق بكامبانيلا الذي توفي في البحر من جانب السلطات الروسية، يضطر شقيقه لحمله على ظهره، ويشرع في التحدث معه بصوت مسموع كأنه لا يزال حيًا حتى يفلح في الصعود إلى متن السفينة واصطحاب شقيقه ليدفن على أرض الجزيرة، التي افترقا عنها.

تفوق فريق العمل من فناني الرسومات، على طول الفيلم الذي امتد لأكثر من مئة دقيقة، في إبداع الكثير من المشاهد المذهلة فعلا بالفيلم، سواء للمناظر الطبيعية أو حتى غيرها كالسفن والقطارات ومعسكرات الاعتقال إلى آخره، وذلك تحت قيادة وإشراف الفنان الأرجنتيني “سانتياجو مونتيل”. كما جاءت أصوات الشخصيات متناسبة تمامًا وأفلحت في إقناعنا أنها بالفعل لتلك الأعمار السنية التي نراها على الشاشة.

ميزيوهو نيشاكودو، من مواليد طوكيو، عام 1953. بدأ تاريخه المهني عام 1975 في شركة “تاتسونوكو” المتخصصة في إنتاج الرسوم المتحركة، شارك بعدها المخرج “أوسامو ديزاركي” في فيلمه “السيدة أوسكار” عام 1979. أخرج عدة مسلسلات تلفزيونية وأفلام منها “آي فتاة الڤيديو” عام 1992 و”أتوجي زوشي” عام 2004 و”أتاجول: قطة الغابة المسحورة” عام 2006.

كما أخرج فيلماً روائياً طويلاً بعنوان موساشي: حلم الساموراي الأخير عام 2009، الذي عرض في مهرجانات عالمية منها “لوكارنو” و”وارسو” و”ستوكهولم”، وقد فاز فيلمه الأخير “جزيرة جيوفاني” بجائز “التفوق” في مهرجان “آنسي” 2014، وهو أكبر مهرجان لأفلام الرسوم المتحركة في العالم.