ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
مع الفيلم الروائي الخامس في مسيرته المهنية، ترشح فيلم “بيردمان”، للمخرج المكسيكي الأصل أليخاندرو جونزاليس إيناريتو، ضمن القوائم القصيرة للأوسكار، وذلك للتنافس على الفوز بتسع جوائز منها. وكان الفيلم قد ترشح وفاز أيضًا بالعديد من الجوائز العالمية القيمة حتى الأيام القليلة الماضية.
بهذه المناسبة، أجرى منذ أيام قليلة الناقد والصحفي الفني لـ”فيلم كومينت” ستيفن ميرز الحوار التالي مع أليخاندرو جونزاليس إيناريتو، صاحب “21 جرامًا، وبابل، وأموروس بيروس، وبيتفول”. جدير بالذكر أن فيلم “بيردمان” يحمل عنوانًا فرعيًا آخر هو “الفضيلة غير المتوقعة للجهل”.
ستيفن: هذا الفيلم عن حالة عدم الأمان التي تصيب الفنانين. يفصح صوت بيردمان عن هموم شخصية مايكل كيتون. هل لديك بيردمان خاص بك؟
أليخاندرو: نعم، بالتأكيد. نسر، يمكنني القول! (ضحكات)
ستيفن: هل سبق أن تحدث إليك من قبل عن أي شيء كنت ترغب في القيام به؟
أليخاندرو: نعم. كما تعرف، في العملية الإبداعية أعتقد أن كل إنسان واجهته الشكوك والتناقضات والعيوب… وهذا جزء منها. تلك هي الصفقة المعقودة معها. إنه جزء من تعقيدها. لأنها شديدة التناقض وهذا ما يجب أن تكون عليه، أعتقد – للتحرك خطوتين للأمام وواحدة للخلف. ومن ثم، فإنها عملية مُعذبة ومريرة، وأحيانًا أكثر من هذا للبعض دون البعض الآخر، لكن بصرف النظر عن شخصك فإن عليك المرور بها.
ستيفن: ذكّرَني الفيلم، أثناء مشاهدتي له، بفيلم “ازدراء” لجودار، حيث أن كل من اشترك في هذا العمل الجماعي متورط بطريقة أو أخرى. الممثلون الذين يأخذون أنفسهم على محمل الجد، الممثلون الذين ينبغي أن يأخذوا أنفسهم بجدية أكثر، المناصرون، النقاد – الجميع أيديهم ملطخة بالدماء، بطريقة ما. أتساءل إن كنت تحاول الإدلاء ببيان متعلق بإلى أي مدى يولد الفن ليس فقط من النوايا النبيلة، وإنما الأنا، والنرجسية، والضعف؟
أليخاندرو: نعم، أعتقد أن الفيلم تناول هذا كثيرًا – ما هو الفن وما هو التجاري، وعندما تكون فنانًا وعندما تكون داعرًا. طوال الوقت، يتعامل الفنانون مع هذه القضية، خاصة في السينما، عندما يكون المال شريكًا في هذه العملية. تلك مأساة السينما، التي هي صناعة وفي نفس الوقت فن وأداة للتعبير الشخصي، وفي الحين ذاته وسيلة للترفيه عن الجماهير. وهذا النوع من التوازن من الصعب جدًا توجيهه أو التحكم فيه، خاصة اليوم، في ظل قواعد اللعبة تلك… “ازدراء” هو أحد أفلامي المفضلة، ودائمًا ما كنت أسأل نفسي كيف نجح جودار أو بيلي وايلدر أو ماكس أوفلس في القيام بهذا. هؤلاء الرجال الثلاثة كانوا دائمًا في ذهني، وأيضًا فكرة بريخت عن كسر الجدار الفاصل بين الممثلين والجمهور، وتبدل وجهات النظر، أتدري؟
ستيفن: أود أن أسأل عن شخصية الناقدة التي أدتها “ليندساي دنكان”. فقد بدت أقل مما يبدو عليه صحفي حقيقي منها بتجسيد هذه الفكرة عن النقاد الذين يتمتعون بسلطة مطلقة. هل هذا تقييم عادل مُنصِف؟
أليخاندرو: بالنسبة لي، أعتقد أنها تمثل كل ما كانت تخشاه شخصية كيتون طوال حياتها. في أجواء الفيلم، حاولت أن أجعلها تعبر عن إحباطها من أن المسرح قد احتله كل ما هو سيئ ودعائي وتجاري، وتراجع أو تضاؤل، وليس عدم تحقق، هذا الرجل الذي يمثل كل ما تكرهه هي. الأمر الذي أعتقد أنه صحيح، وأحيانًا أتعاطف أنا نفسي مع هذا، على المستوى الشخصي. وبالنسبة له، هي تمثل ذلك – إمكانية التعرض للرفض، وعدم التحقق، وهو ما يخشاه أكثر من أي شيء. وقد وجدت أن أفضل خصم أو نقيض للبطل سيكون هذا، لأنها تُمثل القاضي، تُمثل القس، تُمثل الأم، كل ما كان يخشاه طوال حياته. لذلك أعتقد أنها كانت نقيضًا رائعًا للبطل.
ستيفن: برأيك ما هو دور الناقد اليوم؟
أليخاندرو: بصراحة، شخصيًا، أشعر بالشفقة عليهم. أقصد، إن كان عليك أن تشاهد، لنقل، سبعمائة فيلم في السنة، وأنا متأكد من أن خمسة وتسعين بالمئة منها سيئة حقًا، لأن تلك هي الحقيقة فعلا! لذا، فإنني أشعر بالشفقة تجاهكم أيها الرفاق. أشاهد أفلامًا، لكن فقط تلك التي أعرف أنها ستروق لي. لكنني كنت عضوًا في لجنة تحكيم بمهرجان ما من المهرجانات، ومن بين عشرين فيلمًا، شاهدت اثنين جيدين، وواحدًا بين بين، وواحدًا استثنائيًا. بعد ذلك، بقية الستة عشر فيلمًا لا تحتمل! وكان لتلك الأفلام العشرين تأثيرها العميق عليّ، تعرف ما الذي أقصده؟ لقد سممتني بطريقة ما. عليك أن تتجرع السم أو القرف كي تذوق ما هو جيد، لكن بعد ذلك يكون لسانك قد احترق على نحو فظيع، ولهذا السبب أشعر بالحزن على النقاد اليوم، لأن دورهم بالغ الصعوبة، فالحكم على سبعمائة فيلم يمكنك معه بسهولة أن تفقد صوابك. لهذا السبب أحترمهم، وأشعر بالشفقة عليهم، ولديّ شكوك حول مدى إمكانية تقييمك الجيد لشيء بعد مشاهدة كل هذا القرف. هل تتفق معي؟
ستيفن: نعم، خاصة فيما يتعلق بالخمسة وتسعين بالمئة.
ضحكات
ستيفن: قبل فترة ليست بالبعيدة تحدثت عن أفلام البطل الخارق – قلت عنها إنها سامة ويمينية بطبيعتها.
أليخاندرو: الأبطال الخارقون، بالنسبة لي، يمثلون رؤية لبشر لا تشوبهم شائبة ويتسمون بالثقة واليقين، وكل تلك الأشياء التي هي إسقاطات وهمية لما ينبغي أن يكون عليه البشر. إنها فاشية تقريبًا – ثمة ما هو مخيف جدًا فيما يتعلق بهذا الأمر، بهذا التكبر. بالنسبة لي، البشر على النقيض تمامًا من كل هذا. لم يسبق لي قط أن التقيت بإنسان على هذا النحو. إنني مهتم أكثر بالبشر، الذين أجدهم أكثر عمقًا وتناقضًا وعيوبًا وتقودهم المخاوف والقلق، لكن في الوقت نفسه، على قدر من الجمال، وإثارة الشفقة، مخلوقات مُحَببة لدرجة أجدها رائعة. أظن أن قيم الأبطال الخارقين هي بطريقة ما متأثرة بالكيفية التي يعمل بها العقل العسكري. لذلك لديّ صراع أو تناقض، فلسفي، مع أجيال اليوم الذين هم غير معجبين أو مفتونين بإمكانياتنا وعيوبنا البشرية، وأن كل ما هو إنساني يبدو مملا اليوم. هذا أمر مخيف بالنسبة لي. هذا هو صراعي – أن البشر يبدون الآن لم يعودوا خاضعين للتحليل والملاحظة أو المراقبة، وأننا لا يمكننا رؤية أنفسنا في الأفلام لأن شعورنا سيئ جدًا تجاه أنفسنا. لقد تصرفنا على نحو سيئ للغاية في السنوات الأخيرة، والعالم الآن في مثل هذه الحالة المزرية، وربما سبب الجنون بالأبطال الخارقين – وأتحدث بصراحة الآن – أن هناك خجل من رؤية البشر على الشاشة. وهذا أمر مُحزن.
ستيفن: قال جودار، أفضل طريقة لنقد فيلم هي أن تصنع فيلمًا آخر، وعلى هذا النحو فإن بيردمان هو نقدك لمجتمع مشبع بالقيمة الفاشية على الشاشة؟
أليخاندرو: جميع المواضيع التي يتطرق لها الفيلم قريبة مني حقًا، على المستوى الشخصي. تأثرت بها ولديّ فضول بشأنها وأنا جزء منها. ليس شيئًا أتأمله فكريًا أو أنا منفصل عنه – أنا جزء من هذه المناقشة. أنا جزء من المشكلة، ربما. لكن أظن أن هذا هو السبب في أنها رحلة مهمة ورائعة بالنسبة لي، كي أقوى على طرد العديد من الأفكار التي لديّ، من خلال هذه القصة وتلك الشخصيات، لأنني متعاطف معها كلها. لقد كنت كل منها، وأشعر في بعض الأحيان أنني يمكنني فعلا التعاطف مع كل وجهة نظر منها في الوقت نفسه، لذلك ليس لديّ وجهة نظر. لست موقنًا – ولا أعرف من هو على حق. لا أعرف إن كانت إيما ستون محقة فيما تقوله لوالدها. أحيانًا يمكنني التعاطف معها، وأحيانًا يمكنني التعاطف معه. ذلك هو ما أنا عليه، حسبما أتصور.
ستيفن: الفيلم ليس سياسيًا على نحو صريح، لكنك تقول إن أفلام الأبطال الخارقين أفلامًا رجعية، ولديك ناقدة مُصرة ومصممة على دعم الوضع الراهن، وصوت بيردمان يحذر كيتون باستمرار ضد يكون شديد الطموح. يبدو الأمر كأنك تقول إن المحافظة هي لعنة بالنسبة للفن.
أليخاندرو: نعم أعتقد هذا. لا أدري إن كنت تعرف أن النوتة الموسيقية للفيلم قد رفضت من جانب فرع الموسيقا في الأكاديمية (الجهة المانحة للأوسكار)، لأنهم اعتبروا أن الموسيقا الكلاسيكية، المستمدة من موسيقا موجودة بالفعل، تطغى على العاطفة بالفيلم، وأنا لا أتفق مع هذا، لأن النوتة الأصلية للدرامز مساحتها أكبر مرتين من مساحة الموسيقا الكلاسيكية. لجنة الموسيقا (المانحة لأوسكار أحسن موسيقا) ربطت العاطفة بالآلات الوترية، لكنها لم تستطع ربط العاطفة بالدرامز. بالنسبة لهم، الدرامز ليس آلة بنفس جودة أو عاطفية أو تناغم الجيتار أو البيانو. لذلك نعم، أعتقد أن الأعراف لا تسمح للتعبير أن يتطور بطرق مختلفة. ونعم، شكل هذا الفيلم – الحقيقة أنه تم تصويره على النحو الذي بدا عليه في لقطة واحدة – كان وسيلة لاستكشاف إمكانيات التجربة أو تحويل الحالة العاطفية للشخصيات إلى قواعد لغة أخرى.
ستيفن: إنني واثق من أن الكثير من الناس قد يلاحظوا أن هذا الفيلم أخف في لهجته من أعمالك الأخرى. هل هذا نابع من المادة أم تغير ما في نظرتك؟
أليخاندرو: لا أظن أنني قمت بتغيير موضوعات أفلامي – لقد غيرت النهج. و، بصراحة، أحيانًا عندما ترى كيف أن بعض الناس في هذه الصناعة يشكون من مدى صعوبة أن تصنع فيلمًا، أشعر بأنهم، يا إلهي، في العالم الثالث حيث يعمل الناس في أماكن وضيعة حقًا في ظل ظروف رهيبة بالغة الصعوبة. أنا لا أقلل ولا أنتقص من آلام وصعوبات العملية الإبداعية، وضرورة أن تكون محبوبًا وتعبر عن نفسك وتكون عاريًا وكل تلك الأمور. لكن ما أقوله هو إنني أدركت أنني إذا أخذت معاناة تلك الأمور الوجودية على محمل الجد، فإنني أخون الطبيعة الحقيقة للجانب المثير للشفقة منها. هناك جانب مثير للشفقة حقًا للأنا التي هي بحاجة للاعتراف، والإشادة، والتحقق. ثمة شيء، إذا انفصلت أو أبعدت نفسك قليلا، ستجده هزليًا أكثر مما هو مأساوي. إنه الاثنين في نفس الوقت، لكنني عرفت أنني لو تناولته بجدية بالغة، سيكون مثيرًا للشفقة مثل كل شيء آخر. لذلك أفضل تناول الواقع المأساوي للعقل المُعقد أو المُركب للفنانين برؤية أو تصور مرح. الأمر أكثر صدقًا على هذا النحو.