محمد هاشم عبد السلام

الخميس 8 يناير 2015

 

صدر من قبل، الكثير والكثير من الكتب عن المخرج الأمريكي الشهير “إيليا كازان”، اليوناني الأبوين والتركي المولد، أحد أهم الشخصيات المهمة والمؤثرة في الثقافة الأمريكية خلال القرن العشرين.

وقد تناولت تلك الكتب سيرة حياته ومسيرته المهنية، التي امتزجت بالسياسة بشكل أو بآخر، وأعماله كمخرج سينمائي ومسرحي أيضًا. وقد حاولت جميعها الاقتراب من إيليان كازان الإنسان والفنان والمهني بقدر الإمكان، وقد حملت كلها وجهات نظر أصحابها. وكان كازان بالطبع قد أصدر قبل وفاته بسنوات سيرته الذاتية التي حملت عنوان “حياة”.

لكن الجديد مع صدور هذا الكتاب، “الرسائل المختارة لإيليا كازان”، الذي رحل عن عالمنا عام 2003 وهو في الثالثة والتسعين من عمره، أنه يطلعنا لأول مرة على أحد الأوجه الحقيقية لكازان بصوته الخاص أو بالأحرى بقلمه هو وليس بقلم غيره، والتي آثر أن يضمنها رسائله الخاصة ولا ينشرها في كتب.

وكازان صاحب مجموعة من أهم وأشهر المسرحيات والأفلام السينمائية في الولايات المتحدة الأمريكية على امتداد عقود، ومنها على سبيل المثال “عربة أسمها الرغبة” (1951) و”وجه في الزحام” (1957)، و”شرق عدن” (1955)، وبالطبع فيلمه الأشهر، “أمريكا، أمريكا” (1963). وقد أخرج كازان في مجال المسرح العديد من المسرحيات المتميزة لأشهر كتاب عصره، وتعتبر “قطعة فوق صفيح ساخن”، و”موت بائع متجول” من بين أشهر أعماله المسرحية.

ولم يحدث من قبل أن كان هناك من هو على نفس القدر من الإبداع المتميز والتأثير العميق وتحقيق النجاح أيضًا سواء في برودواي أو هوليوود أو فيهما معًا في نفس الوقت في عصريهما الذهبي مثل كازان. وليس ثمة شك في أن كازان قد أسهم لسنوات في تغيير وتطوير المسرح والسينما في أمريكا خلال فترة عمله بهما.

وكتاب “الرسائل المختارة لإيليا كازان”، الذي صدر في النص الأخير من العام الماضي، من تحرير “ألبرت ومارلين ديلفين”. وقد جاء الكتاب في نحو ستمائة وخمسين صفحة، ويضم قرابة ثلاثمئة رسالة متفاوتة الحجم، تبادلها إيليان كازان مع العديد والعديد من الأصدقاء، وزملاء المهنة، والممثلين المسرحيين، ونجوم السينما، والمخرجين، والكتاب، وأفراد عائلته. وقد امتدت المراسلات المختارة لفترة زمنية تزيد على الستين عامًا، والقاسم المشترك الذي يجمع بينها هو هذا القدر الكبير من الصراحة الذي يتحدث به كازان عن نجاحاته أو إخفاقاته سواء على المستوى المهني أو حتى الشخصي.

ينقسم الكتاب، بعد المدخل ثم مقدمة المحرر، إلى سبعة أقسام متباينة الصفحات، جاءت على النحو التالي: الجزء الأول “البدايات: من عام 1925 – إلى 1941″، الجزء الثاني “برودواي: من عام 1942 – حتى 1949″، الجزء الثالث “مُخرِج: من عام 1950 – حتى 1935″، الجزء الرابع “استقلال: من عام 1954 – حتى 1957″، الجزء الخامس “المسرح والسينما: من عام 1957 – حتى 1961″، الجزء السادس “كاتب: من عام 1962 – حتى 1969″، الجزء السابع “سنوات لاحقة: من عام 1970 – حتى 1988″، بالإضافة إلى الملاحق التي احتوت على الهوامش والفهارس والإحالات للتواريخ والأسماء والرموز التي وردت في متن الخطابات وكانت بحاجة لشرح أو توضيح.

تيبن لنا الرسائل العديد من الأمور، أولها مدى بدائية لغة كازان الإنجليزية في خطاباته الأولى الواردة بالجزء الأول “البدايات”، لاسيما في فترة العشرينات وأوائل الثلاثينات، ومع التقدم في القراءة، نلاحظ مدى تمكن كازان من اللغة ودقته الصياغية في التعبير عن والوصول إلى ما يريده ببراعة.

وتطلعنا الرسائل على الكثير من متاعبه المهنية، ومنها على سبيل المثال، رسائله إلى مديرين الاستوديوهات، الذين كانت لهم الكلمة العليا في تنفيذ الأفلام في نهاية المطاف، يتحدث إليهم فيها عن المشاكل التي تواجهها أفلامه مع الرقابة مثل، “عربة اسمها الغربة” و”شرق عدن”، و”البيبي دول”. كما يشكو في الوقت نفسه من بعض المشاكل التي يواجهها معهم ومع طريقتهم في إدارة الاستوديوهات، وبخاصة شخصية بحجم “جاك وارنر”، وضيقه ذرعًا بهوليوود ونظام العمل القاتل والخانق فيها. وكذلك المعارك أو الحروب، إن جاز القول، التي خاضها منذ منتصف الخمسينات من أجل المزيد من التحرر وإضعاف سلطة الرقابة وزيادة جرعة الجرأة في الأعمال التي يقدمها دون التعرض لها بأي شكل من الأشكال.

كما تكشف الخطابات عن طريقة كازان المؤثرة في جذب انتباه من يخاطبه لبراعة أسلوبه الكتابي لاحقًا، ففي رسالة إلى الممثل القدير مارلون براندو على سبيل المثال يفتتحها كازان على النحو التالي: “عزيزي مارلون: لا يمكنني الادعاء بأنه من السهولة أو البساطة الكتابة إليك”. وكيف أنه كان داهية في الحصول على ما يريده بالضبط، وهذا جلي عبر قراءة رسائله إلى أصدقائه من الكاتب المسرحيين المشاهير مثل “تينيسي ويليامز” أو “جون شتاينبك” أو “ثورنتون وايلدر” أو حتى “آثر ميلر” صديقه الحميم قبل أن تفرقهما السياسة، وتبعات ما فعله كازان مع لجنة الماكارثية آنذاك، لأكثر من عشر سنوات.

كذلك توضح لنا الرسائل تحليلاته لمسرحية من المسرحيات أو إمساكه بعيوب سيناريو من السيناريوهات بطرق تهدف إلى تحسينها وتطويرها، وهنا يتجلى وجه إيليا كازان غير المعروف عنه من قبل، وهو دور الناقد، ورؤيته الفريدة للتمثيل والإخراج والإنتاج، وذلك عبر رسائله للعديد ممن تعاون معهم أو كان هو من اكتشفهم، مثل، مارلون براندون، وجيمس دين، ووارن بيتي، وغيرهم.

وأيضًا مدى بصيرته فيما يتعلق بنجاحه في مسيرته المهنية، ثم حدسه بأفول نجمه الإبداعي. وكيف أنه كان يشعر بالاستياء الشديد وعدم النجاح على المستوى الأدبي. إذ كان كازان قد أقدم على دخول عالم الكتابة والتأليف، بنشره لرواياته، وذلك في سنوات الستينات. وقد اتضح لاحقًا، وبعدما  كف كازان عن تأليف الروايات وكتب سيرته الذاتية، اتضح لنا إحساسه بالمرارة الشديدة، لكونه لم يتحقق ككاتب على النحو الذي تحقق به في مجالي المسرح والسينما وحتى الإنتاج واكتشاف النجوم والنجمات.

كذلك تطلعنا الرسائل بطبيعة الحال على جانب كبير من سيرته الحياتية، وبخاصة مشاكله الزوجية الصعبة وغير المعقولة التي مر بها، سواء بسبب علاقاته مع مارلين مونرو وغيرها أو أسفاره وانشغاله في عمله، مع زوجته الممثلة “مولي داي تاشر”، التي استمر زواجه بها لأكثر من ثلاثين عامًا حتى وفاتها. وقد أنجبت له مولي داي تاشر أربعة أبناء، ولدان وابنتان، وكانت بالنسبة له موضع ثقته وناصحته، على حد قوله في الرسائل.

كما نرصد أيضًا عبر الرسائل مرحلة زواجه، بعد وفاة مولي بسنوات قليلة، من الممثلة والعارضة “باربرا لودين” التي أنجب منها ولدين وامتد زواجه بها لعقد ونصف العقد تقريبًا حتى وفاتها عام 1980. ثم أخيرًا، زواجه بعد وفاة باربرا بعامين من “فرانسيس رودج” زوجته الأخيرة التي امتد زواجه بها لأكثر من عقدين حتى وفاته هو.

وبالرغم من أن الرسائل لم تأت على ذكر تفصيلي لقضيته الشهيرة المتعلقة بشهادته أو بالأحرى وشايته عن زملائه أمام لجنة ماكارثي السيئة السمعة. لكن كازان، مع ذلك، أشار في أكثر من مكان بالرسائل إلى هذا الأمر، وفي تلك الإشارات دافع بالطبع عن شهادته، وقال إنها كانت نزيهة ولم تصل لحد الوشاية بالزملاء أو خيانتهم أو الإيقاع بهم، ولم يتطرق كثيرًا لمناقشة التفاصيل الدقيقة للأمر، واكتفى لاحقًا بالإتيان على ذكر من قاطعوه من الأصدقاء والزملاء بسبب تلك الواقعة.