محمد هاشم عبد السلام

بأقلام نخبة من الباحثين والمهندسين المشتغلين بالعمارة وتخطيط المدن والمؤرخين من تخصصات بعيدة تمامًا عن مجال النقد السينمائي المتخصص، جاءت فصول الكتاب المشوق والممتع “القاهرة السينمائية: عن المدينة والحداثة ما بين الصورة والواقع”، كأفضل ما يكون عليه العمل الجماعي. ورغم عدد صفحات الكتاب (320 تقريبًا من القطع الكبير) إلا أن تشعّب الموضوعات وتعدّد الفصول، وجدّة التناول، وطموح الاشتغال على الفكرة الرئيسية والأفكار الفرعية، وأخيرًا تعدّد الرؤى والخلفيات، وقبل كل شيء سهولة الطرح وبساطة اللغة، ضاعفت كلها من متعة الكتاب الذي يمكن اعتبار كل فصل من فصوله بمثابة نواة لكتاب مستقل.

منهجية الكتاب

ورغم تنوّع الرؤى واختلاف الطروحات والتناول، وأيضًا استقلالية الفصول والموضوعات، ليس ثمة تنافر أو تضارب بينها. بالعكس، الفصول تكمل بعضها البعض، وفي النهاية، تصبّ في إطار الفكرة أو السياق العام للكتاب وموضوعه الرئيسي. وهذا يدلّ على الجهد التنسيقي للمشرفين على الكتاب، الدكتور نزار الصياد، أستاذ العمارة والتخطيط وتاريخ العمران في جامعة كاليفورنيا في بركلي، ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط بالجامعة لعشرين عامًا، والدكتورة هبة صفي الدين، أستاذة الهندسة المعمارية والتصميم الحضري في جامعة مصر الدولية، و”أستاذ مشارك” في الجامعة الأميركية بالقاهرة. ومن ثم، يمكن القول إننا فعلًا أمام اجتهاد رصين وجديد حقًا لاستقراء تاريخ مدينة القاهرة أو العاصمة المصرية عبر الصورة، أو على النحو الذي ظهرت به في السينما. وبالأخصّ، في مجموعة من الأفلام المختارة بعناية لرصد تطورات القاهرة عمرانيًا واجتماعيًا وثقافيًا واقتصاديًا، وسينمائيًا بالطبع.

الكتاب، الصادر بالإنكليزية عن دار نشر الجامعة الأميركية، وبالعربية عن دار المرايا للنشر والتوزيع في القاهرة، يتيح أيضًا من خلال أفكاره وطروحاته ومعالجاته إمكانية أو احتمالية تطبيق منهجه، بصورة أو أخرى، على سائر المدن أو العواصم العربية الكبرى، مثل الإسكندرية وبيروت ودمشق وغيرها، وقراءة تطوراتها وتغيراتها وتبدلاتها التاريخية المختلفة سينمائيًا، أي من خلال الصورة في مجموعة منتقاة من الأفلام. وبالإمكان أيضًا تطبيق فكرة منهجية فريق العمل، بحيث لا تقتصر المشاركات على النقّاد أو الباحثين والمتخصّصين السينمائيين فحسب، بل تمتد لغيرها من المجالات التي تصب بالنهاية في إثراء المحتوى الثقافي والفكري والسينمائي. أي، محاولة مشابهة على غرار محاولة كتاب “القاهرة السينمائية” لرصد وتوثيق التطور العمراني والحداثي للقاهرة الحديثة.

يحاول الباحثون في الكتاب، عبر رؤاهم ومناهجهم البحثية ومداخلهم المتباينة، رصد تاريخ القاهرة المعاصر، اعتمادًا على مقارنات مختلفة بين المدينة المادية أو الواقعية والمدينة المصورة المتخيّلة أو السينمائية. وذلك، منذ ثلاثينيات القرن الماضي تقريبًا وحتى مطلع هذا القرن. ومحاولة فك الاشتباك بين علاقة السينما بالمدينة لفهم الكثير مما حدث ويحدث في القاهرة المعاصرة من تطورات أو تقلّبات أو تشوّهات، خاصة، لبنيتها العمرانية والحضرية، وبمكوّناتها المختلفة وجوانبها المتعددة. وبالطبع، رصد تجربتها المدنية، بسلبياتها وإيجابياتها، والمضاهاة أو الربط بين المشهد المكاني في المدينة المادية والمدينة المتخيّلة أو المصورة في الأفلام.

من هنا، فإن الكتاب ليس نقدًا فنيًا سينمائيًا متخصصًا، ولا يهتم بظروف صناعة أو إنتاج أو إخراج مجموعة أفلام مصرية ظهرت فيها مدينة القاهرة، ولا التركيز فحسب على دراسة النسيج العمراني المادي أو الحقيقي للقاهرة كمدينة، رغم تعامل بعض الفصول مع السمات العمرانية للمدينة الحقيقية، بل هو تركيبة تمزج بين كل هذا وأكثر. مثلًا، نجد رسمَ خريطة لتحولات المدينة إلى الحداثة عبر فترات زمنية مختلفة ومتباينة. مع الأخذ في الاعتبار من ناحية أخرى المدينة المتخيّلة التي صنعها أو شكلها الوسيط السينمائي في الأذهان، بمعزل عن تلك الموجودة في الواقع فعلًا، وكيف أن تلك الصورة المتخيلة التي جرى تصويرها لما عليه المدينة في الحقيقة أسهمت في نقل مفاهيم وصور وتفسيرات شديدة الاختلاف، وخاطئة أحيانًا، للمدينة في أذهان أو لا وعي الجمهور.

أقسام وفصول الكتاب

انطلاقًا من هذه الأفكار الطموحة جدًا، وما تضمّنه من موضوعات جد متشعّبة، جرى تقسيم كتاب “القاهرة السينمائية” إلى جزأين. ولكل جزء كيانه الخاص، وموضوعاته شبه المستقلة. وتندرج تحت كل جزء سبعة فصول، متفاوتة الحجم، ومزوّدة ببعض الصور السينمائية المصاحبة وأحيانًا بملصقات بعض الأفلام أيضًا.

يتضمّن الجزء الأول، ويحمل عنوان “القاهرة السينمائية: 1930 حتى الوقت الحاضر”، سبعة فصول مرتّبة زمنيًا، تحتوي على رصد ونقد وتحليل لعدة أفلام، من ثلاثينيات القرن الماضي وحتى نهايته، توضح تطور القاهرة السينمائية وحداثتها. ولصعوبة استعراض أو حتى تلخيص الفصول أو مضامينها، وإن في كلمات مقتضبة، نشير إلى الفصول اللافتة فعلًا، والتي تعطي القارئ فكرة شاملة عن روح وجوهر ومضمون الكتاب. وإن انطوت الفصول الأخرى أيضًا على أفكار كثيرة تستحق الرصد والتأمل والمناقشة والتحليل.

ينطلق الفصل الأول من أفلام مثل “الوردة البيضاء” (1933)، و”ياقوت” (1914) لتناول القاهرة البرجوازية في الثلاثينيات، وطبقية المدينة والتبدلات الاجتماعية، والتحول إلى البرجوازية الحديثة، وتبدّل مفهوم النخب والطبقات العليا وغيرها، والمقارنة، مثلا، بين حداثة الجزء الغربي البرجوازي من المدينة وأقسامها الشرقية الأكثر تقليدية. بينما يتناول الفصل الثاني بعنوان “قاهرة نجيب محفوظ: تصورات التغيير والحداثة في مصر في القرن العشرين” فساد النظام الملكي، والحياة الاجتماعية للمدينة آنذاك، وبقية التغيرات، وصولًا إلى هزيمة 67، ورصد تأثير الهزيمة في الحرب، والحزن الجاثم على القاهرة وسكانها، عبر خمسة أعمال لنجيب محفوظ وستة أفلام مستوحاة منها، هي “زقاق المدق” (1963)، و”القاهرة 30″ (1966)، و”بين القصرين” (1961) ، و”قصر الشوق” (1967)، و”السكرية” (1969)، وأخيرًا “ثرثرة فوق النيل” (1971).

يتوقف الفصل الرابع، “قاهرة الجمهورية العربية المتحدة السينمائية 1962 – 1958″، عند ثلاثة أفلام، “إسماعيل ياسين في دمشق” (1958)، و”عمالقة البحار” (1960)، و”سنوات الحب” (1963)، لاستكشاف تأثيرها في تشكيل الوعي السياسي. والمقارنة بين ما قبل وما بعد الوحدة المصرية السورية، وصورة المدينة في الحالتين. وكيف جرى خلق صورة شبه زائفة للواقع القاهري، وتقديم المدينة بصورة متقدمة ومهيمنة مقارنة بسائر المدن.
ويتمحور الفصل الخامس، “حداثة مُعادية: القاهرة في الثمانينيات وأزمة إسكان الطبقة الوسطى”، حول فيلمي “الحب فوق هضبة الهرم” (1986)، و”كراكون في الشارع” (1986)، لتحليل أثر الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية بعد إعادة الهيكلة الاقتصادية، وتبعات ترييف القاهرة، وسياسة الانفتاح في أواخر السبعينيات. ثم هجرة العمال المهرة إلى دول الخليج. والتحول الديموغرافي، وأزمة الإسكان الكبرى للطبقة الوسطى في القاهرة.

يلفت الفصل السادس “الهروب من القاهرة، بيروقراطية الحداثة في التصوير السينمائي للمدينة في الثمانينيات” الأنظار إلى فكرة الهروب من المدينة وهجرتها، سواء إلى الريف أو إلى الخارج، لفرط اختناق الحياة بها في ثمانينيات القرن الماضي من خلال قراءة في فيلمي “خرج ولم يعد” (1981)، و”هنا القاهرة” (1985)، وكيف أصبحت الحياة في المدينة الكبيرة مرهقة وصعبة للغاية بشكل لا يطاق، ما أصاب البعض بأزمات واضطرابات نفسية حادّة.

ينتقل الفصل السابع، ويحمل عنوان “القاهرة من خلف عجلة القيادة: من واقعية الحداثة إلى سريالية ما بعد الحداثة”، إلى تسعينيات القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، للتركيز على الظروف المختلفة والتحولات الحادة والقاسية في المدينة من منظور سائق السيارة أو الأتوبيس الذي يرى المدينة من خلف عجلة القيادة. وهذا عبر قراءة وتحليل “سواق الأتوبيس” (1982)، و”عفاريت الأسفلت” (1996)، وإبراز التغيرات الاجتماعية والعمرانية في القاهرة، ومصر عامة، وإحساس سكان العاصمة بالضياع، وكيف أن القاهرة كمدينة نيوليبرالية مقسّمة ومجزأة، ما ينفي اعتبارها مدينة واحدة أو بمثابة كيان موحد.

من أفلام الكتاب: عمارة يعقوبيان، عفاريت الأسفلت، مولانا، كوكون في الشارع

الجزء الثاني، وهو بعنوان “تحولات القاهرة السينمائية”، يركّز على تتبّع تحولات المدينة، واقعيًا وسينمائيًا، في ظل ظروف الاقتصاد النيوليبرالي الجديد، وانتشار الأصولية الدينية وتطوراتها، وإثارة علاقة الدين والدولة بالتمدن وتغير أنماط الحياة وأشكالها، وانسحاب هذا على التوترات الطبقية والجندرية، من منتصف القرن العشرين وحتى العقدين الأول والثاني من القرن الحالي. وإن كانت الأفكار قد تمحورت أكثر حول رصد تبدلات أو تغيرات أو تشوهات الأماكن أكثر من أي شيء آخر.

تجلّى هذا في فصل “حداثة مصر الجديدة: التحولات في التمثيل السينمائي لإحدى ضواحي القاهرة في أواخر القرن العشرين”. وكيف تغيّرت مثلًا ضاحية مصر الجديدة، المرصودة على مدى ثلاثة عقود في أفلام “أرض الأحلام” (1993)، و”في شقة مصر الجديدة” (2007)، و”هليوبوليس” (2010). ثم الربط بين الحارة والعمارة أو البناية السكنية كمكانين يمثّلان الكثير من القيم والتقاليد والعادات المرتبطة بشدة بالمجتمع المصري على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين. وذلك برصد وتحليل الحراك الاجتماعي المتغير والفجوة الطبقية في الحارة والعمارة في فيلمي “شارع الحب” (1958)، و”عمارة يعقوبيان” (2006)، في فصل بعنوان “من الحارة إلى العمارة: التحولات الاجتماعية في القاهرة السينمائية”.

وللتأكيد أيضًا على دور المكان، جرى تناول مجموعة أفلام منتقاة تصف أو تصوّر “القهوة” أو المقهى التقليدي، وترصد تحولاته تاريخيًا، من الحقبة الاستعمارية، ومرورًا بحركات الاستقلال القومية ومرحلة الرأسمالية المبكرة، وأخيرًا الرأسمالية الليبرالية الجديدة. وتبيان كيف أن صورة المقهى السينمائية، مثل نظيرتها الحقيقية، خضعت لعملية تحديث وعولمة جعلتها كنموذج مُصغر للمدينة. وذلك في فصل عاشر بعنوان “مقاهي القاهرة السينمائية: الحداثة والعمران والصورة المتغيرة للمدينة”.

أما الفصول من الحادي عشر وحتى الفصل الرابع عشر والأخير، فتكاد تشترك في فكرتين رئيسيتين تتمحوران حول الدين، والتسامح الديني، والصراع الحالي مع الحداثة والأخلاق، وتلك الإشكالية العويصة في المجتمع المصري. ومن ناحية أخرى، تتناول قضايا المرأة وحريتها وحقوقها، وتصوير النساء إجمالًا في السينما المصرية، وتسليط الضوء عليهن في السينما من منتصف القرن الماضي تقريبًا وحتى العقد الأول في هذا القرن. ويمكن لعناوين الفصول أن تعطينا فكرة عريضة عما تضمّنته.

ويناقش فصل “الحداثة وتغيير دور المرأة في القاهرة السينمائية 1959 – 2015” قضايا المرأة من خلال أفلام مثل “أنا حرة” (1959)، و”مراتي مدير عام” (1966)، و”نوارة” (2016)، وأيضًا يحلّل فصل “حق المرأة في المدينة: الفقر في القاهرة السينمائية” ثلاثة أفلام ترصد ثلاثة عقود: “يوم مر ويوم حلو” (1988)، “خلطة فوزية” (2008) و”يوم للستات” (2016).

ويناقش المؤلفان قضايا الدين والمجتمع في فصل “مدينة الألف مئذنة والمليون طبق صناعي: إشكالية الدين في القاهرة السينمائية”، عبر أفلام تصوّر لحظات مهمة، وهي “الشيخ حسن” (1954)، و”لي لي” (2001) و”مولانا” (2016). وأيضًا فصل “التسامح الديني في القاهرة السينمائية على مدى خمسين عامًا”، من خلال فيلمي “حسن ومرقص وكوهين” (1954) و”حسن ومرقص” (2008).