محمد هاشم عبد السلام

لسنوات طويلة، غابت السينما الهندية، الفنية أو المستقلّة، عن المحافل السينمائية الدولية، وظلّ حضورها نادراً في المهرجانات الكبرى، أو غير لافت للانتباه، رغم التاريخ العريق والأسماء اللامعة في مختلف جوانب الصناعة. هذا العام شهد حضوراً قويّاً لها بأكثر من فيلم روائي طويل، إضافة إلى أفلامٍ قصيرة ووثائقية وتحريك، اتّسمت موضوعاتها بجرأة وعمق معالجة وطرح، وتوفّرت على جماليات فنية ملحوظة.

أكثر ما يلفت الانتباه حضور مخرجات هنديات على الساحة، وقد تُوِّج بحصول بايال كاباديا على “الجائزة الكبرى” لمسابقة الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2024) لـ”مهرجان كانّ السينمائي الدولي” عن فيلمها المتميز “كلّ ما نتخيّله كضوء” (العربي الجديد، التاسع من يونيو/ حزيران 2024). في الدورة نفسها، جذب فيلم “سانتوش” لسانديا سُوري الانتباه في قسم “نظرة ما”، وفي مشاركته في مهرجانات أخرى، رغم كونه أول فيلم لمخرجته، المتمكّنة من الكتابة واختيار مواقع التصوير وإدارة الممثلين، وجوانب إخراجية مختلفة، ما يؤكّد موهبتها وحِرفيّتها ومستقبلها الواعد.

من ناحية الموضوع، لم يحد “سانتوش” كثيراً عن سمات أغلب الإنتاجات الهندية الفنية الأخيرة: ابتعاد مُتعمّد عن النمط البووليودي والميلودرامات الهندية المعتادة، وجرأة في تناول موضوعات بالغة الحساسية في المجتمع الهندي، كالفقر والتفاوت الطبقي والطائفية والفساد والتمييز الديني ومشاكل المرأة. وهذا بوعي وفنّيات وجماليات ابتعدت عن المُباشرة والتسطيح والإثارة المجانية. فيه، تُلاحَظ جرأة التناول وذكاء المعالجة، بالتركيز أساساً على الفساد عامة، والتخاذل والتواطؤ في جهاز الشرطة، لا سيما في الأرياف والمناطق الفقيرة النائية.

الأبرز: خروجه عن المُعتاد، بفضحه أفراد الشرطة النسائية. استغلالاً لثغرة في القانون، تضطرّ الأرملة الشابة سانتوش (شاهانا غوسوامي)، لضغط متطلّبات عيش وصعوبات حياة، إلى أنْ ترث مهنة زوجها الراحل. فجأة، من دون استعداد، تقبل أنْ تَحلّ محلّه بين عناصر الشرطة المحلية، في منطقة ريفية شمالي الهند. سريعاً، تجد نفسها وسط عالم تحاول في البداية التعرّف إليه، ثم تحتاط وتكون حذرة ومتحفّظة، كي لا تغرق في مستنقعه. لكنّ هذا العالم يجذبها إليه تدريجياً بقوّته الرهيبة، التي تستحيل مقاومتها. وهذا يُتيح لسانديا سوري فرصة استعراض خبايا هذا العالم المغلق، وسلوكياته الشائنة والمُدانة، من دون افتعال، وبمصداقية شديدة تلامس أحوال الشرطة وسلوكياتها في الهند، وفي العالم.

بحِرفية شديدة، وعبر حبكة درامية وحوارات مكتوبة جيداً، تُقدَّم سانتوش وتطوّر مسار حياتها، والتغيّرات التدريجية التي تطرأ على شخصيّتها، وتمزّقها الداخلي بين نزاهتها ويقظة ضميرها وإنسانيتها، وانزلاقها من دون وعي وانتباه وإرادة إلى المستنقع، والتورّط في فساده وإجرامه. في البداية، لم تتوقّع أنْ تتلقّى رشوة صغيرة مقابل تستّرها على لقاء غراميّ، لكنها تُفاجأ به وتقبله بابتسامة حائرة، وشبه مقتنعة.

بداية مفاجئة ستكون مقدمة لرصد تحوّلها التدريجي، هي التي تجهد في عملها، وتطبيق القانون قدر المستطاع، ووفقاً للإمكانيات والصعوبات والتوترات العرقية والدينية والطائفية، وللتفاوت الاجتماعي في البيئة المحيطة بها. نقطة الانقلاب مشاركتها في التحقيقات الجنائية للإيقاع بالشاب المسلم سليم (أرباز خان)، المشتبه بارتكابه جريمة قتل واغتصاب وتعذيب صبية من طائفة الـ”داليت” في قرية. غرض سعيها الحثيث الإمساك به، وتقديمه إلى العدالة، والاقتصاص منه لأجل الفتاة المغدورة وأهلها المكلومين، والتعويض عن تقصير جهاز الشرطة وتقاعسه في البحث عنها وإنقاذها، خاصة أنّ والدها عبّر عن خشيته من غيابها قبل وفاتها.

نجاح سانتوش في الإيقاع بالشاب بداية انقلاب وتطوّرات مفاجئة لأحداثٍ تتعقّد في النصف الثاني من الفيلم، خاصة مع اتّضاح حقيقة ما جرى، ما يضعها، هي المُشاركة في انتهاكاتٍ، أمام ما يجري في أقسام الشرطة وسلوكياتها، وعلى من يُطبّق القانون، ولمن ينحاز، ما وضعها أمام نفسها، وضرورة اتّخاذها قراراً أخلاقياً ـ إنسانياً حاسماً: المواصلة، أو الفرار من هذا المستنقع الذي سيجرفها من دون شكّ إلى فظائع، وربما جرائم أخرى، مُستقبلاً.

بحبكةٍ متعدّدة الطبقات كهذه، ومُعقّدة في رسم الشخصيات ونسج الخيوط، صوّرت سانديا سُوري ببساطة ومن دون حذلقة وافتعال مدى تعقّد وتشابك العلاقات وتركيبتها الغريبة في المجتمع الهندي، خاصة تلك المتجذّرة في الريف الهندي، وكيف تبدو وفقاً للأحداث عصية على الحلّ والمعالجة والتغيير، في ظلّ جهاز تنفيذي يعمل على ترسيخها. في الوقت نفسه، هناك بناء درامي خطي مُثير ومُشوّق وسريع، مع صعوبة توقّع الأحداث وتطوّرها، وردود فعل الشخصيات. الأداء المتمكّن والمتّزن بإدارتها أكسب الشخصيات عمقاً ومصداقية وإقناعاً. زادت هذا كلّه الخلفية العامة، والبيئة المحيطة بالأحداث وسياقاتها، التي سَهّلت رصد هذه التفاوتات، ومدى بؤس حياة فئات عريضة في مجتمع هائل، على قدر كبير من التعدّدية والتقدّم والتطوّر، الذي له أيضاً وجهٌ آخر، وقاعدة عريضة غير مرئية ومقموعة ومُهملة ومسلوبة الحقوق وأبسط مقوّمات الحياة.